الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد يُبقي على واجده أثرًا من أحكامه بعد مفارقته، وقد لا يُبقِي. والظّاهر: أنّه لا بدَّ أن يُبقِي أثرًا، لكن قد يخفى وينغمر بما يَعقُبه بعده ويَخلُفه من أضداده.
فصل
(الدّرجة
الثّانية: وجدٌ تستفيق له الرُّوح
بلَمْعِ نورٍ أزليٍّ، أو سماعِ نداءٍ أوّليٍّ، أو جذبٍ حقيقيٍّ. إن أبقى على صاحبه لباسَه، وإلّا أبقى عليه نورَه)
(1)
.
إنّما كان هذا الوجد أعلى من الوجد الأوّل، لأنّ محلَّ اليقَظةِ فيه هو الرُّوح، ومحلَّها في الأوّل السّمعُ والبصر والفكر. والرُّوح هي الحاملة للسّمع والبصر والفكر. وهذه أوصافٌ من صفاتها.
وأيضًا فلِعُلُوِّ وجدِ الرُّوح سببٌ آخر، وهو علوُّ متعلَّقه، فإنّ متعلَّق وجْدِ السّمع والبصر والفكر: الآياتُ والبصائر، ومتعلَّق وجْدِ الرُّوح: تعلُّقها بالمحبوب لذاته. ولذلك جعل سببه «لَمْع نورٍ أزليٍّ» ، يعني شهودها لَمْعَ نور الحقيقة الأزليِّ، وهذا الشُّهود لا حظَّ فيه للسّمع ولا للبصر ولا للفكر، بل تستنير به الأسماع والأبصار، لأنّ
(2)
الرُّوح لمّا استنارت بهذه اليقظة والإفاقة أتمَّ استنارةٍ استنارتْ بنورها الأسماع والأبصار، لا سيّما وصاحبها في هذه الحال إنّما يسمع بالله ويبصر به. وإذا كان سمعه وبصره وبطشه بالله، فما الظّنُّ بحركة روحه وقلبه وأحكامها؟
قوله: (أو سَماع نداءٍ أوّليٍّ)، إن أراد به تعرُّفَ الحقِّ تعالى إلى عباده
(1)
«المنازل» (ص 76).
(2)
ت: «لكن» .
بواسطة الخطاب على ألسنة رسله ــ وهذا هو الخطاب الأوَّليّ ــ فصحيحٌ. وإن أراد به خطاب الملك له فليس بخطابٍ أوَّليٍّ. وإن أراد ما يسمعه في نفسه من الخطاب فهو خطابٌ وهميٌّ وإن ظنَّه أوَّليًّا، فإيّاك والأوهام والغرور.
ونحن لا ننكر الوجود، ولا ندفع الشُّهود، وإنّ
ما نتكلّم مع القوم في مرتبته ومَنْشَئه، ومن أين بدأ؟ وإلى من يعود؟ فلا ننكر واعظَ الله في قلب عبده المؤمن
(1)
الذي يأمره وينهاه، ولكن ذاك في قلب كلِّ مؤمنٍ جعله الله واعظًا له، يأمره وينهاه، ويناديه ويُحذِّره، ويُبشِّره وينذره. وهو الدّاعي الذي يدعو فوق الصِّراط. والدّاعي على رأس الصِّراط كتاب الله. كما في «المسند» والتِّرمذيِّ
(2)
من حديث النّوّاس بن سَمْعان رضي الله عنه عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ضربَ الله مثلًا: صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتَي الصِّراط سُورانِ، وفي السُّورين أبوابٌ مفتّحةٌ، وعلى الأبواب سُتورٌ مُرخاةٌ، وداعٍ يدعو على رأس الصِّراط، وداعٍ يدعو فوق الصِّراط. فالصِّراط المستقيم: الإسلام، والأبواب المفتّحة: محارم الله، فلا يقع أحدٌ في حدٍّ من حدود الله حتّى يكشف السِّتر. والدّاعي على رأس الصِّراط: كتاب الله. والدّاعي فوق الصِّراط: واعظُ الله في قلب كلِّ مؤمنٍ» .
فما ثَمَّ خطابٌ قطُّ إلّا من جهةٍ من هاتين: إمّا خطاب القرآن، وإمّا خطاب هذا الواعظ.
(1)
«ومن أين بدأ
…
المؤمن» ساقطة من ت.
(2)
رواه أحمد (17634، 17636)، والترمذي (2859)، والنسائي في «الكبرى» (11169). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الحاكم (1/ 73).