الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى يُحِبُّ أن يُشْكَر، كما قال موسى
(1)
: «يا ربِّ، هلّا سَوَّيتَ بين عبادك؟ فقال: إنِّي أحبُّ أن أُشْكَر»
(2)
.
وإذا كان يُحِبُّ الشُّكر فهو أولى أن يتّصف به، كما أنّه سبحانه وِتْرٌ يحبُّ الوتر، جميلٌ يحبُّ الجمال، مُحسِنٌ يحبُّ المحسنين، صَبورٌ يحبُّ الصّابرين، عفوٌّ يحبُّ العفو، قويٌّ والمؤمن القويُّ أحبُّ إليه من المؤمن الضّعيف= فكذلك هو شكورٌ يحبُّ الشّاكرين. فملاحظةُ العبد سبْقَ الفضل تُشهِده صفةَ الشُّكر، وتبعثُه على القيام بفعل الشُّكر. والله أعلم.
فصل
قال
(3)
:
(الدّرجة الثّانية: ملاحظة نور الكشف
. وهي تُسبِل لباسَ التّولِّي، وتُذِيق طعْمَ التّجلِّي، وتَعصِم عن
(4)
عُوارِ التّسلِّي).
هذه الدّرجة أتمُّ ممّا قبلها، فإنّ تلك الدّرجة ملاحظة ما سبق بنور العلم، وهذه ملاحظةُ كشفٍ بحالٍ قد استولى على قلبه، حتّى شَغَلَه عن الخلق، فأسبلَ عليه لباسَ تولِّيه لله
(5)
وحدَه وتولِّيه عمّا سواه.
(1)
كذا في النسخ، والصواب أنه آدم عليه السلام كما في مصادر التخريج، وكما ذكره المؤلف في كتاب «الروح» (2/ 457)، و «مفتاح دار السعادة» (1/ 16).
(2)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «المسند» (21232)، والطبري في «تفسيره» (10/ 557)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 323)، والضياء في «المختارة» (1158) من طرقٍ عن أُبي بن كعب موقوفًا.
(3)
«المنازل» (ص 81).
(4)
ر: «من» .
(5)
ر، ت:«الله» .
ونورُ الكشف عندهم هو مبدأ الشُّهود، وهو نورُ تجلِّي
(1)
معاني الأسماء الحسنى على القلب، فتضيء به ظلمة القلب، ويرتفع به حجابه الكثيف
(2)
.
ولا تلتفِتْ إلى غير هذا، فتَزِلَّ قدمٌ بعد ثبوتها، فإنّك تجد في كلام بعضهم: تجلِّي الذّات يقتضي كذا وكذا، وتجلِّي الصِّفات يقتضي كذا
(3)
، وتجلِّي الأفعال يقتضي كذا. والقوم عنايتهم بالمعاني أكثر من عنايتهم
(4)
بالألفاظ، فيتوهّم المتوهِّم أنّهم يريدون تجلِّي حقيقة الذّات والصِّفات والأفعال للعيان، فيقع من يقع منهم في الشَّطَحات والطَّامّات.
والصّادقون العارفون بُرَأَئُ من ذلك، وإنّما يشيرون إلى كمال المعرفة، وارتفاعِ حُجُب الغفلة والشّكِّ والإعراض
(5)
، واستيلاءِ سلطان المعرفة على القلب، بمحْوِ
(6)
شهود السِّوى بالكلِّية، فلا يشهد القلب سوى معروفه.
ويُنظِّرون هذا بطلوع الشّمس، فإنّها إذا طلعت انطمَسَ نورُ الكواكب، ولم تُعدَم الكواكب، وإنّما غَطّى عليها نور الشّمس، فلم يظهر لها وجودٌ، وهي في الواقع موجودةٌ في مكانها
(7)
. هكذا نور المعرفة إذا استولى على
(1)
ش، ر:«نور على» .
(2)
ر: «حجاب الكشف» .
(3)
ر، ت:«كذا وكذا» .
(4)
«بالمعاني أكثر من عنايتهم» ليست في ر.
(5)
ت: «الاعتراض» .
(6)
ر، ت:«يمحق» .
(7)
ش: «إمكانها» . ر، ت:«أماكنها» .
القلب، وقوي سلطانها، وزالت الموانع والحُجُب عن القلب. ولا يُنِكر هذا إلّا من ليس من أهله.
ولا يَعتقد أنّ الذّات المقدّسة والأوصاف برزَتْ وتجلَّتْ للعبد كما تجلّى سبحانه للطُّور، وكما يتجلّى للناس يومَ القيامة= إلّا غالطٌ فاقدٌ للعلم. وكثيرًا ما يقع الغلط من التّجاوز من نور العبادات والرِّياضة والذِّكر
(1)
إلى نور الذّات والصِّفات. فإنّ العبادة الصّحيحة والرِّياضة الشّرعيّة والذِّكر المتواطئ عليه القلب واللِّسان يُوجِب نورًا على قدر قوّته وضعفه، وربّما قوي ذلك النُّور حتّى يشاهد بالعيان، فيغلط فيه ضعيف العلم والتّمييز بين خصائص الرُّبوبيّة ومقتضيات العبوديّة، فيظنُّه نور الذّات، وهيهات ثمّ هيهات! نور الذّات لا يقوم له شيءٌ، ولو كشفَ سبحانه الحجابَ عنه لتَدكْدَكَ العالم كلُّه، كما تدكدكَ الجبلُ وساخَ لمّا ظهر له ذلك القدر اليسير من التّجلِّي.
وفي «الصّحيح»
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفِضُ القِسطَ ويرفعه. يُرفَع إليه عمل اللّيلُ قبلَ النّهار، وعمل النّهار قبل اللّيل. حجابه النُّور، لو كشَفَه لأحرقَتْ سُبُحاتُ وجهِه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه» .
فالإسلام له نورٌ، والإيمان له نورٌ أقوى منه، والإحسان له نورٌ أقوى منهما. فإذا اجتمع نور الإسلام والإيمان والإحسان، وزالت الحُجُب
(1)
ت: «في الذكر» .
(2)
رواه مسلم (179) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.