الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدهما: أنّها اسمٌ لمدّة بقاء هذا
(1)
العالم.
والثّاني: أنّها اسمٌ لما بين السّماء والأرض، فما فوق السّماء ليس من الدُّنيا، وما تحت الأرض ليس منها.
فعلى الأوّل: تكون الدُّنيا زمانًا. وعلى الثّاني: تكون مكانًا.
ولمّا كان لها تعلُّقٌ بالجوارح والقلب واللِّسان، كان
حقيقة الفقر:
تعطيل
(2)
هذه الثّلاثة عن تعلُّقها بها وسَلْبها منها، فلذلك قال:(قبض اليد عن الدُّنيا ضبطًا أو طلبًا). يعني يقبض يدَه عن إمساكها إذا حصلت له، فإذا قبض يدَه عن الإمساك جاد بها. وإن كانت غير حاصلةٍ له كفَّ يدَه عن طلبها، فلا يطلب معدومها، ولا يبخل بموجودها.
وأمّا تعطيلها عن
(3)
اللِّسان: فأن
(4)
لا يمدحها ولا يذمّها، فإنّ اشتغاله بمدحها أو ذمِّها دليلُ محبّتها ورغبته فيها، فإنّ من أحبّ شيئًا أكثر من ذكرِه. وإنّما اشتغل بذمِّها حيث فاتته، كمن طلب العنقود فلم يصل إليه، فقال: هو حامضٌ. ولا يتصدّى لذمِّ الدُّنيا إلّا راغبٌ محبٌّ مفارقٌ، فالواصل
(5)
مادحٌ، والمفارق ذامٌّ.
(1)
«هذا» ليست في ش.
(2)
ل: «تعطل» .
(3)
د: «من» .
(4)
ش، د:«فإنه» .
(5)
ل: «فالمواصل» .
وأمّا تعطيل القلب منها: فبالسّلامة من آفات طلبها وتركها. فإنّ لطلبها آفات، ولتركها آفات، والفقر سلامة القلب من آفات الطّلب والتّرك، بحيث لا تَحجُبه عن ربِّه بوجهٍ من الوجوه الظّاهرة والباطنة، لا في طلبها وأخذها، ولا في تركها والرّغبة عنها.
فإن قلت: عرفتُ الآفة في أخذها وطلبها، فما وجه الآفة في تركها والرّغبة عنها؟
قلت: من وجوهٍ شتّى:
أحدها: أنّه إذا تركها ــ وهو بشرٌ لا ملكٌ
(1)
ــ تعلّق قلبه بما يُقِيمه ويُقِيتُه
(2)
ويُعِيشه وما
(3)
هو محتاجٌ إليه، فيبقى في مجاهدةٍ شديدةٍ مع نفسه لتركِ معلومها وحظِّها من الدُّنيا. وهذه قلّة فقهٍ في الطّريق، بل الفقيه العارف يردُّها عنه
(4)
بلقمةٍ، كما يردُّ الكلبَ إذا نبحَ عليه بكسرةٍ، ولا يقطع زمانَه بمجاهدته ومدافعته، بل أعطاها
(5)
حظَّها، وطالبَها بما عليها من الحقِّ.
هذه طريقة الرُّسل
(6)
صلّى الله عليهم وسلّم، وهي طريقة العارفين من أرباب السُّلوك، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ لنفسِك عليك حقًّا، ولزوجِك عليك
(1)
ل: «ملك له» .
(2)
ل: «يعينه» .
(3)
الواو ساقطة من ش، د.
(4)
ل: «عنها» .
(5)
ش، د:«أعطها» .
(6)
ل: «رسول الله» .
حقًّا، ولضيفك عليك حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه»
(1)
.
والعارف البصير يجعل عوضَ مجاهدتِه لنفسه في ترك شهوةٍ مباحةٍ: مجاهدتَه لأعداء الله من شياطين الإنس والجنِّ، وقُطّاعِ الطّريق على القلوب، كأهل البدع من بني العلم وبني
(2)
الإرادة، ويستفرغ قواه في حربهم ومجاهدتهم، ويتقوّى على حربهم بإعطاء النّفس حقَّها من المباح، ولا يشتغل بها.
ومن آفات التّرك: تطلُّعه إلى ما في أيدي النّاس إذا مسّته
(3)
الحاجة إلى ما تركه، فاستدامتُها كان أنفعَ له من هذا التّرك.
ومن آفات تركِها وعدمِ أخذها: ما يداخله من الكبر والعُجْب والزّهو. وهذا يقابل الزُّهدَ فيها وترْكَها، كما أنّ كَسْرة
(4)
الأخذ وذلّته
(5)
وتواضعه يقابل الأخذ، ففي الأخذ آفاتٌ، وفي التّرك آفاتٌ.
فالفقر الصّحيح: السّلامة من آفات الأخذ والتّرك، وهذا لا يحصل إلّا بفقهٍ في الفقر.
قوله: (فهذا هو الفقر الذي تكلّموا في شرفه). يعني تكلّم فيه أرباب السُّلوك وفضّلوه ومدحوه.
(1)
أخرجه البخاري (1968، 6139) من حديث سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
(2)
ل: «ولفي» ، وهو خطأ. فالمقصود هنا: أصحاب العلم وأصحاب الإرادة.
(3)
ش، د:«مسه» .
(4)
ل: «كثرة» . والكسرة: بمعنى الانكسار.
(5)
ل: «وذله به» .
(الدّرجة الثّانية: الرُّجوع إلى السَّبق بمطالعة الفَضْل. وهو يُورِث الخلاصَ من رؤية الأعمال، ويقطع شهودَ الأحوال، ويُمحِّص من أدناس مطالعة المقامات)
(1)
.
يريد بالرُّجوع إلى السّبق: الالتفات إلى ما سبقت به السّابقة من الله بمطالعة فضله ومنّته وجوده، وأنّ العبد وكلّ ما فيه من خيرٍ فهو محضُ جود الله وإحسانه. وليس للعبد من ذاته سوى العدم، وذاتُه وصفاته وإيمانه وأعماله كلُّها من فضل الله له. فإذا شهدَ هذا وأحضرَه قلبه وتحقَّق به: خلَّصه من رؤية أعماله، فإنّه لا يراها إلّا من الله وبالله، وليست منه هو
(2)
ولا به.
واتّفقتْ كلمة الطّائفة على أنّ رؤية الأعمال حجابٌ بين العبد وبين الله، ويُخلِّصه منها شهودُ السَّبق ومطالعةُ الفضل.
وقوله: (ويقطع شهودَ الأحوال).
لأنّه إذا طالع سبْقَ فضْلِ الله علم أنّ كلّ ما حصل له من حالٍ أو غيره فهو محضُ جُودِه، فلا يشهد له حالًا مع الله ولا مقامًا، كما لم يشهد له عملًا. فقد جعل عُدَّتَه للقاء ربِّه فقْرَه من أعماله وأحواله، فهو لا يَقْدَم عليه إلّا بالفقر المحض، وهو العلاقة التي بينه وبين ربِّه، والنِّسبة التي يُنسَب بها إليه، والباب الذي يدخل منه عليه.
وكذلك قوله: (يُمحِّص من أدناس مطالعة المقامات).
هو من جنس التّخلُّص من رؤية الأعمال، والانقطاعِ عن رؤية شهود
(1)
«المنازل» (ص 56).
(2)
«هو» ليست في د.
الأحوال. ومطالعةُ المقامات دَنَسٌ عند هذه الطّائفة، فمطالعةُ الفضل يُمحِّص من هذا الدّنس.
والفرق بين الحال والمقام: أنّ الحال معنًى يَرِد على القلب من غير اجتلابٍ له ولا اكتسابٍ ولا تعمُّدٍ. والمقام يُتوصَّل إليه بنوع كسبٍ وطلبٍ.
فالأحوال عندهم مواهبُ، والمقامات مكاسبُ. فالمقام يحصل ببذل المجهود، وأمّا الحال فمن عين الجود.
ولمّا دخل الواسطيُّ نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان رحمه الله: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطّاعات، ورؤيةِ التّقصير فيها. فقال: أمركم بالمجوسيّة المحضة. هلّا أمركم بالغَيْبة عنها برؤية مُنشئِها ومُجرِيها؟
قلت: لم يأمرهم أبو عثمان رحمه الله إلّا بالحنيفيّة المحضة، وهي القيام بالأمر ومطالعة التّقصير فيه. وليس في هذا من رائحة المجوسيّة شيءٌ، فإنّه إذا بذل الطّاعة لله وبالله صانَه ذلك عن الاتِّحاد والشِّرك، وإذا شهد تقصيره فيها صانَه عن الإعجاب، فيكون قائمًا بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وأمّا ما أشار إليه الواسطيُّ رحمه الله: فمشهد الفناء. ولا ريبَ أنّ مشهد
(1)
البقاء أكمل منه، فإنّ من غاب عن طاعاته لم يشهد تقصيرَه فيها، ومن تمام العبوديّة شهودُ التّقصير. فمشهد أبي عثمان رحمه الله أتمُّ من مشهد الواسطيِّ.
وأبو عثمان هذا هو سعيد بن إسماعيل النّيسابوريُّ من جلّة شيوخ القوم وعارفيهم. وكان يقال: في الدُّنيا ثلاثةٌ، لا رابعَ لهم: أبو عثمان بنيسابور، والجنيد
(1)
ل: «من شهد» .
ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلا بالشّام
(1)
. وله كلامٌ رفيعٌ عالٍ في التّصوُّف والمعرفة، وكان شديدَ الوصيّة باتِّباع السُّنّة، وتحكيمها
(2)
ولزومها. ولمّا حضرتْه الوفاة مزَّق ابنُه قميصًا على نفسه، ففتح أبو عثمان عينيه وهو في السِّياق، فقال: يا بُنيَّ خلافُ السُّنّة علامة في الظّاهر، رياء في الباطن
(3)
.
فصل
قال
(4)
: (الدّرجة الثّالثة: صحة
(5)
الاضطرار، والوقوع في يد
(6)
التّقطُّع الوحدانيِّ، والاحتباس في بَيداءِ قَيْد التّجريد. وهذا فقر الصُّوفيّة).
الاضطرار: شهود كمال الضّرورة والفاقةِ علمًا وحالًا.
ويريد بالوقوع في يد التّقطُّع الوحدانيِّ: حضرة الجمع التي ليس عندها أغيارٌ، فهي منقطعةٌ عن الأغيار، وحدانيّةٌ بنفسها. والوقوع في يدها: الاستسلام والإذعان لها، والدُّخول في رِقِّها.
وقد تقدَّم أنّ حضرة الجمع عندهم هي شهود الحقيقة الكونيّة، ورؤيتها بنور الكشف، حيث يشهدها منشأ جميع الكائنات، والكائنات عدمٌ بالنِّسبة إليها.
(1)
انظر: «الرسالة القشيرية» (ص 157)، و «طبقات الصوفية» للسلمي (ص 176).
(2)
ل: «وتحكمها» .
(3)
كذا في جميع النسخ. وفي «الرسالة القشيرية» (ص 158): «خلاف السنة في الظاهر، علامة رياء في الباطن» . ونحوه في «حلية الأولياء» (10/ 259).
(4)
«المنازل» (ص 56).
(5)
«صحة» ليست في ل.
(6)
د: «بيداء» .