الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الإحسان
. وهي لبُّ الإيمان وروحه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميعَ المنازل، فجميعها منطويةٌ فيها. وكلُّ ما قيل من أوّل الكتاب إلى هاهنا فهو من الإحسان.
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(1)
ــ وقد استشهد على هذه المنزلة بقوله تعالى: {(59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا} [الرحمن: 60]ــ: (فالإحسان: جامعٌ لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنّك تراه).
فأمّا الآية، فقال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما والمفسِّرون: هل جزاء من قال: لا إله إلّا الله وعمل بما جاء به محمّدٌ صلى الله عليه وسلم إلّا الجنّة؟
(2)
.
وقد رُوي عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ {(59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا} ثمّ قال: «هل تدرون ما قال ربُّكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:(يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتّوحيد إلّا الجنّة؟)
(3)
.
(1)
(ص 60).
(2)
انظر: «تفسير البغوي» (4/ 276)، و «الدر المنثور» (14/ 150).
(3)
أخرجه البغوي في «تفسيره» (4/ 276) من حديث أنس رضي الله عنه، وفي إسناده بشر بن الحسين وهو متروك، بل قال أبو حاتم: يكذب على الزبير. وقال الدارقطني: يروي عن الزبير بواطيل، والزبير ثقة، والنسخة موضوعة. وفي الباب عن ابن عمر وجابر وعلي بن أبي طالب. انظر:«الدر المنثور» (14/ 149، 150)، و «السلسلة الضعيفة» (4984).
وأمّا الحديث فإشارةٌ إلى كمال الحضور مع الله ومراقبته، الجامع لخشيته ومحبّته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان.
قال
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ. الدّرجة الأولى: الإحسان في القصد، بتهذيبه علمًا، وإبرامه عزمًا، وتصفيته حالًا).
يعني: إحسان القصد بثلاثة أشياء:
أحدها: تهذيبه علمًا، بأن يُجعل تابعًا للعلم على مقتضاه، مهذّبًا به، مُنقًّى من شوائب الحظوظ، فلا يَقصِد إلّا ما يجوز في العلم. والعلم هو اتِّباع الأمر والشّرع.
والثّاني: إبرامه عزمًا. والإبرام: الإحكام والقوّة. أي يُقارِنه عزمٌ يُمضِيه، ولا يصحَبه فتورٌ وتَوانٍ يُضعِفه ويُوهِنه.
الثّالث: تصفيته حالًا. أي
(2)
يكون حال صاحبه صافيًا من الأكدار والشّوائب التي تدلُّ على كَدَر قصده، فإنّ الحال مظهر القصد وثمرتُه، وهو أيضًا مادّته وباعثه، فكلٌّ منهما ينفعل عن الآخر. فصفاؤه وتخليصه من تمام صفاء الآخر وتخليصه.
(الدّرجة الثّانية: الإحسان في الأحوال. وهو أن يراعيها غيرةً، ويسترها تظرُّفًا، ويصحِّحها تحقيقًا)
(3)
.
(1)
«المنازل» (ص 60).
(2)
ش: «أن» .
(3)
«المنازل» (ص 60). والأفعال فيه بصيغة الخطاب: «تراعيها» و «تسترها» و «تصححها» .
يريد بمراعاتها حفظَها وصونَها، غيرةً عليها أن تحول، فإنّها تمرُّ مرَّ السّحاب، فإن لم يَرْعَ حقوقَها حالت. ومراعاتها: بدوام الوفاء، وتجنُّب الجفاء.
ويراعيها أيضًا بإكرام نُزُلِها، فإنّها ضيفٌ، والضّيف إن لم يُكْرَم نُزُلُه ارتحل.
ويراعيها أيضًا بضبطِها ملكةً، وشدِّ يديه عليها، وأن لا يسمح بها لقاطعٍ ولا نَاهبٍ.
ويراعيها أيضًا بالانقياد إلى حكمها، والإذعانِ لسلطانها إذا وافق الأمر.
ويراعيها أيضًا بستْرِها تظرُّفًا، وهو أن يسترها عن النّاس ما أمكنَه لئلّا يعلموا بها، ولا يُظهرها إلّا لحجّةٍ أو حاجةٍ أو مصلحةٍ راجحةٍ، فإنّ في إظهارها بدون ذلك آفاتٍ عديدةً، مع تعريضها للُّصوص والسُّرّاق والمُغِيرين.
وإظهار الحال للنّاس عند الصّادقين حمقٌ وعجزٌ، وهو من حظوظ النّفس والشّيطان. وأهل الصِّدق والعزم لها أستَرُ وأكتَمُ من أرباب الكنوز من الأموال لأموالهم، حتّى إنّ منهم من يُظهِر أضدادها نفيًا وجحدًا، وهم أصحاب الملامة، ولهم طريقةٌ معروفةٌ، وكان شيخ هذه الطّائفة أبو عبد الله
(1)
بن مَنازل.
(1)
كذا في النسخ. والصواب: أبو محمد عبد الله بن منازل، شيخ الملامتية، صحب حمدونًا القصار، وكان عالمًا كتب الحديث الكثير. مات بنيسابور سنة تسع وعشرين ــ أو ثلاثين ــ وثلاث مئة. انظر:«الرسالة القشيرية» (ص 199)، و «طبقات الصوفية» للسلمي (ص 366). و «منازل» على وزن مساجد، كما في «تاج العروس» (نزل).
واتّفقت الطّائفة على أنّ من أطلعَ النّاسَ على حاله مع الله فقد دنَّس طريقته، إلّا لحجّةٍ أو حاجةٍ أو ضرورةٍ.
وقوله: (وتصحيحها تحقيقًا)، أي يجتهد في تحقيق أحواله وتصحيحها وتخليصها، فإنّ الحال قد يمتزج بحقٍّ وباطلٍ، ولا يُميِّزه إلّا أولو البصائر والعلم.
وأهل هذه الطّريقة
(1)
يقولون: إنّ الوارد الذي يبتدئ العبد من جانبه الأيمن والهواتف والخطاب يكون في الغالب حقًّا، والّذي يبتدئ من الجانب الأيسر يكون في الغالب باطلًا وكذبًا. فإنّ أهل اليمين هم أهل الحقِّ، وبأيمانهم يأخذون كتبهم، ونورهم الظّاهر على الصِّراط يكون بأيمانهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجِبه التّيمُّن في تنعُّله وترجُّلِه وطهورِه وشأنِه كلِّه
(2)
. والله وملائكته يُصلُّون على مَيامنِ الصُّفوف
(3)
. وأخبر أنّ الشّيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله
(4)
. وحظُّه من ابن آدم
(5)
جهة الشِّمال، ولهذا تكون
(1)
ل: «الطريق» .
(2)
كما في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (168)، ومسلم (268).
(3)
أخرجه أبو داود (676)، وابن ماجه (1005)، وابن حبان (2160)، والبيهقي في «الكبرى» (3/ 103) من حديث معاوية بن هشام عن الثوري عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة. قال البيهقي: كذا قال، والمحفوظ بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف» ، ومعاوية بن هشام ينفرد بالمتن الأول، فلا أراه محفوظًا. وحسَّنه الحافظ في «الفتح» (2/ 213).
(4)
كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه مسلم (2020).
(5)
د: «بني آدم» .
اليد الشِّمال للاستنجاء
(1)
وإزالة النّجاسة والأذى، ويُبدأ بها عند دخول الخلاء.
ومن الفرقان أيضًا: أنّ كلّ واردٍ يبقى الإنسان
(2)
بعد انفصاله نشيطًا مسرورًا نشوانَ فإنّه واردٌ مَلَكيٌّ. وكلُّ واردٍ يبقي بعد انفصاله خبيثَ النّفس كسلانَ، ثقيلَ الأعضاء والرُّوح، يجنح إلى فتورٍ= فهو واردٌ شيطانيٌّ.
ومن الفرقان أيضًا: أنّ كل واردٍ أعقبَ في القلب معرفةً بالله، ومحبةً له، وأُنسًا به، وطمأنينةً بذكره، وسكونًا إليه= فهو مَلكي إلهي، وخلافه بخلافه.
ومن الفرقان أيضًا: أنّ كلّ واردٍ أعقب صاحبه تقدُّمًا إلى الله والدّار الآخرة، وحضورًا فيها، حتّى كأنّه يشاهد الجنّة قد أُزلِفتْ، والجحيم قد سُعِّرت= فهو إلهيٌّ ملكيٌّ، وخلافه شيطانيٌّ نفسانيٌّ.
ومن الفرقان أيضًا: أنّ كلّ واردٍ كان سببه النّصيحة في امتثال الأمر، والإخلاص والصِّدق فيه= فهو إلهيٌّ ملكيٌّ، وإلّا فهو شيطانيٌّ.
ومن الفرقان أيضًا: أنّ كلّ واردٍ استنار به القلب، وانشرح له الصّدر، وقوي به القلب= فهو إلهيٌّ، وإلّا فهو شيطانيٌّ.
ومن الفرقان أيضًا: أنّ كلّ واردٍ جمعَك على الله فهو منه، وكلّ واردٍ فرَّقك عنه وأخذك منه فمن الشّيطان.
ومن الفرقان أيضًا: أنّ الوارد الإلهيِّ لا يُصرَف إلّا في قربةٍ وطاعةٍ، ولا
(1)
ش، د:«للاستجمار» .
(2)
«الإنسان» ليست في د.