الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمّا إخلاؤه للسّمع فهو يتضمّن إخلاءه من شيءٍ، وإخلاءه لشيءٍ
(1)
. فيُخلِيه من استماعه ذِكْرَ الغير، ويُخلِيه لاستماعه أوصافَ المحبوب وذكْرَه وحديثَه. وقد يقوى إلى أن يبعد بين قلب صاحبه وبين إدراك الحواسِّ؛ لانقهار الحسِّ لسلطان القلَق.
وقوله: (ويُطاوِل الطّاقة) يعني: يُصابرها ويقاومها، فلا تَقدر طاقةُ الاصطبار على دفعه وردِّه.
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة
الثّالثة: قلقٌ لا يرحم أبدًا
، ولا يقبل أمدًا، ولا يُبقِي أحدًا).
يريد: أنّ هذا القلق له القهر والغلبة، لأنّه ربّما كان عن شهودٍ، فإذا عَلِقَ بالقلب لم يبقَ عليه حتّى يُلقِيَه في فناء الشُّهود.
(ولا يقبل أمدًا)، أي لا يقبل حدًّا ومقدارًا يقف عنده وينقضي به، كما ينقضي ذو الأمد، فإنّه حاكمٌ غير محكومٍ عليه، مالكٌ للقلب غير مملوكٍ له.
(ولا يُبقي أحدًا)، أي
(3)
يُلقي صاحبَه في الشُّهود الذي تفنى فيه الرُّسوم وتضمحلُّ، فلا يُبقِي معه على أحدٍ رسمَه حتّى
(4)
يفنِيه.
* * * *
(1)
ت: «بشيء» .
(2)
«المنازل» (ص 75).
(3)
ش: «أن» .
(4)
ش: «حين» .
فصل
ثمّ يقوى هذا القلقُ ويتزايد حتّى يُورث القلبَ حالةً شبيهةً بشدّة ظمإ الصَّادي الحرَّان إلى الماء، وهذه الحالة هي التي يُسمِّيها صاحب «المنازل»
(1)
العطش، واستشهد عليه بقوله تعالى عن الخليل:{(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]. كأنّه أخذ من إشارة الآية: أنّه لشدّة عطَشِه إلى لقاء محبوبه لمّا رأى الكوكبَ قال: هذا ربِّي، فإنّ العطشان إذا رأى السَّراب ذكَّره الماء، فاشتدَّ عطشُه إليه.
وهذا ليس معنى الآية قطعًا، وإنّما القوم مُولَعون بالتعلُّق بالإشارات. وإلّا فالآية قد قيل
(2)
: إنّها على تقدير الاستفهام، أي أهذا ربِّي؟ وليس بشيءٍ.
وقيل: إنّها على وجه إقامة الحجّة على قومه، فتصوَّرَ بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول، ثمّ توسَّلَ بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنّه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصًا آفلًا، فإنّ المعبود الحقّ لا يجوز أن يَغيب عن عابديه وخَلْقِه ويأفِل عنهم، فإنّ ذلك مُنافٍ لربوبيّته لهم. أو أنّه انتقل في مراتب الاستدلال على المعبود حتّى أوصلَه الدّليلُ إلى الذي فطر السّماوات والأرض، فوجَّه إليه وجهَه حنيفًا موحِّدًا، مُقبِلًا عليه، مُعرِضًا عمّا سواه.
(1)
(ص 75).
(2)
انظر هذا القول وأقوالًا أخرى في تفسير الآية في «تفسير البغوي» (2/ 110).