الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخلق البهائم شهوةً بلا عقولٍ، وخلق ابنَ آدم وركّب فيه العقل والشّهوة. فمن غلب عقلُه شهوتَه التحقَ بالملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه التحق بالبهائم.
ولهذا قيل في
حدِّ المروءة:
إنّها غلبة العقل للشّهوة.
وقال الفقهاء في حدِّها: هي استعمال ما يُجمِّل العبدَ ويَزِينه، وترك ما يُدنِّسه ويَشِينه.
وقيل: المروءة استعمال كلِّ خُلقٍ حسنٍ، واجتناب كلِّ خُلقٍ قبيحٍ.
وحقيقة المروءة تجنُّب الدّنايا والرّذائل، من الأقوال والأخلاق والأعمال
(1)
.
فمروءة الإنسان
(2)
: حلاوته وطيبه ولينه، واجتناء الثِّمار منه بسهولةٍ ويُسرٍ.
ومروءة الخُلق: سعتُه وبسطُه وبذلُه للحبيب والبغيض.
ومروءة المال: الإصابة ببذله مواقعَه المحمودة عقلًا وعرفًا وشرعًا.
ومروءة الجاه: بذلُه للمحتاج إليه.
ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره وتوفيره، وعدم رؤيته حالَ وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه. فهذه مروءة البذل.
(1)
انظر عن المرءوة: «روضة العقلاء» (ص 230 وما بعدها)، و «أدب الدنيا والدين» (ص 514 وما بعدها)، و «بهجة المجالس» (2/ 642).
(2)
كذا في الأصول، وغيِّر في المطبوع بـ «اللسان» .
وأمّا مروءة التّرك: فكترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة، والإغضاء عن عيبِ ما تأخذه من حقِّك، وترك الاستقصاء في طلبه، والتّغافل عن عَثَرات النّاس، وإشعارهم أنّك لا تعلم لأحدٍ منهم عثرةً، والتّوقير للكبير، وحفظ حرمة النّظير، ورعاية أدب الصّغير. وهي على ثلاث درجاتٍ:
الدّرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه، وهي أن يَحمِلَها سِرًّا على مراعاةِ ما يُجمِّل ويَزِين، وتَرْكِ ما يُدنِّس ويَشِين، ليصير لها ملكة في العلانية. فمن اعتادَ شيئًا في سرِّه وخلوته ملكه في علانيته وجهره، فلا يكشف عورته في الخلوة، ولا يتجشَّأ
(1)
بصوتٍ مزعجٍ ما وجد إلى خلافه سبيلًا، ولا يُخرِج الرِّيح بصوتٍ وهو يقدر على خلافه، ولا يَجْشَع ويَنْهَم
(2)
عند أكله وحده.
وبالجملة، فلا يفعل خاليًا ما يستحيي من فعله في الملأ، إلّا ما لا يحظره
(3)
الشّرع والعقل، ولا يكون إلّا في الخلوة، كالجماع والتّخلِّي ونحو ذلك.
الدّرجة الثّانية: المروءة مع الخَلْق، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخُلق الجميل، ولا يُظهِر لهم ما
(4)
يكرهه هو من غيره، وليتّخذ النّاسَ مرآةً لنفسه، فكلُّ ما كرِهه ونَفَر عنه من قولٍ أو فعلٍ أو خُلقٍ فلْيجتنبه، وما أحبّه من ذلك واستحسنه فليفعله.
وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكلِّ من خالطَه وصحِبَه من كاملٍ وناقصٍ، وسيِّئ الخلق وحسَنِه، وعديمِ المروءة وغزيرِها.
(1)
في النسخ: «يتجشى» . والفعل مهموز اللام.
(2)
الجشَع: شدة الحرص، والنَّهَم: الإفراط في الشهوة.
(3)
في الأصول: «لا يحضره» على عادة النساخ في الخلط بين الظاء والضاد.
(4)
ش، د:«بما» .
وكثيرٌ من النّاس
(1)
يتعلّم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها. رُئي عند بعض الأكابر مملوكٌ سيِّئ الخلق فظٌّ
(2)
غليظٌ لا يناسبه، فسُئل عن ذلك، فقال: أدرسُ عليه مكارمَ الأخلاق.
وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق من ضدِّ أخلاقه، ويكون بتمرين النّفس على مصاحبته ومعاشرته والصّبرِ عليه.
الدّرجة الثّالثة: المروءة مع الحقِّ سبحانه، بالاستحياء من نظرِه إليك، واطِّلاعِه عليك في كلِّ لحظةٍ ونفسٍ، وبإصلاح عيوب نفسك جهدَ الإمكان، فإنّه قد اشتراها منك، وأنت سَاعٍ في تسليم المبيع وتقاضي الثّمن، وليس من المروءة: تسليمه على ما فيه من العيوب وتقاضي الثّمنِ كاملًا، ورؤيتِك
(3)
شهودَ مننِه في هذا الإصلاح، وأنّه هو المتولِّي له لا أنت؛ فيُفْنِيك
(4)
الحياء منه عن رسوم الطّبيعة، والاشتغالُ بإصلاح عيوب نفسك عن التفاتك إلى عيب غيرك، وشهودُ الحقيقة عن رؤية فعلك وإصلاحك.
وكلُّ ما تقدّم في منزلة الخُلق والفُتوّة فإنّه بعينه في هذه المنزلة، فلذلك اقتصرنا منها على هذا القدر. وصاحب «المنازل» رحمه الله استغنى عنها بما ذكره في الفتوّة. والله أعلم.
* * * *
(1)
ل: «الخلق» .
(2)
ل: «فض» .
(3)
ل: «ورؤية» . وسياق الكلام: «المروءة مع الحق بالاستحياءِ
…
وبإصلاح عيوب نفسك
…
ورؤيتك
…
»
(4)
ل: «فيقيمك» .
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : منزلة البسطة
(1)
، والتّخلِّي عن القبض
(2)
.
وهي منزلةٌ شريفةٌ لطيفةٌ، وهي صِوانٌ
(3)
على الحال، وداعيةٌ لمحبّة الخلق.
وقد غلِطَ صاحب «المنازل» رحمه الله حيث صدّرها بقوله تعالى حكايةً عن كليمه موسى عليه السلام أنه قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155]. وكأنّه فهمَ من هذا الخطاب: انبساطٌ
(4)
بين موسى وبين الله تعالى حَمَلَه على أن قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} .
وسمعت بعض الصُّوفيّة يقول لآخر وهما في الطّواف: لمّا قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} تداركَ هذا الانبساطَ بالتّذلُّل والتملُّق بقوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155]، أو نحو هذا من الكلام.
وكلُّ هذا وهمٌ وفهمٌ خلاف المقصود، فالفتنة هاهنا: هي الامتحان
(1)
في «المنازل» : «الانبساط» .
(2)
هذه المنزلة بتمامها ساقطة من طبعة دار الصميعي، وهي مثبتة في الأصول وطبعة الفقي.
(3)
في الأصول: «صنوان» ، وهو تحريف. والمعنى أنها تصون الحال. وسيأتي في الكتاب (4/ 44):«فأدبهم صِوانٌ على أحوالهم» .
(4)
كذا في ش، ل. وأصلحه في د فجعله:«أن الانبساط» .
والاختبار، كقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، وقوله:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16 - 17].
والمعنى: أنّ هذه الفتنة اختبارٌ منك لعبدك وامتحانٌ، تُضِلُّ بها من تشاء وتَهدي من تشاء. فأيُّ تعلُّقٍ لهذا بالانبساط؟ وهل هذا إلّا توحيدٌ، وشهودٌ للحكمة، وسؤالٌ للعصمة والمغفرة؟ وليس للعارف في هذه المنزلة حظٌّ مع الله، وإنّما هي متعلِّقةٌ بالخلق.
وصاحب «المنازل» جعلها ثلاث درجاتٍ: الأولى مع النّاس، والثّانية والثّالثة مع الله. وسنبيِّن ما في كلامه بحول الله وتوفيقه.
قال
(1)
: (الانبساط: إرسال السَّجِيّة، والتّحاشي من وحشة الحِشْمة).
السّجيّة الطَّبع، وجمعها سجايا، يقال: سجيّةٌ وسليقةٌ وطبيعةٌ وغريزةٌ. وإرسالها: تركها ومجراها.
و (التّحاشي من وحشة الحشمة).
التّحاشي: هو تجنُّب الوحشة الواقعة بينك وبين من تحبُّه وتخدمه، فإنّ مرتبته تقتضي احتشامَه، والحياءَ منه، وإجلالَه عن انبساطك إليه. وذلك نوع وحشةٍ، فالانبساط: إزالة تلك الوحشة، لا تُسقِطك من عينه، بل تزيدك حبًّا إليه، ولا سيّما إذا وقع في موقعه.
(1)
«المنازل» (ص 49).