الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن ابن عبّاسٍ: هي طَسْتٌ من ذهبٍ من الجنّة، كان يُغسَل فيه قلوب الأنبياء
(1)
.
وعن وهب: هي روحٌ من روح الله يتكلّم، إذا اختلفوا في شيءٍ أخبرهم ببيان ما يريدون
(2)
.
والثّاني: أنّها معنًى. ويكون معنى قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] أي: في مجيئه إليكم سكينةٌ لكم وطمأنينةٌ.
وعلى الأوّل يكون المعنى: أنّ السّكينة في نفس التّابوت. ويُؤيِّده عطف قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]. قال عطاء بن أبي رباحٍ: {فِيهِ سَكِينَةٌ} هي ما يعرفون من الآيات، فيسكنوا
(3)
إليها
(4)
. وقال قتادة والكلبيُّ: هي من السُّكون، أي طمأنينةٌ من ربِّكم، ففي أي مكانٍ كان التّابوت اطمأنُّوا إليه وسكنوا
(5)
.
قال
(6)
: (وفيها ثلاثة أشياء: للأنبياء معجزةٌ، ولملوكهم كرامةٌ، وهي آية النُّصرة، تخلع قلوبَ الأعداء بصوتها رُعبًا إذا التقى الصَّفّانِ للقتال).
كرامات الأولياء
هي من معجزات الأنبياء، لأنّهم إنّما نالوها على
(1)
رواه الطبري (4/ 470).
(2)
رواه الطبري (4/ 470)، وابن أبي حاتم (2/ 469).
(3)
كذا في النسخ بحذف النون. وفي مصدر المؤلف بإثباتها.
(4)
«تفسير البغوي» (1/ 229).
(5)
المصدر نفسه.
(6)
«المنازل» (ص 67).
أيديهم وسببِ اتِّباعهم، فهي لهم كراماتٌ، وللأنبياء دلالاتٌ. فكرامات الأولياء لا تُعارِض معجزاتِ الأنبياء حتّى يُطلَب الفرقان بينهما، لأنّها من أدلّتهم وشواهدِ صدقهم.
نعم، الفرق بين
(1)
ما للأنبياء وما للأولياء من وجوهٍ كثيرةٍ جدًّا، ليس هذا موضعَ ذكرها. وغيرُ هذا الكتاب أليقُ بها.
فصل
قال
(2)
: (السّكينة الثّانية: هي التي تنطق على ألسنة
(3)
المحدَّثين، ليست هي شيئًا يُملَك، إنّما هي شيءٌ من لطائف صنعِ الحقِّ، تُلْقي على لسان المحدَّث الحكمةَ كما يُلقي الملَكُ الوحيَ على قلوب الأنبياء. وتُنطِق المحدَّثين بنكت الحقائق، مع ترويحِ الأسرار وكشف الشُّبَه).
السّكينة إذا نزلت في القلب اطمأنّ بها، وسكنتْ إليها الجوارح وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقتِ اللِّسانَ بالصّواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللّغو والهُجْر، وكلِّ باطلٍ. قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: كنّا نتحدّث أنّ السّكينة تنطق على لسان عمر وقلبه
(4)
.
(1)
«بين» ليست في ش، د.
(2)
«المنازل» (ص 67).
(3)
ل: «لسان» . وفي «المنازل» : «ألسُن» .
(4)
هذا مرويٌّ عن علي بن أبي طالب، أخرجه عبد الرزاق في «المصنّف» (11/ 222)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (32637)، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (834)، و «فضائل الصحابة» (1/ 330)، والفسوي في «المعرفة» (1/ 461، 462)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 42) وغيرهم.
وكثيرٌ
(1)
ما ينطق صاحب السّكينة بكلامٍ لم يكن عن فكرةٍ منه ولا رويّةٍ، ولا هيَّأَه، ويستغربه هو من نفسه كما يستغرب السّامع له. وربّما لم يعلم بعد انقضائه بما صدر منه.
وأكثر ما يكون هذا عند الحاجة، وصدق الرّغبة من السّائل والمُجالس، وصدقِ الرّغبة منه هو إلى الله، والإسراعِ بقلبه إلى بين يديه وحضرته، مع تجرُّدِه من الهوى، وتجريدِه النّصيحةَ لله ورسوله وعباده، وإزالةِ نفسِه من البين.
ومن جرَّب هذا عرفَ قَدْرَ منفعته وعظَّمها، وساء ظنُّه بما يُحسِن به الغافلون ظنونَهم من كثيرٍ من كلام النّاس.
وقوله: (وليست شيئًا يُملَك)، يعني هي موهبةٌ من الله تعالى ليست بسببيّةٍ ولا كسبيّةٍ، وليست كالسّكينة التي كانت في التّابوت تُنْقَل
(2)
معهم كيف شاؤوا.
وقوله: (تُلقي على لسان المحدَّث الحكمةَ)، أي يجري الصّواب على لسانه.
وقوله: (كما يُلقِي الملَكُ الوحي على قلوب الأنبياء عليهم السلام.
يعني: أنّها بواسطة الملائكة، بحيث تتلقَّي قلوبُ أربابها الحكمةَ عنهم والطُّمأنينة والصّواب، كما أنّ الأنبياء تتلقّى الوحي عن الله تعالى بواسطة الملائكة. ولكن ما للأنبياء مختصٌّ بهم، لا يُشاركهم فيه غيرهم. وهو نوعٌ آخر.
(1)
كذا في الأصول مرفوعًا.
(2)
ش، وهامش د:«تنتقل» .
وقوله: (تُنطِق المحدَّثين بنكت الحقائق، مع ترويح الأسرار وكشف الشُّبه).
قد تقدّم في أوّل الكتاب
(1)
ذكرُ مرتبة المحدَّث، وأنّ هذا التّحديث من مراتب الهداية العشرة، وأنّ المحدَّث هو الذي يُحدَّث في سِرِّه بالشّيء، فيكون كما يُحدَّث به. والحقائق هي حقائق الإيمان والسُّلوك، ونُكَتُها عيونها ومواضع الإشارات منها. ولا ريبَ أنّ تلك تُوجب للأسرار رُوحًا ورَوْحًا تحيا بها وتتنعّم، وتكشِف عنها شُبهاتٍ لا يكشِفها المتكلِّمون ولا الأصوليُّون، فتسكُن الأرواح والقلوب إليها، ولذا سُمِّيت سكينةً. ومن لم يَفُزْ
(2)
من الله بذلك لم تنكشف عنه شبهاته، فإنّها لا يكشِفها إلّا سكينةُ الإيمان واليقين
(3)
.
فصل
قال
(4)
: (السّكينة الثّالثة: هي التي أُنزِلت في قلب النّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين. وهي شيءٌ يجمع نورًا وقوّةً وروحًا، يَسكُن إليه الخائف، ويتسلّى به الحزين والضَّجِر، ويستكين
(5)
إليه العصيُّ والجريء والأبيُّ).
هذا من عيون كلامه وغُرَره الذي تُثنَى عليه الخناصر، وتُعقَد عليه القلوب، ونطقُه به عن ذوقٍ تامٍّ، لا عن علمٍ مجرّدٍ.
(1)
(1/ 61).
(2)
ش، د:«يقر» .
(3)
«واليقين» ليست في د.
(4)
«المنازل» (ص 67).
(5)
ش، د:«ويسكن» .
فذكر أنّ هذا الشّيء أنزله الله في قلب رسوله وقلوب عباده المؤمنين، يشتمل على ثلاثة معانٍ: النُّور، والقوّة، والرُّوح.
وذكر له ثلاث ثمراتٍ: سكون الخائف إليه، وتسلِّي الحزين والضّجر به، واستكانة صاحب
(1)
المعصية والجرأة على المخالفة والإباء إليه.
فبالرُّوح
(2)
الذي فيها: حياةُ القلب، وبالنُّور الذي فيها: استنارتُه وضياؤه وإشراقه، وبالقوّة: ثباته
(3)
وعزمه ونشاطه.
فالنُّور يكشف له عن دلائل الإيمان، وحقائق اليقين، ويُميِّز له بين الحقِّ والباطل، والهدى والضّلال، والغيِّ والرشاد، والشّكِّ واليقين.
والحياة توجب كمالَ يقظته وفطنته
(4)
، وحضورَه وانتباهه من سنة الغفلة، وتأهُّبَه للِّقاء.
والقوّة توجب له الصِّدقَ، وصحّةَ المعرفة، وقَهْرَ داعي الغَيِّ والعَنَت
(5)
، وضبطَ النّفس عن جزَعِها وهلَعِها واسترسالِها في النّقائص والعيوب. ولذلك ازداد بالسّكينة إيمانًا مع إيمانه.
والإيمان يُثمِر له النُّورَ والحياةَ والقوّةَ، وهذه
(6)
الثّلاثة تُثمِره أيضًا،
(1)
ل: «لصاحب» .
(2)
ش، د:«فالبروح» .
(3)
ش، د:«بيانه» .
(4)
ش، د:«وفطنه» . والفَطَن أيضًا مصدر مثل الفطنة.
(5)
ل: «والعيب» .
(6)
«وهذه» ليست في د.
وتُوجب زيادتَه. فهو محفوفٌ بها قبلها وبعدها.
فبالنُّور يَكشِف دلائلَ الإيمان. وبالحياة يتنبَّه من سنة الغفلة، ويصير يقظانَ. وبالقوّة يقهر الهوى والنّفس والشّيطان.
وتلك مواهبُ الرّحمنِ ليست
…
تُحَصَّلُ باجتهادٍ أو بكَسْبِ
ولكن لا غنى عن بذْلِ جهدٍ
…
بإخلاصٍ وجدٍّ لا بلَعْبِ
وفضلُ الله مبذولٌ ولكن
…
بحكمته وعن ذا النّصُّ يُنبِي
فما من حكمة الرّحمن وَضْعُ الـ
…
كواكبِ بين أحجارٍ وتُرْبِ
فشكرًا للّذي أعطاك منه
…
فلو قبل المحلُّ لزادَ ربِّي
(1)
فصل
فإذا حصلت هذه الثّلاثة بالسّكينة ــ وهي النُّور والحياة والرُّوح ــ سكنَ إليها العصيُّ، وهو الذي سكونه إلى المعصية والمخالفة لعدم سكينة الإيمان في قلبه، فلما سكنت سكينةُ الإيمان في قلبه صار سكونه إليها عِوَضَ سكونِه إلى الشّهوات والمخالفات، فإنّه قد وجد فيها مطلوبَه، وهو اللّذّة التي كان يطلبها من المعصية، ولم يكن له ما يُعِيضُه عنها. فمنذُ أُنزِلتْ
(2)
عليه السّكينة اعتاضَ بلذَّتها وروحها ونعيمِها عن لذّة المعصية، فاستراحت بها نفسه، وهاج إليها قلبُه، ووجد فيها من الرُّوح والرّاحة واللّذّة ما لا نسبةَ بينه وبين اللّذّة الجسمانيّة النّفسانيّة، فصارت لذَّاتُه روحانيّةً قلبيّةً بعد أن كانت جسمانيّةً، فأَسْلَتْه عنها وخلَّصتْه، فإذا تألَّقَتْ بُروقُها قال:
(1)
لم أجد الأبيات في مصدر آخر، ولعلها للمؤلف.
(2)
ل: «فهذا نزلت» .
تألَّقَ البرقُ نَجديًّا فقلتُ له
…
يا أيُّها البرقُ إنِّي عنكَ مشغولُ
(1)
وإذا طرقَتْه طيوفُها الخياليّة تمثّل بقوله
(2)
:
طَرقَتْكَ صائدةُ القلوبِ وليس ذا
…
وقتَ الزِّيارةِ فارجعي بسلام
فإذا وَدَّعتْه، وعَزمتْ على الرّحيل، ووعدتْه بالموافاة= تمثَّلَ بقول الآخر
(3)
:
قالت وقد عَزمتْ على تَرحالها
…
ماذا تريد؟ فقلت أن لا تَرْجِعي
فإذا باشرتْ هذه السّكينة قلبَه سكَّنتْ خوفَه، وهو قوله:(يسكُن إليها الخائف)، وسَلَّتْ حزنَه؛ فإنّها لا حزنَ معها. فهي سُلوة المحزون، ومُذهِبة الهموم والغموم. وكذلك تُذهِب عنه وخَمَ ضجرِه، وتَبعث نشوةَ العزم، وحالت بينه وبين الجرأة على مخالفة الأمر، وبين إباء النّفس للانقياد إليه.
فصل
قال
(4)
: (وأمّا سكينة الوقار التي نزَّلها نعتًا لأربابها: فإنّها ضياء تلك السّكينة الثّالثة التي ذكرناها، وهي على ثلاث درجاتٍ. الدّرجة الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة: رعايةً، وتعظيمًا، وحضورًا).
فسكينة الوقار هي
(5)
نوعٌ من السّكينة، ولكن لمّا كانت موجبةً للوقار سمّاها الشّيخ رحمه الله سكينة الوقار.
وقوله: (نزّلها نعتًا)، يعني نزَّلها الله في قلوب أهلها، ونَعتَهم بها.
وقوله: (فإنّها ضياء تلك
(1)
البيت بلا نسبة في «الزهرة» (1/ 353)، ولأحد الخوارج في «معجم البلدان» (5/ 264)، ولأعرابي في «الحماسة البصرية» (3/ 988). وانظر:«شعر الخوارج» (ص 203). وذكر المؤلف في «بدائع الفوائد» (1/ 190) أن شيخ الإسلام كثيرًا ما كان يتمثل به.
(2)
البيت لجرير في «ديوانه» (ص 452).
(3)
ل: «القائل» . والبيت للملك المعظم شرف الدين عيسى بن العادل في «شذرات الذهب» (5/ 115)، قاله في الحمَّى. وهو مع آخر في «زاد المعاد» (4/ 38).
(4)
«المنازل» (ص 68).
(5)
«هي» ليست في ش، د.