الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال
(1)
: (والمحبّة هي سِمَة الطّائفة، وعنوان الطّريقة، ومَعقِد النِّسبة).
يعني: سِمة هذه الطّائفة
(2)
المسافرين إلى ربِّهم، الذين ركبوا جناحَ السّفر إليه، ثمّ لم يفارقوه إلى حينِ اللِّقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعدَ من سواهم على الرُّسوم.
وعنوانُ طريقتهم أي دليلها، فإنّ العنوان يدلُّ على الكتاب، والمحبّة تدلُّ على صدق الطّالب، وأنّه من أهل الطّريق.
ومعقد النِّسبة أي النِّسبة التي بين الرّبِّ وبين
(3)
العبد، فإنّه لا نسبةَ بين الله وبين العبد إلّا محضُ العبوديّة من العبد والألوهية من الرّبِّ. وليس في العبد شيءٌ من الألوهية، ولا في الرّبِّ شيءٌ من العبوديّة. فالعبد عبد من كلِّ وجهٍ، والرّبُّ تعالى هو الإله الحقُّ من كلِّ وجهٍ. ومعقد نسبة العبوديّة هو المحبّة، فالعبوديّة معقودةٌ بها، بحيث متى انحلَّت المحبّة انحلَّت العبوديّة.
فصل
قال
(4)
: (وهي على ثلاث درجاتٍ.
الدّرجة الأولى: محبّةٌ تقطع الوساوسَ
، وتَلَذُّ الخدمة
(5)
، وتُسلِّي عن المصائب).
(1)
«المنازل» (ص 71).
(2)
«وعنوان الطريقة
…
الطائفة» ساقطة من ش، د.
(3)
«بين» ليست في ش، د.
(4)
«المنازل» (ص 71).
(5)
أي تجد الخدمة لذيذة.
قوله: (تقطع الوساوس)، فإنّ الوسواس والمحبّة متناقضان، فإنّ المحبّة توجب استيلاء ذكر المحبوب على القلب، والوسواس
(1)
يقتضي غيبته عنه، حتّى توسوس له نفسه بغيره. فبين المحبّة والوسواس تناقضٌ شديدٌ، كما بين الذِّكر والغفلة.
فعزيمةُ المحبّة تنفي تردُّدَ القلب بين المحبوب وغيره، وذلك سبب الوسواس، وهيهاتَ أن يجد المحبُّ الصّادق فراغًا لوسواسٍ، لاستغراق قلبه في حضوره بين يدي محبوبه. وهل الوسواس إلّا لأهل الغفلة والإعراض؟
لا كان مَن لسواك فيه بقيّةٌ
…
فيها يُقسِّم فِكْرَه ويُوسوِسُ
(2)
قوله: (وتَلَذُّ الخدمةَ)، أي المحبُّ يلتذُّ بخدمة محبوبه، فيرتفع عن رؤية التَّعب الذي يراه الخَلِيُّ في أثناء الخدمة. وهذا معلومٌ بالمشاهدة.
قوله: (وتُسلِّي عن المصائب)، فإنّ المحبّ يجد في لذّة المحبّة ما يُنسِيه المصائبَ، ولا يجد من مَسِّها ما يجد غيره، حتّى كأنّه قد اكتسى طبيعةً ثانيةً ليست بطبيعة
(3)
الخلق. بل يقوى سلطانُ المحبّة، حتّى يلتذّ بكثيرٍ من المصائب أعظمَ من التذاذِ الخَلِيِّ بحظوظه وشهواتِه. والذّوق والوجود شاهدٌ بذلك.
(1)
ش: «والوساوس» .
(2)
البيت بعجز مختلف فيما مضى (ص 388)، وسيأتي بقافية أخرى (4/ 181) وأنشده المؤلف في «طريق الهجرتين» (2/ 503، 638)، و «الفوائد» (ص 89).
(3)
ل: «طبيعة» .
فصل
قال
(1)
: (وهي محبّةٌ تَنبُتُ من مطالعة المِنَّة. وتَثبُت باتِّباع السُّنّة، وتَنمُو على الإجابة بالفاقة)
(2)
.
قوله: (تنبت من مطالعة المنّة)
(3)
، أي تنشأ من مطالعة العبدِ منَّةَ الله عليه، ونِعمَه الباطنةَ والظّاهرة، فبقدر مطالعته ذلك تكون قوّة محبته. فإنّ القلوب مجبولةٌ على حبِّ من أحسنَ إليها، وبُغضِ من أساء إليها. وليس للعبد قطُّ إحسانٌ إلّا من الله، ولا إساءةٌ إلّا من الشّيطان.
ومن أعظم مطالعة منّة الله على عبده: منَّةُ تأهيلِه لمحبّته ومعرفته، وإرادةِ وجهه، ومتابعةِ حبيبه. وأصلُ هذا نورٌ يَقذِفه الله في قلب العبد، فإذا دارَ ذلك النُّورُ في قلبِ العبد وذاتِه أشرقَتْ له ذاتُه، فرأى فيه نفسَه، وما أُهِّلتْ له من الكمالات والمحاسن، فعَلَتْ به همَّتُه، وقوِيَتْ عزيمتُه، وانقشَعَتْ عنه ظلماتُ نفسِه وطبعِه. لأنّ النُّور والظُّلمة لا يجتمعان إلّا ويَطْرُد أحدُهما صاحبَه، فرَقِيَتِ الروحُ
(4)
حينئذٍ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأوّل.
نَقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى
…
ما الحبُّ إلّا للحبيبِ الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يَألَفُه الفتى
…
وحَنينُه أبدًا لأوّلِ منزلِ
(5)
(1)
«المنازل» (ص 72).
(2)
في «المنازل» : «للفاقة» .
(3)
«المنة» ليست في ش، د.
(4)
«الروح» ليست في ش.
(5)
البيتان لأبي تمام في «ديوانه» (4/ 253).
وهذا النُّور كالشّمس في قلوب المقرّبين السّابقين، وكالبدر في قلوب الأبرار أصحابِ اليمين، وكالنّجم في قلوب عامّة المؤمنين. فكَمْ
(1)
بين الزُّهرة والسُّهى!
قوله: (وتثبت باتِّباع السُّنّة)، أي ثباتها بمتابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم في أعماله وأقواله وأخلاقه. فبحسب هذا الاتِّباع يكون منشأ هذه المحبّة وثباتها وقوّتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها. كما تقدّم أنّ هذا الاتِّباع يوجب المحبّة والمحبوبيّة معًا، ولا يتمُّ الأمر إلّا بهما. فليس الشّأن في أن تحبّ الله، بل الشّأن في أن يحبّك الله، ولا يُحبّك إلّا إذا اتّبعتَ حبيبَه ظاهرًا وباطنًا، وصدَّقتَه خبرًا، وأطعتَه أمرًا، وأجبتَه دعوةً، وآثرتَه طوعًا، وفَنِيتَ عن حكم غيره بحكمه، وعن محبةِ غيرِه من الخلق بمحبّته، وعن طاعةِ غيره بطاعته. وإن لم يكن ذلك فلا تَتَعنَّ
(2)
، فلستَ على شيءٍ.
وتأمّلْ قوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، أي الشّأن في أنّ الله يحبُّكم، لا في أنّكم تحبُّونه، وهذا لا تنالونه إلّا باتِّباع الحبيب.
قوله: (وتَنمو على الإجابة بالفاقة)، الإجابة بالفاقة: أن يجيب الدّاعيَ بموفور الأعمال وهو خالٍ منها، كأنّه لم يعملْها، بل يجيب دعوتَه بمجرّد الإفلاس والفقر التّامِّ، فإنّ طريقة الفقر والفاقة تأبى أن يكون لصاحبها عملٌ أو حالٌ أو مقامٌ، وإنّما يدخل على ربِّه بالإفلاس المحض، والفاقة المجرّدة. ولا ريبَ أنّ المحبّة تنمو على هذا المشهد وهذه الإجابة. وما أعزَّه من مقامٍ،
(1)
ش، د:«وكما» .
(2)
ش: «فلا تتعب» .