الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الفقر
. هذه المنزلة من أشرف منازل الطّريق وأعلاها وأرفعها، بل هي روح كلِّ منزلةٍ وسرُّها ولبُّها وغايتها.
وهذا إنّما يُعرف بمعرفة حقيقة الفقر. والّذي تريد به هذه الطّائفة أخصّ من معناه الأصليِّ، فإنّ لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاث مواضع.
أحدها: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسِبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] أي الصّدقات لهؤلاء. وكانوا فقراء المهاجرين نحو أربعمائةٍ، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، وكانوا قد حبسوا أنفسَهم على الجهاد في سبيل الله، فكانوا وقفًا على كلِّ سريّةٍ يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل الصُّفّة. هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله
(1)
.
وقيل: هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله.
وقيل: حبسهم الفقر والعُدْم عن الجهاد في سبيل الله.
وقيل: لمّا عَادَوا أعداءَ الله وجاهدوهم في الله أُحصِروا عن الضّرب في الأرض لطلب المعاش، فلا يستطيعون ضربًا في الأرض.
(1)
انظر هذا القول والأقوال الآتية في «تفسير البغوي» (1/ 259)، والمؤلف صادر عنه. وانظر:«زاد المسير» (1/ 327، 328).
والصّحيح: أنه ــ لفقرهم وعجزهم وضعفهم ــ لا يستطيعون ضربًا في الأرض، ولكمال عفّتهم وصيانتهم يحسبُهم من لم يعرف حالَهم أغنياء.
والموضع الثّاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60].
والموضع الثّالث: قوله تعالى: {النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ} [فاطر: 15].
فالصِّنف الأوّل: خواصُّ الفقراء. والثّاني: فقراء المسلمين خاصُّهم وعامُّهم. والثّالث: الفقر العامُّ لأهل الأرض كلِّهم: غنيِّهم وفقيرِهم، مؤمنِهم وكافرِهم.
فالفقراء الموصوفون في الآية الأولى: يقابلهم أصحاب الجِدَة
(1)
، ومن ليس مُحصَرًا في سبيل الله، ومن لا يكتم فقره تعفُّفًا. فمقابلهم أكثر من مقابل الصِّنف الثّاني.
والصِّنف الثّاني: يقابلهم الأغنياء أهل الجِدَة. ويدخل فيهم المتعفِّف وغيره، والمُحصَر في سبيل الله وغيره.
والصِّنف الثّالث: لا مقابلَ لهم. بل الله وحدَه الغنيُّ، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه.
ومراد القوم بالفقر شيءٌ
(2)
أخصُّ من هذا كلِّه. وهو تحقيق العبوديّة
(1)
الجِدة: الغِنى.
(2)
«شيء» ليست في ش، د.
والافتقار إلى الله تعالى في كلِّ حالةٍ.
وهذا المعنى أجلُّ من أن يسمّى فقرًا، بل هو حقيقة العبوديّة ولبُّها، وعزْلُ النّفس عن مزاحمة الرُّبوبيّة.
وسئل عنه يحيى بن معاذٍ رضي الله عنه فقال: حقيقته أن لا يستغني إلّا بالله، ورسمُه: عدمُ الأسبابِ كلِّها
(1)
.
يقول: عدم الوثوق بها والوقوف معها. وهو كما قال بعض المشايخ: شيءٌ
(2)
لا يضعه الله إلّا عند من يحبُّه، ويسوقه إلى من يريد
(3)
.
وسئل رُوَيمٌ عن الفقر؟ فقال: إرسال النّفس في أحكام الله
(4)
.
وهذا إنّما يُحمَد في إرسالها في أحكامه الدِّينيّة والقدريّة التي لا يُؤمَر بمدافعتها والتّحرُّز منها.
وسئل أبو حفصٍ: بما
(5)
يَقدَم الفقيرُ على ربِّه؟ فقال: وما للفقير أن يقدَم على ربِّه بسوى
(6)
فقرِه
(7)
.
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 572).
(2)
كذا في ل. وفي «الرسالة القشيرية» : «سِرٌّ» . وليست في ش، د.
(3)
كذا في ل. وفي ش، د شطب على «لا» و «إلا». وفي «القشيرية» (ص 572):«لا يضع سِرَّه عند من يحمله إلى من يزيد (أو يريد). وفي «اللمع» (ص 202): «لا يضعه عند من يُفشِيه» .
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 573).
(5)
كذا في الأصول. وفي «القشيرية» : «بماذا» .
(6)
ل: «سوى» .
(7)
«الرسالة القشيرية» (ص 574).