الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة المحبّة
.
وهي المنزلة التي فيها يتنافَسُ
(1)
المتنافسون، وإليها شَخَصَ العاملون، وإلى علمها شَمَّر السّابقون، وعليها تفانى المُحِبُّون، وبرَوْحِ نَسيمها تروَّح العابدون. فهي قُوتُ القلوب، وغذاء الأرواح، وقرّة العيون. وهي الحياة التي من حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنُّور الذي من فَقَدَه ففي بحار الظُّلمات، والشِّفاء الذي من عَدِمَه حلَّتْ بقلبه جميعُ الأسقام، واللّذّة التي من لم يظفر بها فعيشُه كلُّه همومٌ وآلامٌ.
وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلَتْ منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تَحمِلُ أثقالَ السّائرين إلى بلادٍ لم يكونوا إلّا بشِقِّ الأنفس بَالِغِيها، وتُوصِلهم إلى منازلَ لم يكونوا بدونها أبدًا واصلِيها، وتُبوِّئهم من مقاعد الصِّدق مقاماتٍ لم يكونوا لولا هي داخلِيها. وهي مطايا القوم التي مَسْراهم في ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقُهم الأقوم الذي يُبلِّغهم إلى منازلهم الأولى من قريبٍ.
تالله لقد ذهب أهلُها بشرف الدُّنيا والآخرة، إذ لهم من معيّة
(2)
محبوبهم أوفرُ نصيبٍ. وقد قضى الله
(3)
ــ يوم قدَّر مقاديرَ الخلائق بمشيئته وحكمته
(1)
ش، د:«تتنافس فيها» .
(2)
د: «معاملة» .
(3)
كلمة الجلالة ليست في ش، د.
البالغة ــ أنّ المرء مع من أحبّ. فيا لها نعمة على المحبِّين سابغة!
تالله لقد سبقَ القومُ السُّعاةَ وهم على ظهور الفُرُشِ نائمون، ولقد تقدَّموا الرّكب بمراحلَ وهم في سيرِهم واقفون.
مَنْ لي بمثلِ سَيْرِك المُدلَّلِ
…
تَمشِي رُويدًا وتَجِي في الأوّلِ
(1)
أجابوا مؤذِّنَ الشّوق إذ نادى بهم: حيَّ على الفلاح. وبذلوا أنفسَهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلُهم بالرِّضا والسّماح. وواصلوا إليه المسيرَ بالإدلاج والغدوِّ والرَّواح. تالله لقد حَمِدوا عند الوصول مَسْراهم، وإنّما يَحمد القومُ السُّرى عند الصّباح
(2)
.
فحيّهلًا إن كنتَ ذا همّةٍ فقد
…
حَدا بك حادِي الشَّوقِ فَاطْوِ المراحلا
…
وقلْ لمنادي حبِّهمْ ورضاهمُ
…
إذا ما دعا لبَّيكَ ألفًا كَوامِلا
…
ولا تنظرِ الأطلالَ من دونهم فإن
…
نظرتَ إلى الأطلالِ عُدْنَ حوائلا
(3)
…
ولا تنتظِرْ بالسّير رُفْقةَ قاعدٍ
…
ودَعْه فإنّ الشّوقَ يكفيك حاملا
…
وخذْ منهمُ زادًا إليهم وسِرْ على
…
طريقِ الهدى والفقرِ تُصبِحُ واصلا
…
وأَحْيِ بذكراهم سُراك إذا وَنَتْ
…
رِكابُك فالذِّكرى تُعِيدك عاملا
…
وإمّا تَخافنَّ الكَلالَ فقلْ لها
…
أمامَك وِردُ الوصلِ فابْغِي المناهلا
…
وخذْ قَبَسًا من نورهم ثمّ سِرْ به
…
فنورُهمُ يهديك ليس المشاعلا
(1)
أنشده المؤلف في «طريق الهجرتين» (2/ 504)، و «مفتاح دار السعادة» (1/ 227)، وانظر تعليق المحققين عليه.
(2)
الأبيات الآتية للمؤلف، وقد أوردها في «زاد المعاد» (3/ 90، 91).
(3)
هذا البيت ليس في ش، د.
وحيَّ على وَادي الأراكِ فقِلْ به
…
عساك تَراهم فيه إن كنتَ قائلا
وإلّا ففي نَعْمَانَ عند مُعرَّف الـ
…
أَحبّةِ فاطلُبْهم إذا كنتَ سائلا
وإلّا ففي جَمْعٍ بليلتِه فإنْ
…
تَفُتْ فمتى يا وَيْحَ من كان غافلا
وحيَّ على جنّاتِ عدنٍ بقربهم
…
منازِلُك الأولى بها كنتَ نازلا
ولكن سَباك الكاشحون لأجْلِ ذا
…
وقفتَ على الأطلالِ تَبكي المنازلا
وحَيَّ على يومِ المزيد بجنَّة الـ
…
خلودِ فجُدْ بالنَّفسِ إن كنتَ باذلا
(1)
مَقِيلٌ فجاوِزْها فليست منازلا
(2)
فدَعْها رُسومًا دارساتٍ فما بها
…
قَتيلٌ وكَمْ فيها لذا الخَلْقِ قاتلا
رسومٌ عَفَتْ يَنتابُها الخلقُ كَمْ بها
…
عليه سَرَى وفدُ المَحبّةِ آهلا
وخُذْ يَمْنةً عنها على المنهجِ الذي
…
فعند اللِّقَا ذَا الكَدُّ يصبِح زائلا
وقلْ سَاعِدي يا نفسُ بالصّبرِ ساعةً
…
ويُصبِحُ ذُو الأحزانِ فَرحَانَ جَاذلا
فما هيَ إلّا ساعةٌ ثمّ تنقضي
أوّل نَقْده من أثمان المحبّة: بذلُ الرُّوح، فما للمفلسِ الجَبانِ وسَوْمِها؟
بِدَمِ المُحبِّ يُباع وصلُهمُ
…
فمن الذي يَبتاع بالثَّمَنِ
(3)
تالله ما هُزِلَتْ فيَسْتامها المفلسون، ولا كسدتْ فيُنفِّقها بالنّسيئة المعسرون، لقد أُقيمتْ للعرض في سوق من يزيد، فلم يرضَ لها بثمنٍ دون
(1)
هذا البيت ليس في ش، د.
(2)
في هامش ش، د:«مناهلا» برمز خ.
(3)
أنشده المؤلف في «بدائع الفوائد» (3/ 1182). وهو لصردر في «ديوانه» (ص 177)، وبلا نسبة في «المدهش» (ص 291). وفيهما:«بالسعر» بدل «بالثمن» ضمن قصيدة رائية.
بذل النُّفوس، فتأخَّر البطَّالون، وقام المحبُّون ينظرون: أيُّهمُّ يصلح أن يكون ثمنًا؟ فدارت السِّلعةُ بينهم، ووقعتْ في يدِ {وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى} [المائدة: 54].
لمّا كثر المدّعون للمحبّة طولبوا بإقامة البيِّنة على صحّة الدّعوى، فلو يُعطى النّاسُ بدعواهم لادّعى الخليُّ حُرقةَ الشّجيِّ. فتنوَّع المدَّعون في الشُّهود، فقيل: لا تثبت هذه الدّعوى إلّا ببيِّنةِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
فتأخَّر الخلقُ كلُّهم، وثبت أتباعُ الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه. فطولبوا بعدالة البيِّنة بتزكيةِ {الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].
فتأخَّر أكثر المحبِّين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إنّ نفوس المحبِّين وأموالهم ليست لهم، فهَلُمُّوا إلى بيعةِ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111].
فلمّا عرفوا عظمةَ المشتري، وفضلَ الثّمن، وجلالةَ من جرى على يديه عقدُ التّبايع= عرفوا قدْرَ السِّلعة، وأنّ لها شأنًا. فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمنٍ بخسٍ، فعقدوا معه بيعةَ الرِّضوان بالتّراضي من غير ثبوت خيارٍ، وقالوا: والله لا نُقِيلك ولا نَستقيلك.
فلمّا تمّ العقد وسلَّموا المبيعَ، قيل لهم: مُذْ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفرَ ما كانت وأضعافها معًا. {وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170].
إذا غُرِست شجرة المحبّة في القلب، وسُقِيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب، أثمرتْ أنواعَ الثِّمار، وآتتْ أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها. أصلها ثابتٌ في قرار القلب، وفرعُها متّصلٌ بسِدْرة المنتهى.
لا يزال سعْيُ المحبِّ صاعدًا إلى حبيبه، لا يَحجُبه دونه شيءٌ. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
فصل
لا تُحَدُّ المحبّة بحدٍّ أوضحَ منها، فالحدود لا تزيدها إلّا خفاءً وجفاءً. فحدُّها وجودها، ولا تُوصَف المحبّة بوصفٍ أظهر من المحبّة.
وإنّما يتكلّم النّاس في أسبابها وموجباتها، وعلاماتها وشواهدها، وثمراتها وأحكامها. فحدودهم ورسومهم دارت على هذه السِّتّة
(1)
، وتنوَّعتْ بهم العبارات، وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشّخص ومقامه وحاله ومِلْكِه
(2)
للعبارة.
وهذه المادّة تدور في اللُّغة على خمسة أشياء
(3)
:
أحدها: الصّفاء والبياض. ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونَضَارتها: حَبَب الأسنانِ.
(1)
ش، د:«السنة» . وفوقها في ش: «ظ: الألسنة» .
(2)
د: «ملكته» .
(3)
وعند ابن فارس في «مقاييس اللغة» (2/ 26): أصول ثلاثة، أحدها: اللزوم والثبات، والآخر: الحبَّة من الشيء ذي الحَبّ، والثالث: وصف القِصَر.
الثّاني: العلوُّ والظُّهور. ومنه: حَبَبُ الماء وحَبابُه، وهو ما يعلوه عند المطر الشّديد. وحَبَبُ الكأسِ منه.
الثّالث: اللُّزوم والثّبات. ومنه: حَبَّّ البعيرُ وأَحبَّ، إذا بَركَ فلم يقم. قال الشّاعر
(1)
:
حُلْتَ عليه بالفَلاةِ
(2)
ضَرْبَا
…
ضرْبَ بعيرِ السَّوءِ إذْ أَحبَّا
الرّابع: اللُّبُّ. ومنه: حَبَّة القلب، للُبِّه وداخلِه. ومنه الحَبَّة لواحدة الحبوب، إذ هي أصل الشّيء ومادّته وقِوامُه.
الخامس: الحفظ والإمساك. ومنه: حُبُّ الماءِ، للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه. وفيه معنى الثُّبوت أيضًا.
ولا ريبَ أنّ هذه الخمسة من لوازم المحبّة. فإنّها صفاء المودّة، وهَيجانُ إرادات القلب
(3)
وعلوُّها وظهورُها منه لتعلُّقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة
(4)
القلب للمحبوب ولزومُها لزومًا لا تفارق، ولإعطاء المحبِّ محبوبَه لُبَّه وأشرفَ ما عنده، وهو قلبه، ولاجتماع عَزَماتِه وإرادتِه وهمومِه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعاني الخمسة.
(1)
هو الراجز أبو محمد الفقعسي، كما في «لسان العرب» (حبب، قرشب، قفل). وهو من أرجوزة في «الأصمعيات» (ص 163) بلا نسبة، وبلا نسبة أيضًا في «جمهرة اللغة» (1/ 65)، و «مقاييس اللغة» (2/ 27)، و «مجمل اللغة» (2/ 29) وغيرها.
(2)
كذا في النسخ. والرواية في المصادر: «بالقَفيلِ» أو «بالقَطيع» ، وكلاهما بمعنى السوط.
(3)
ش، د:«القلوب» .
(4)
د: «إرادات» .
ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمّى غايةَ المناسبة: «الحاء» التي هي من أقصى الحلق، و «الباء» الشفهية التي هي نهايته. فللحاء الابتداء
(1)
، وللباء الانتهاء. وهذا شأن المحبّة وتعلُّقها بالمحبوب، فإنّ ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وقالوا في فعلها: حَبَّه وأَحبَّه. قال الشّاعر
(2)
:
فواللهِ لولا تَمْرُه ما حَبَبتُه
…
ولا كان أدنى من عُبَيد ومُشرِقِ
(3)
ثمّ اقتصروا على اسم الفاعل من «أحبَّ» فقالوا: محبٌّ، ولم يقولوا: حابٌّ، واقتصروا على اسم المفعول من «حَبَّ» ، فقالوا: محبوبٌ، ولم يقولوا: مُحَبٌّ إلّا قليلًا، كما قال الشّاعر
(4)
:
ولقد نَزلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه
…
منِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَم
وأعطَوا الحُبّ حركة الضّمِّ التي
(5)
هي أشدُّ الحركات وأقواها، مطابقةً لشدّة حركة مسمّاه وقوّتها. وأعطَوا الحِبّ ــ وهو المحبوب ــ حركةَ الكسر لخفّتها عن الضّمّة، وخفّةِ المحبوب وذكرِه
(6)
على قلوبهم وألسنتهم، مع
(1)
ش، د:«نهاية الابتداء» .
(2)
البيت لغيلان بن شجاع النهشلي في «الاشتقاق» (ص 38)، و «لسان العرب» و «تاج العروس» (حبب)، وبلا نسبة في «الألفاظ» لابن السكيت (ص 338)، و «الزاهر» لابن الأنباري (1/ 331)، و «أمالي اليزيدي» (ص 65)، و «الخصائص» (2/ 220)، و «جمهرة الأمثال» (2/ 229)، و «خزانة الأدب» (4/ 122) وغيرها.
(3)
ل: «مسرف» ، تحريف.
(4)
عنترة في معلقته. انظر: «ديوانه» (ص 187).
(5)
في النسخ: «الذي» . وصححها في ل.
(6)
د: «ودورانه» .
إعطائه حُكمَ نظائره: كنِهْبٍ بمعنى منهوبٍ، وذِبْحٍ للمذبوحٍ، وحِمْلٍ للمحمول. بخلاف الحَمْل الذي هو مصدرٌ، لخفّته. ثمّ ألحقوا به حملًا لا يَشُقُّ على حاملِه حَملُه، كحمل الشّجرة والولد.
فتأمَّلْ هذا اللُّطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تُطلِعْك على قدر هذه اللُّغة، وأنّ لها شأنًا ليس لسائر اللُّغات.
فصل
في ذكر رسومٍ وحدودٍ قيلتْ في المحبّة بحسب آثارِها وشواهدها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام منها
(1)
.
الأوّل، قيل: المحبّة الميل الدّائم، بالقلب الهائم
(2)
.
وهذا الحدُّ لا تمييز فيه بين المحبّة الخاصّة والمشتركة، والصّحيحة والمعلولة.
الثّاني: إيثار المحبوب، على جميع المصحوب
(3)
.
وهذا حكمٌ من أحكام المحبّة وأثرٌ من آثارها.
الثّالث: موافقة الحبيب، في المشهد والمَغِيب
(4)
.
(1)
اعتمد المؤلف في هذا الفصل على «الرسالة القشيرية» (ص 652 وما بعدها) وعلَّق عليها. وذكر بعض هذه الأقوال في «روضة المحبين» (ص 31 - 36) ، و «طريق الهجرتين» (2/ 670 - 674).
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 652).
(3)
المصدر نفسه.
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 652).
وهذا أيضًا مُوجَبها ومقتضاها. وهو أكمل من الحدَّين قبله، فإنّه يتناول المحبّةَ الصّادقة الصّحيحة خاصّةً، بخلاف مجرّد الميل والإيثار بالإرادة، فإنّه إن لم يصحَبْه موافقةٌ فمحبَّةٌ معلولةٌ.
الرّابع: مَحْو المحبِّ لصفاته، وإثبات المحبوب لذاته
(1)
.
وهذا أيضًا من أحكام الفناء في المحبّة: أن تَمَّحِي
(2)
صفات المحبِّ، وتَفنى في صفات محبوبه وذاته. وهذا يستدعي بيانًا أتمَّ من هذا، لا يُدركه إلّا من أفناه واردُ المحبّةِ عنه، وأخذَه منه.
الخامس: مُواطأة القلب لمرادات المحبوب
(3)
.
وهذا أيضًا من موجباتها وأحكامها. والمواطأة: الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومَراضِيه.
السّادس: خوفُ تركِ الحرمة، مع إقامة الخدمة
(4)
.
وهذا أيضًا من أعلامها وشواهدها وآثارها: أن يقوم بالخدمة كما ينبغي، مع خوفه من تَرْكِ الحرمة والتّعظيم.
السّابع: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك
(5)
.
(1)
المصدر نفسه.
(2)
ل: «تمتحي» .
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 652). وفيها «الرب» بدل «المحبوب» ، وبه يستقيم السجع.
(4)
المصدر السابق.
(5)
المصدر السابق.
وهو لأبي يزيد
(1)
. وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها. والمحبُّ الصّادق لو بذل لمحبوبه جميعَ ما يقدر عليه لاستقلَّه واستحيى منه، ولو نالَه من محبوبه أيسرُ شيءٍ لاستكثره واستعظمه.
الثّامن: استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك
(2)
.
وهو قريبٌ من الأول، لكنّه مخصوصٌ بما من المحبِّ
(3)
.
التّاسع: معانقة الطّاعة، ومباينة المخالفة
(4)
.
وهو لسهل بن عبد الله. وهو أيضًا حكم المحبّة وموجبها.
العاشر: دخول صفاتِ المحبوب، على البدل من صفات المحبِّ
(5)
.
وهو للجنيد. وفيه غموضٌ، ومراده: استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب المحبِّ، حتّى لا يكون الغالب عليه إلّا ذلك، ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب إلّا بها. فيصير شعوره وإحساسه بها بدلًا من شعوره وإحساسه بصفات نفسه. وقد يحتمل معنًى أشرف من هذا، وهو تبدُّل صفات المحبِّ الذّميمة ــ التي لا توافق صفاتِ المحبوب ــ بالصِّفات الجميلة المحبوبة التي توافق صفاتِه. والله أعلم.
(1)
البسطامي، كما في «القشيرية» .
(2)
لم أجده في «القشيرية» و «روضة المحبين» . وهو مفهوم من القول السابع كما ذكر المؤلف.
(3)
ل: «الحب» .
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 652).
(5)
«الرسالة القشيرية» (ص 652) ، و «اللمع» (ص 59).
الحادي عشر: أن تَهَبَ كُلَّك لمن أحببتَ، فلا يبقى لك منك شيءٌ
(1)
.
وهو لأبي عبد الله القرشيِّ. وهو أيضًا من موجبات المحبّة وأحكامها. والمراد: أن تهب إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تُحِبُّه، وتجعلَها حبسًا في مرضاته ومَحابِّه، فلا تأخذ لنفسك منها
(2)
إلّا ما أعطاك، فتأخذه منه له.
الثّاني عشر: أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب
(3)
.
وهو للشِّبليِّ. وكمال المحبّة يقتضي ذلك، فإنّه ما دامت في القلب بقيّةٌ لغيره ومسكَنٌ لغيره فالمحبّة مدخولةٌ.
الثّالث عشر: إقامة العتاب على الدّوام
(4)
.
وهو لابن عطاءٍ. وفيه غموضٌ، ومراده: أن لا تزال عاتبًا على نفسك في مرضاة المحبوب، وأن لا ترضى له منها عملًا ولا حالةً.
الرّابع عشر: أن تَغار على المحبوب أن يُحِبَّه مثلُك
(5)
.
وهو للشِّبليِّ أيضًا. وفيه كلامٌ سنذكره إن شاء الله في منزلة الغيرة، ومراده: احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلُك من محبِّيه.
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 653).
(2)
«منها» ليست في ل.
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 653).
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
الخامس عشر: إرادةٌ غُرِست أغصانُها في القلب، فأثمرتِ الموافقةَ والطّاعة
(1)
.
السّادس عشر: أن ينسى المحبُّ حظَّه من محبوبه، وينسى حوائجَه إليه
(2)
.
وهو لأبي يعقوب السُّوسيِّ. ومراده: أنّ استيلاء سلطانها على قلبه غيَّبه
(3)
عن حظوظه وعن حوائجه، واندرجتْ كلُّها في حكم المحبّة.
السّابع عشر: مجانبةُ السُّلوِّ على كلِّ حالٍ
(4)
.
وهو للنّصراباذيِّ. وهو أيضًا من لوازمها وثمراتها، كما قيل
(5)
:
مَرَّتْ بأرجاءِ الخيالِ طُيوفُه
…
فبكَتْ على رَسْم السُّلوِّ الدَّارِس
الثّامن عشر: توحيد المحبوب بخالص الإرادة وصدق الطّلب
(6)
.
التّاسع عشر: سقوط كلِّ محبّةٍ من القلب إلّا محبّةَ الحبيب
(7)
.
وهو لمحمّد بن الفضل. ومراده: توحيد المحبوب بالمحبّة.
(1)
نحوه في «الرسالة القشيرية» (ص 653).
(2)
المصدر السابق (ص 655).
(3)
د: «قلب المحب مثله» .
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 655).
(5)
أورده المؤلف مع آخر بلا نسبة في «روضة المحبين» (ص 176).
(6)
لم أجده في «الرسالة القشيرية» وغيرها من المصادر.
(7)
«الرسالة القشيرية» (ص 655).
العشرون: غضُّ طَرْفِ القلب عمّا سوى المحبوب غيرةً، وعن المحبوب هيبةً
(1)
.
وهذا يحتاج إلى تبيينٍ:
أمّا الأوّل: فظاهرٌ. وأمّا الثّاني: فإنّ غضَّ طَرْفِ القلب عن المحبوب مع كمالِ محبّته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء سلطانِ الهيبة يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبّة المقارنة للهيبة والتّعظيم. وقد قيل: إنّ هذا تفسير قول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «حُبُّك الشّيءَ يُعمِي ويُصِمُّ»
(2)
، أي يُعمِي عمّا سواه غيرةً، وعنه هيبةً.
وليس هذا مراد الحديث، ولكنّ المراد به: أنّ حبّك للشّيء يُعمِي ويُصِمُّ عن تأمُّل قبائحه ومساويه، فلا تَراها ولا تَسمعها وإن كانت فيه. وليس المراد به: ذكر المحبّة المطلوبة المتعلِّقة بالرّبِّ، ولا يقال في حبِّ الرّبِّ تبارك وتعالى:«حبُّك الشّيء» ، ولا يُوصف صاحبها بالعَمى والصَّمَم.
ونحن لا ننكر المرتبتين المذكورتين، فإنّ المحبّ قد يَعمَى ويَصَمُّ عن سوى محبوبه، وقد يَعمَى ويَصَمُّ عنه بالهيبة والإجلال، ولكن لا تُوصَف محبّة العبد لربِّه تعالى بذلك. وليس أهلها من أهل العَمى والصَّمَم، بل
(1)
لم أجده في «القشيرية» وغيرها.
(2)
أخرجه أحمد (21694، 27548)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 107)، وأبو داود (5130) وغيرهم من حديث أبي الدرداء مرفوعًا. وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم ضعيف. وقد صحَّ عنه موقوفًا، قال المنذري في «مختصر السنن» (8/ 31): يُروى عن بلال (ابن أبي الدرداء) عن أبيه موقوفًا عليه غير مرفوع، وقيل: إنه أشبه بالصواب. وانظر: «المقاصد الحسنة» (ص 181).
هم
(1)
أهلُ الأسماع والأبصار على الحقيقة، ومَن سواهم هم الصُّمُّ البُكْم الذين لا يعقلون.
الحادي والعشرون: ميلُك إلى الشّيء بكلِّيّتك، ثمّ إيثارُك له على نفسك وروحِك ومالِك، ثمّ موافقتُك له سِرًّا وجهرًا، ثمّ علمُك بتقصيرِك في حُبِّه
(2)
.
قال الجنيد: سمعت الحارثَ المُحاسبيّ رحمهما الله يقول ذلك.
الثّاني والعشرون: المحبّة نارٌ في القلب تُحرِق ما سوى مراد المحبوب
(3)
.
سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: لُمْتُ بعضَ المباحيَّة
(4)
، فقال لي ذلك، ثمّ قال: والكونُ كلُّه مراده، فأيّ شيءٍ أبغضُ منه؟ قال الشّيخ: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغضَ أفعالًا وأقوالًا وأقوامًا وعاداهم وطَردَهم ولَعنَهم فأحببتَهم أنتَ= كنتَ مواليًا للمحبوب أو معاديًا له؟ قال: فكأنّما أُلقِمَ حَجرًا
(5)
، وافتضَحَ بين أصحابه. وكان مقدّمًا فيهم مشارًا إليه.
وهذا الحدُّ صحيحٌ. وقائله إنّما أراد: أنّها تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب الدِّينيِّ الأمريِّ الذي يُحِبُّه ويرضاه، لا المراد الذي قدَّره وقضاه.
(1)
«هم» ليست في ل.
(2)
رواه القشيري في «الرسالة القشيرية» (ص 656)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (477). وذكره المؤلف في «روضة المحبين» (ص 552).
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 656).
(4)
يقصد بهم القائلين بوحدة الوجود، المحتجين بالإرادة الكونية على الإباحة.
(5)
نقله المؤلف عن شيخه في «طريق الهجرتين» (1/ 184، 2/ 658) و «شفاء العليل» (ص 19). وانظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 210، 486).
لكن لقلّة حظِّ المتأخِّرين منهم وغيرهم من أهل العلم وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول والاتِّحاد، والمعصوم من عصمه الله.
الثّالث والعشرون: المحبّة بذْلُ المجهود، وترك الاعتراض على المحبوب
(1)
.
وهذا أيضًا من حقوقها وثمراتها وموجَباتها.
الرّابع والعشرون: سُكْرٌ لا يَصحُو صاحبُه إلّا بمشاهدة محبوبه
(2)
.
ثمّ السُّكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد
(3)
:
فأَسْكرَ القومَ دَوْرُ
(4)
الكأسِ بينهمُ
…
لكنَّ سُكرِي
(5)
نَشَا من رؤيةِ السَّاقِي
وينبغي صونُ المحبّة والحبيب عن هذه الألفاظ، التي غايةُ صاحبها أن يُعذَر بصدقِه وغلبةِ الوارد عليه وقهرِه له. فمحبّة الله أعلى وأجلُّ من أن تُضرَب لها هذه الأمثال، وتُجعَل عُرضةً للأفواه المتلوِّثة، ولكنّ الصّادق في خَفَارةِ صدقِه.
(1)
نحوه في «الرسالة القشيرية» (ص 656). وعزاه السرَّاج في «اللمع» (ص 58) إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما.
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 659).
(3)
لم أجد البيت في المصادر. وفي «الرسالة القشيرية» هنا بيت آخر، وهو:
فأسكر القومَ دورُ كأسٍ
…
وكان سُكْرِي من المديرِ
وهو بلا نسبة في «المحب والمحبوب والمشموم والمشروب» (4/ 262) آخر قصيدة.
(4)
ش: «دون» ، تحريف.
(5)
ش، د:«سكرًا» .
الخامس والعشرون: أن لا يُؤثِرَ على المحبوب غيرَه، وأن لا يتولّى أمورَه
(1)
غيرُه.
السّادس والعشرون: الدُّخول تحت رِقِّ المحبوب وعبوديّته، والحرِّيّةُ من استرقاقِ ما سواه.
السّابع والعشرون: المحبّة سفرُ القلبِ في طلب المحبوب، ولَهَجُ اللِّسان بذكرِه على الدّوام.
قلت: أمّا سفر القلب في طلبه فهو الشّوقُ إلى لقائه، وأمّا لَهَجُ اللِّسان بذكره فلا ريبَ أنّ من أحبّ شيئًا أكثرَ مِن ذِكْرِه.
الثّامن والعشرون: المحبّة ما لا يَنقُص بالجفاء، ولا يزيد بالبرِّ
(2)
.
وهو ليحيى بن معاذٍ. بل الإرادة والطّلب والشّوق إلى المحبوب لذاته، فلا يَنقُص ذلك جفاؤه، ولا يزيده بِرُّه.
وفي هذا ما فيه، فإنّ المحبّة الذّاتيّة تزيد بالبرِّ، ولا ينقُصُها زيادتها بالبرِّ. وليس ذلك بعلّةٍ، ولكنّ مراد يحيى: أنّ القلب قد امتلأ بالمحبّة الذّاتيّة، فإذا جاءهُ البرُّ من محبوبه لم يجد في القلب مكانًا خاليًا من حبِّه تَشْغَلُه محبّةُ البرِّ، بل تلك المحبّة قد استحقّت عليه بالذّات بلا سببٍ. ومع هذا فلا يُزِيل الوهم، فإنّ المحبّة لا نهايةَ لها، وكلّما قويت المعرفة والبرُّ قويت المحبّة، ولا نهايةَ لجمال المحبوب ولا برِّه، فلا نهايةَ لمحبّته. بل لو جُمِعت محبّةُ الخلق كلِّهم وكانت على قلب رجلٍ واحدٍ منهم= لكان ذلك دونَ ما يستحقُّه الرّبُّ جل جلاله.
(1)
ل: «أمورك» .
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 654).
ولهذا لا تُسمّى محبّة العبد لربِّه عشقًا كما سيأتي، لأنّه إفراط المحبّة، والعبد لا يصل في محبّة الله إلى حدِّ الإفراطِ البتّةَ. والله أعلم
(1)
.
التّاسع والعشرون: المحبّة أن يكون كلُّك بالمحبوب مشغولًا، وكلُّك له مبذولًا.
الثّلاثون: وهو من أجمع ما قيل فيها، قال أبو بكرٍ الكتَّانيُّ رحمه الله: جرتْ
(2)
مسألةٌ في المحبّة بمكّة ــ أعزّها الله ــ أيّامَ الموسم، فتكلَّم الشُّيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرَهم سنًّا. فقالوا: هاتِ ما عندك يا عراقيُّ! فأطرقَ رأسَه، ودَمَعتْ عيناه، ثمّ قال: عبد ذاهبٌ عن نفسه، متّصلٌ بذكر ربِّه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرقَ قْلبَه أنوارُ هيبته
(3)
، وصفا شربُه من كأس وُدِّه، وانكشفَ له الجبّار من أستارِ غيبه. فإن تكلَّم فبالله، وإن نطقَ فعن الله، وإن تحرَّكَ فبأمر الله، وإن سكَنَ فمعَ الله، فهو بالله ولله ومع الله.
فبكى الشُّيوخ وقالوا: ما على هذا مزيدٌ. جَبَرَك الله يا تاجَ العارفين
(4)
.
فصل
في الأسباب الجالبة للمحبّة والموجبة لها، وهي عشرةٌ:
أحدها: قراءة القرآن بالتّدبُّر والتّفهُّم لمعانيه وما أُريد به، كتدبُّر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهَّم مراد صاحبه منه.
(1)
«والله أعلم» ليست في د.
(2)
د: «وقعت» .
(3)
كذا في النسخ. وفي «القشيرية» و «روضة المحبين» : «هويَّته» .
(4)
الخبر في «الرسالة القشيرية» (ص 661)، و «روضة المحبين» (ص 553).
الثّاني: التّقرُّب إلى الله بالنّوافل بعد الفرائض، فإنّها تُوصِله إلى درجة المحبوبيّة بعد المحبّة.
الثّالث: دوام ذكره على كلِّ حالٍ: باللِّسان والقلب، والعمل والحال. فنصيبُه من المحبّة على قدر نصيبه من هذا الذِّكر.
الرّابع: إيثار مَحابِّه على مَحابِّك عند غلبات الهوى، والتّسنُّم إلى مَحابِّه وإن صعُبَ المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلُّبه في رياض هذه المعرفة وميادينها. فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبَّه لا محالةَ. ولهذا كانت المعطِّلة والفرعونيّة والجهميّة قُطّاعَ الطّريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
السّادس: مشاهدة بِرِّه وإحسانه وآلائه ونِعَمِه الباطنة والظّاهرة، فإنّها داعيةٌ إلى محبّته.
السّابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكلِّيّته بين يديه، وليس في التّعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الثّامن: الخلوة به وقتَ النُّزول الإلهيِّ، لمناجاتِه وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتّأدُّب بين يديه. ثمّ خَتْم ذلك بالاستغفار والتّوبة.
التّاسع: مجالسة المحبِّين الصّادقين، والتقاط أطايبِ ثمراتِ كلماتهم كما تنتقي أطايبَ الثّمر، ولا تتكلَّم إلّا إذا ترجّحتْ مصلحة الكلام، وعلمتَ أنّ فيه مزيدًا لحالك ومنفعةً لغيرك.
العاشر: مباعدة كلِّ سببٍ يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصَلَ المحبُّون إلى منازل المحبّة، ودخلوا على الحبيب. ومِلاكُ ذلك كلِّه أمران: استعداد الرُّوح لهذا الشّأن، وانفتاح عين البصيرة. وبالله التّوفيق.
فصل
والكلام في هذه المنزلة يتعلق بطرفين: طرف محبّة العبد لربِّه، وطرف محبّة الرّبِّ لعبده. والنّاس في إثبات ذلك ونفيه أربعة أقسامٍ:
فأهلٌ يحبُّهم ويحبُّونه على إثبات الطّرفين، وأنّ محبّة العبد لربِّه فوق كلِّ محبّةٍ تُقدَّر، ولا نسبة لسائر المَحابِّ إليها، وهي حقيقة لا إله إلّا الله. وكذلك عندهم محبّةُ الرّبِّ لأوليائه وأنبيائه ورسله صفةٌ زائدةٌ على رحمته وإحسانه وعطائه، فإنّ ذلك أثر المحبّة ومُوجَبها، فإنّه لما أحبَّهم كان نصيبُهم من رحمته وإحسانه وبرِّه أتمَّ نصيبٍ.
والجهميّة المعطِّلة عكس هؤلاء، فإنّه عندهم لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ. ولم يُمكِنهم تكذيب النُّصوص، فأوّلوا نصوص محبّة العباد له على محبّة طاعته وعبادته، والازدياد من الأعمال لينالوا بها الثّواب. وإن أطلقوا عليهم لفظ المحبّة فلِما ينالون به من الثّواب والأجر. والثّوابُ المنفصل عندهم هو المحبوب لذاته، والرّبُّ تعالى محبوبٌ لغيره حبَّ الوسائل.
وأوّلوا نصوص محبّته لهم بإحسانه إليهم وإعطائهم الثّواب، وربّما أوّلوها بثنائه عليهم ومدحه لهم ونحو ذلك، وربّما أوّلوها بإرادته لذلك. فتارةً يؤوِّلونها بالمفعول المنفصل، وتارةً يؤوِّلونها بنفس الإرادة.
ويقولون: الإرادة إن تعلّقتْ بتخصيص العبد بالأحوال والمقامات العليّة سُمِّيت محبّةً، وإن تعلّقتْ بالعقوبة والانتقام سُمِّيت غضبًا، وإن
تعلّقت بعموم الإحسان سُمِّيت رحمة، وإن تعلَّقت بالإحسان والإنعام الخاصِّ سُمِّيت بِرًّا، وإن تعلَّقتْ بإيصاله في خفاءٍ من حيثُ لا يشعُر ولا يحتسِب سُمِّيتْ لطفًا. وهي واحدةٌ، ولها أسماءٌ وأحكامٌ باعتبار متعلَّقاتها.
ومن جعلَ محبّته للعبد ثناءه عليه ومدْحَه له ردَّها إلى صفة الكلام. فهي عنده من صفات الذّات، لا من صفات الأفعال.
ومن جعلها نفسَ الإنعام والإحسان فهي عنده من صفات الأفعال، والفعل عنده نفس المفعول. فلم يَقُمْ بذات الرّبِّ محبّةٌ لعبده ولا لأنبيائه ورسله البتّة.
ومن ردّها إلى صفة الإرادة جعلها من صفات الذّات باعتبار أصل الإرادة، ومن صفات الأفعال باعتبار تعلُّقها.
ولمّا رأى هؤلاء أنّ المحبّة إرادةٌ وأنّ الإرادة لا تتعلّق إلّا بالمُحدَث المقدور، والقديم يستحيل أن يُراد= أنكروا محبّة العباد والملائكة والأنبياء والرُّسل له، وقالوا: لا معنى لها إلّا إرادة التّقرُّب إليه والتّعظيم له وإرادة عبادته، فأنكروا خاصّةَ الإلهيّة وخاصّة العبوديّة، واعتقدوا هذا من موجبات التّوحيد والتّنزيه. فعندهم لا يتمُّ التّوحيد والتّنزيه إلّا بجحْدِ حقيقة الإلهيّة، وجحْدِ حقيقة العبوديّة.
وجميع طرق الأدلّة ــ عقلًا ونقلًا وفطرةً، وقياسًا واعتبارًا، وذوقًا ووجدًا ــ تدلُّ على إثبات محبّة العبد لربِّه والرّبِّ لعبده.
وقد ذكرنا من ذلك قريبًا من مائة طريقٍ في كتابنا الكبير في المحبّة
(1)
،
(1)
ذكره المؤلف فيما مضى (1/ 141، 2/ 287)، وفي «مفتاح دار السعادة» (1/ 127). وهو غير «روضة المحبين» كما بينت ذلك في مقدمة تحقيقه (ص 8).
وذكرنا فيه فوائد المحبّة، وما تُثمِر لصاحبها من الكمالات، وأسبابها وموجباتها، والرّدّ على من أنكرها، وبيان فساد قوله، وأنّ المنكرين لذلك قد أنكروا خاصّة الخلق والأمر، والغاية التي وُجِدا لأجلها، فإنّ الخلق والأمر والثّواب والعقاب إنّما نشأ عن المحبّة ولأجلها، وهي الحقُّ الذي خُلِقت به السّماوات والأرض، وهي الحقُّ الذي تضمَّنه الأمر والنّهي، وهي سرُّ التألُّه.
وتوحيدُها هو شهادة أن لا إله إلّا الله، وليس كما زعم المنكرون أنّ الإله هو الرّبُّ الخالق، فإنّ المشركين كانوا مقرِّين بأنّه لا ربَّ إلّا الله، ولا خالقَ سواه، وأنَّه وحدَه المنفردُ بالخلق والرُّبوبيّة، ولم يكونوا مقرِّين بتوحيد الإلهيّة، وهو المحبّة والتّعظيم، بل كانوا يتألَّهون مع الله غيرَه. وهذا هو الشِّرك الذي لا يغفره الله، وصاحبه ممّن اتّخذ من دون الله أندادًا.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. فأخبر أنّ من أحبّ من دون الله شيئًا كما يحبُّ الله تعالى فهو ممّن اتّخذ من دون الله أندادًا، فهذا نِدٌّ في المحبّة، لا في الخلق والرُّبوبيّة، فإنّ أحدًا من أهل الأرض لم يُثبِت هذا النِّدّ، بخلاف ندِّ المحبّة، فإنّ أكثر أهل الأرض قد اتّخذوا من دون الله أندادًا في الحبِّ والتّعظيم.
ثمّ قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وفي تقدير الآية قولان
(1)
:
أحدهما: والّذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم
(1)
انظر: «تفسير البغوي» (1/ 136)، و «تفسير القرطبي» (2/ 204).
وآلهتهم، التي يحبُّونها ويعظِّمونها من دون الله.
والثّاني: والّذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله من محبّة المشركين بالأنداد لله. فإنّ محبّة المؤمنين خالصةٌ، ومحبّة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسطٍ منها، والمحبّة الخالصة أشدُّ من المشتركة. والقولان مرتّبان على القولين في قوله:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} فإنّ فيها قولين أيضًا
(1)
.
أحدهما: يحبُّونهم كما يحبُّون الله، فيكون قد أثبتَ لهم محبّةً لله، ولكنّها محبّةٌ شرَّكُوا فيها مع الله أندادَهم.
والثّاني: أنّ المعنى يحبُّون أندادهم كما يحبُّ المؤمنون الله. ثمّ بيَّن أنّ محبّة المؤمنين لله أشدُّ من محبّة أصحاب الأنداد لأندادهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجِّح القول الأوّل، ويقول
(2)
: إنّما ذمُّوا بأن شرَّكوا بين الله وبين أندادهم في المحبّة، ولم يخلصوها لله كمحبّة المؤمنين له.
وهذه هي التّسوية المذكورة في قوله تعالى ــ حكايةً عنهم وهم في النّار، أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي مُحضَرةٌ معهم في العذاب ــ:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]. ومعلومٌ أنّهم لم يُسَوُّوهم بربِّ العالمين في الخلق والرُّبوبيّة، وإنّما سَوَّوهم به في المحبّة والتّعظيم.
(1)
انظر المصدرين السابقين.
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 357 - 359).
وهذا أيضًا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، أي يعدلون به غيرَه في العبادة التي هي المحبّة والتّعظيم. وهذا أصحُّ القولين
(1)
.
وقيل: الباء بمعنى «عن» ، والمعنى: ثمّ الذين كفروا بربهم يعدلون إلى عبادة غيره. وهذا ليس بقويٍّ، إذ لا تقول العرب: عدلتُ بكذا أي عدلتُ عنه، وإنّما جاء هذا في فعل السُّؤال، نحو: سألتُ بكذا أي عنه، كأنّهم ضمَّنوه: اعتنيتُ به واهتممتُ ونحو ذلك.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وهذه تُسمّى آية المحبّة. قال بعض السّلف
(2)
: ادّعى قومٌ محبّة الله، فأنزل الله آية المحبة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} .
وقال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارةً إلى دليل المحبّة وثمرتها وفائدتها. فدليلها وعلامتها: اتِّباع الرّسول صلى الله عليه وسلم. وفائدتها وثمرتها: محبّة المرسل لكم. فما لم تحصل المتابعة فلا محبّتكم له حاصلةٌ، ومحبّته لكم منتفيةٌ.
وقال تعالى: {(53) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]. ذكر لهم أربع علاماتٍ:
(1)
انظر: «تفسير البغوي» (2/ 84).
(2)
انظر: «تفسير الطبري» (5/ 325)، وابن أبي حاتم (2/ 633)، و «الدر المنثور» (3/ 508، 509).
أحدها: أنّهم أذلّةٌ على المؤمنين. قيل
(1)
: معناه أرقّاءُ رحماء، مشفقون عليهم، عاطفون
(2)
عليهم. فلمّا ضمّن «أذلّةً» هذا المعنى عدّاه بأداة «على» . قال عطاءٌ رضي الله عنه
(3)
: للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيِّده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
العلامة الثّالثة
(4)
: الجهاد في سبيل الله بالنّفس واليد واللِّسان والمال، وذلك تحقيق دعوى المحبّة.
العلامة الرّابعة: أنّهم لا يأخذهم في الله لومةُ لائمٍ. وهذا علامة صحّة المحبّة، فكلُّ محبٍّ أخذه اللّوم عن محبوبه فليس بمحبٍّ على الحقيقة. كما قيل
(5)
:
لا كان مَن لِسواك فيه بقيّةٌ
…
يجد السّبيلَ بها إليه اللُّوَّمُ
وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]. فذِكْرُ المقامات الثّلاث ــ الحب، وهو ابتغاء القرب إليه والتّوسُّل إليه بالأعمال الصّالحة. والرّجاء،
(1)
«تفسير البغوي» (2/ 46).
(2)
(3)
«تفسير البغوي» (2/ 47).
(4)
كذا في النسخ، وقد ذُكرت العلامتان فيما مضى، وهما كونهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين.
(5)
أنشده المؤلف في «طريق الهجرتين» (2/ 503، 638)، و «الفوائد» (ص 89)، والقافية فيهما «العُذَّلُ» . ولم أعرف القائل.
والخوف ــ يدلُّ على أنّ ابتغاء الوسيلة أمرٌ زائدٌ على رجاء الرّحمة وخوف العذاب.
ومن المعلوم قطعًا أنه لا يُنافَس إلّا في قرب من يحبُّ قربه، وحبُّ قربِه تبعٌ لمحبّة ذاته، بل محبّةُ ذاته أوجبتْ
(1)
محبّةَ القرب منه. وعند الجهميّة والمعطِّلة: ما من ذلك كلِّه شيءٌ، فإنّه عندهم لا يقرُب ذاته من شيءٍ، ولا يقرب من ذاته شيءٌ، ولا يُحَبُّ لذاته ولا يُحِبُّ.
فأنكروا حياة القلوب
(2)
، ونعيم الأرواح، وبهجة النُّفوس، وقرّة العيون، وأعلى نعيم الدُّنيا والآخرة. ولذلك ضُرِبت قلوبهم بالقسوة، وضرِبَ دونَهم ودون الله حجابٌ على معرفته ومحبّته، فلا يعرفونه ولا يحبُّونه، ولا يذكرونه إلّا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذِكرهم أعظمُ آثامهم وأوزارهم. بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ويرمونهم بالأدواء التي هم أحقُّ بها وأهلها. وحَسْبُ ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت، والتّنفير عن محبّة الله ومعرفته وتوحيده. والله المستعان.
وقال تعالى: {(51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
وقال أحبابه
(3)
وأولياؤه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
(1)
ش، د:«وجبت» .
(2)
د: «القلب» .
(3)
ش: «أحباؤه» .
وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20]. فجعل غاية أعمال الأبرار والمقرّبين والمحبِّين إرادةَ وجهه.
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]. فجعل إرادته غير إرادة الآخرة.
وهذه الإرادة لوجهه موجبةٌ للذّة النّظر إليه في الآخرة، كما في «صحيحي» الحاكم وابن حبّان
(1)
في الحديث المرفوع عن
(2)
فقد اشتمل هذا الحديث الشّريف على ثبوت لذّة النّظر إلى وجه الله، وعلى ثبوت الشّوق إلى لقائه. وعند الجهميّة لا وجهَ له سبحانه، ولا ينظر
(1)
ابن حبان (1971)، و «مستدرك الحاكم» (1/ 524) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا أحمد (18325) والنسائي (1305، 1306). وهو حديث صحيح.
(2)
ل: «إلى» .
إليه، فضلًا أن يحصل به لذّةٌ. كما سمع بعضهم داعٍ
(1)
يدعو بهذا الدُّعاء فقال: ويحك! هَبْ أنّ له وجهًا، أفتَلَذُّ
(2)
بالنّظر إليه؟
(3)
.
وفي «الصحيحين»
(4)
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كنّ فيه وجدَ بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون
(5)
الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلّا لله، وأن يكرهَ أن يعود في الكفر بعدَ
(6)
أن أنقذَه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النّار».
وفي «صحيح البخاريِّ»
(7)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب. وما تقرَّبَ إليّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليّ من أداءِ ما افترضتُ عليه. ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنّوافل حتّى أُحبَّه. فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَه الذي يسمع به، وبصَرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها. وإن سألني لأُعطِينَّه، وإن استعاذني لأُعِيذنَّه» .
(1)
كذا في النسخ مرفوعًا.
(2)
فعل مضارع من لذَّ الشيءَ وبالشيء: وجده لذيذًا. وفي بعض المصادر: «أفتلتذ» ، و «أفتتلذذ» و «يتلذذ» .
(3)
هذا يُروى عن أبي الوفاء ابن عقيل. انظر: «الاستقامة» (2/ 98)، و «النبوات» (1/ 342)، و «مجموع الفتاوى» (8/ 355، 10/ 695)، و «منهاج السنة» (5/ 392).
(4)
البخاري (16)، ومسلم (43).
(5)
د: «من كان» . وكذلك في بعض الروايات.
(6)
«بعد» ليست في ش.
(7)
رقم (6502).
وفي «الصّحيحين»
(1)
عنه أيضًا عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أحبَّ الله العبدَ دعا جبريل، فقال: إنِّي أحبُّ فلانًا فأحِبَّه. فيحبُّه جبريل، ثمّ ينادي في السّماء فيقول: إنّ الله يحبُّ فلانًا فأَحِبُّوه. فيحبُّه أهل السّماء. ثمّ يُوضَع له القبول في الأرض» . وذكر في البغض مثل ذلك.
وفي «الصّحيحين»
(2)
عن عائشة رضي الله عنها في حديث أمير السّريّة الذي كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لأصحابه في كلِّ صلاةٍ، وقال: لأنّها صفة الرّحمن، فأنا أحبُّ أن أقرأ بها، فقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَخبِروه أنّ الله يُحِبُّه» .
وفي «جامع التِّرمذيِّ»
(3)
من حديث أبي إدريس الخَولانيِّ عن أبي الدّرداء رضي الله عنه عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «كان من دعاء داود عليه السلام: اللهمّ إنِّي أسألك حُبَّك وحُبَّ من يُحِبُّك، والعملَ الذي يُبلِّغني حبَّك. اللهمّ اجعلْ حُبَّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد» .
وفيه
(4)
أيضًا من حديث عبد الله بن يزيد الخَطْميِّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللّهمّ ارزقْني حبَّك، وحبَّ من ينفعني حبُّه عندك. اللّهمَّ ما رزقتَني ممّا أُحِبُّ فاجعله قوّةً لي فيما تُحِبُّ، اللهمَّ وما زَويتَ عنِّي ممّا أُحِبُّ فاجعلْه فراغًا لي فيما تُحِبُّ» .
(1)
البخاري (3209)، ومسلم (2637).
(2)
البخاري (7375)، ومسلم (813).
(3)
رقم (3490). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. يشير بذلك إلى ضعفه، ففي إسناده عبد الله بن ربيعة الدمشقي، وهو مجهول. وانظر:«السلسلة الضعيفة» (1125).
(4)
رقم (3491). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وفي إسناده سفيان بن وكيع، قال ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 616): إنه متهم بالكذب.
والقرآن والسُّنّة مملوءان بذكرِ من يحبُّه سبحانه من عباده، وذكرِ ما يحبُّه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم. كقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ} [البقرة: 222]، {(3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ} [الصف: 4]، {مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ} [التوبة: 4].
وقوله في ضدِّ ذلك: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].
وكم في السُّنّة أحبُّ الأعمال إلى الله كذا، وإنّ الله يحبُّ كذا. كقوله:«أحبُّ الأعمال إلى الله: الصّلاة على وقتها، ثمّ برُّ الوالدين، ثمّ الجهاد في سبيل الله»
(1)
. و «أحبُّ الأعمال إلى الله: الإيمان بالله، ثمّ الجهاد في سبيل الله، ثمّ حجٌّ مبرورٌ»
(2)
. و «أحبُّ العمل إلى الله: ما داوم عليه صاحبه»
(3)
. و «إنّ الله يحبُّ أن يُؤخَذ برخَصِه»
(4)
. وأضعاف أضعاف ذلك. وفرحُه العظيم
(1)
أخرجه البخاري (527، 5970)، ومسلم (85) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (5861)، ومسلم (782) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه أحمد (5866، 8573)، وابن خزيمة (950، 2027)، وابن حبان (2742، 3568) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «إن الله يحب أن تُؤتى رخصه» ، وإسناده صحيح.
بتوبة عبده الذي هو أشدُّ فرحٍ يعلمه العباد هو من محبّته للتّوبة وللتّائب.
فلو بطلت مسألة «المحبّة» لبطلتْ جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطَّلتْ منازلُ السّير، فإنّها روح كلِّ مقامٍ ومنزلةٍ وعملٍ، فإذا خلا منها فهو ميِّتٌ لا روحَ فيه. ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام، فإنّه الاستسلام بالذُّلِّ والحبِّ والطّاعة لله، فمن لا محبّةَ له لا إسلامَ له البتّةَ. بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلّا الله، فإنّ الإله هو الذي تَألَهُه العباد حبًّا وذلًّا، وخوفًا ورجاءً، وتعظيمًا وطاعةً، «إله» بمعنى مألوهٍ، وهو الذي تألهه القلوب، أي تُحبُّه وتَذِلُّ له. وأصل التّألُّه التّعبُّد، والتّعبد آخر مراتب الحبِّ. يقال: عبَّدَه الحبُّ وتَيَّمَه: إذا ملكه وذَلَّلَه لمحبوبه.
«فالمحبّة» حقيقة العبوديّة. وهل يمكن الإنابة بدون المحبّة والرِّضا، والحمد والشُّكر، أو الخوف والرّجاء؟ وهل الصّبر في الحقيقة إلّا صبر المحبِّين؟ فإنّهم إنّما يتوكَّلون على المحبوب في حصول مَحابِّه ومَراضيه.
وكذلك «الزُّهد» في الحقيقة هو زهد المحبِّين، فإنّهم يَزهَدون في محبّة ما سواه لمحبّته.
وكذلك «الحياء» في الحقيقة إنّما هو حياء المحبِّين، فإنّه يتولَّد من بين الحبِّ والتّعظيم. وأمّا ما لا يكون عن محبّةٍ فذاك خوفٌ محضٌ.
وكذلك مقام «الفقر» فإنّه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها، وهو أعلى أنواع الفقر. فإنّه لا فقرَ أتمُّ من فقر القلب إلى من يحبُّه، لا سيّما إذا وحَّده
(1)
في
(1)
ش، د:«وجده» . والمثبت من ل.
الحبِّ، ولم يجد منه عوضًا سواه. وهذا حقيقة الفقر عند العارفين.
وكذلك «الغنى» هو غنى القلب بحصول محبوبه. وكذلك «الشّوق» إلى الله تعالى ولقائه، فإنّه لبُّ المحبّة وسرُّها. كما سيأتي.
فمنكرُ هذه المسألة ومُعطِّلها من القلوب معطِّلٌ لذلك كلِّه، وحجابه أكثفُ الحجب، وقلبه أقسى القلوب وأبعدُها عن الله. وهو منكرٌ لخلّة إبراهيم عليه السلام. فإنّ
(1)
الخلّة كمال المحبّة، وهو يتأوّلُ الخليل بالمحتاج، فخليل الله عنده
(2)
هو المحتاج. فكم ــ على قوله ــ لله من خليلٍ برٍّ وفاجرٍ، بل مؤمنٍ وكافرٍ، إذ كثيرٌ من الكفّار من يُنزِل حوائجَه كلّها بالله صغيرَها وكبيرَها، ويرى نفسه أحوجَ شيءٍ إلى ربِّه في كلِّ حالةٍ.
فلا بالخلّة أقرَّ المنكرون، ولا بالعبوديّة، ولا بتوحيد الإلهيّة، ولا بحقائق الإسلام والإيمان والإحسان. ولهذا ضحّى خالد بن عبد الله القَسْريُّ بمقدَّم هؤلاء وشيخهم جَعْد بن درهمٍ، وقال في يوم العيد الأكبر، عقيب خطبته: أيُّها النّاس، ضَحُّوا، تقبَّلَ الله ضحاياكم، فإنِّي مُضحٍّ بالجعد بن درهمٍ، إنّه زعم أنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلِّم موسى تكليمًا. تعالى الله عمّا يقول الجعد علوًّا كبيرًا. ثمّ نزل فذبحه
(3)
، فشكر المسلمون سعيه. رحمه الله تعالى وتقبّل منه.
فصل
في مراتب المحبّة
وهي عشر
(1)
:
أوّلها: العَلاقة، وسمِّيت عَلاقةً لتعلُّق القلب بالمحبوب. قال الشّاعر
(2)
:
أعَلاقةً أمّ الوُلَيِّدِ
(3)
بعدَ ما
…
أفنانُ رأسِكَ كالثَّغَامِ المُخْلِس
الثّانية
(4)
: الإرادة، وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
الثّالثة: الصَّبابة، وهي انصباب القلب إليه بحيثُ لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور. واسم الصِّفة منها صَبٌّ، والفعل صَبَا إليه يصبو صِبًا وصَبابةً
(5)
، فعاقَبوا بين المضاعف والمعتلِّ، وجعلوا الفعل من المعتلِّ والصِّفة من المضاعف. ويقال: صِبًا وصَبوةً وصَبابةً. فالصِّبا: أصل الميل، والصَّبوة: فوقه، والصَّبابة: الميل اللّازم وانصبابُ القلب بكلِّيّته.
(1)
انظر الكلام على أسماء المحبة ومراتبها عند المؤلف في «روضة المحبين» (ص 25 وما بعدها). وفي «فقه اللغة» للثعالبي (ص 188 - 189) فصل في ترتيب الحب وتفصيله.
(2)
البيت للمرار بن سعيد الفقعسي في «شعره» (ص 461). وانظر مزيد التخريج في تعليقي على «روضة المحبين» (ص 36).
(3)
ش، د:«الوليدة» .
(4)
ش، ل:«الثاني» .
(5)
كذا في النسخ، وهو مصدر «صَبَّ» المضعف.
الرّابعة: الغَرام، وهو الحبُّ اللّازم للقلب، الذي لا يفارقه، بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه
(1)
. ومنه سمِّي عذاب النّار غَرامًا للزومِه لأهله، وعدمِ مفارقته لهم. قال تعالى:{عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65].
الخامسة: الوِداد، وهو صَفْو المحبّة وخالصها ولبُّها. والوَدود من أسماء الرّبِّ تعالى، وفيه قولان
(2)
:
أحدهما: أنّه المودود. قال البخاريُّ رحمه الله في «صحيحه»
(3)
: الوَدود الحبيب.
والثّاني: أنّه الوادُّ لعباده، أي المحبُّ لهم. وقَرنَه باسمه «الغفور» إعلامًا بأنّه يغفر الذّنب
(4)
، ويحبُّ التّائب منه ويَوَدُّه. فحظُّ التّائب: نيلُ المغفرة منه والودُّ.
وعلى القول الأوّل يكون سرُّ الاقتران استدعاء مودّة العباد له، ومحبّتهم إيّاه باسمه الغفور.
السّادسة: الشَّغَف. يقال: شُغِفَ بكذا، فهو مَشغوفٌ به، وقد شَغَفَه المحبوب، أي وصل حبُّه إلى شَغَاف قلبه. كما قال النِّسوة عن امرأة العزيز:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30]. وفيه ثلاثة أقوالٍ
(5)
:
(1)
«لغريمه» ليست في ش، د.
(2)
انظر: «شأن الدعاء» للخطابي (ص 74)، و «زاد المسير» (4/ 152).
(3)
(13/ 403 مع «الفتح»).
(4)
ش، د:«الذنوب» .
(5)
في «زاد المسير» (4/ 214) أربعة أقوال. وانظر: «تفسير البغوي» (2/ 422).
أحدها: أنّه الحبُّ المستولي على القلب، بحيث يَحجُبه عن غيره. قال الكلبيُّ
(1)
: حجبَ حبُّه قلبَها حتّى لا تعقل سواه.
الثّاني: أنه الحبُّ الواصل إلى داخل القلب. قال صاحب هذا القول: المعنى أحبَّتْه حتّى دخل حبُّه شَغافَ قلبها، أي داخِلَه.
الثّالث: أنّه الحبُّ الواصل إلى غِشاء القلب. والشَّغاف غشاء القلب، إذا وصل الحبُّ إليه باشر القلب. قال السُّدِّيُّ رحمه الله
(2)
: الشَّغاف جلدةٌ رقيقةٌ على القلب، يقول: دخله الحبُّ حتّى أصاب القلبَ.
وقرأ بعض السّلف
(3)
: «شعفها» بالعين المهملة. ومعناه: ذهب الحبُّ بها كلَّ مذهبٍ، وبلغ بها
(4)
أعلى مراتبه، ومنه: شَعَفُ الجبال، لرؤوسها.
السّابعة: العشق، وهو الحبُّ المفرط الذي يُخاف
(5)
على صاحبه منه. وعليه تأوّل إبراهيم ومحمّد بن عبد الوهّاب: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قال محمّدٌ: هو العشق
(6)
.
(1)
كما في «تفسير البغوي» .
(2)
المصدر نفسه.
(3)
الشعبي والأعرج كما في «تفسير البغوي» (2/ 422)، وعبد الله بن عمرو وعلي بن الحسين والحسن البصري ومجاهد وابن محيصن وابن أبي عبلة كما في «زاد المسير» (4/ 215).
(4)
«بها» ليست في ش، د.
(5)
ش، د:«يخلق» .
(6)
«تفسير البغوي» (1/ 275). وانظر: «زاد المسير» (1/ 348).
ورُفع إلى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما شابٌّ وهو بعرفةَ قد صار كالخِلال، فقال: ما به؟ قالوا: العشق. فجعل ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عامّةَ دعائه بعرفة
(1)
الاستعاذةَ من العشق
(2)
.
وفي اشتقاقه قولان:
أحدهما: أنّه من العَشَقة، وهي نبتٌ أصفر
(3)
يلتوي على الشّجر، فشُبِّه به العاشق.
والثّاني: أنّه من الإفراط.
وعلى القولين فلا يوصف به الرّبُّ تعالى، ولا العبدُ في محبّة ربِّه، وإن أطلقه سكرانُ من المحبّة قد أفناه الحبُّ عن تمييزه، كان في خَفارة صدقِه ومحبّته.
الثّامنة: التّتيُّم، وهو التّعبُّد والتّذلُّل. يقال: تَيَّمه الحبُّ أي ذلَّلَه وعبَّده، وتَيمُ الله: عبد الله. وبينه وبين اليُتْم ــ الذي هو الانفراد ــ تَلاقٍ في الاشتقاق الأوسط، وتناسبٌ في المعنى، فإنّ
(4)
المتيَّم منفردٌ بحبِّه وشَجْوه، كانفراد اليتيم بنفسه عن أبيه، وكلٌّ منهما مكسورٌ ذليلٌ. هذا كَسْرُه يُتْمٌ، وهذا كسره تتيُّمٌ.
(1)
«بعرفة» ليست في ش، د.
(2)
أخرجه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 322)، والسراج في «مصارع العشاق» (2/ 217)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 373)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (37/ 21 - 22، 29/ 179).
(3)
ل: «أصغر» . والعشقة: شجرة اللبلاب.
(4)
«فإن» ليست في د.
التّاسعة: التّعبُّد، وهو فوق التّتيُّم. فإنّ العبد الذي قد ملك المحبوبُ رِقَّه فلم يبقَ له شيءٌ من نفسه البتّةَ، بل كلُّه عبد لمحبوبه ظاهرًا وباطنًا. وهذا هو حقيقة العبوديّة، ومن كمَّلَ ذلك فقد كمَّلَ مرتبتها.
ولمّا كمّلَ سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة وصفَه الله بها في أشرفِ مقاماته: مقامِ الإسراء كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، ومقام الدّعوة كقوله:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، ومقام التّحدِّي كقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]. وبذلك استحقّ التّقديم على الخلائق في الدُّنيا والآخرة.
ولذلك يقول المسيح عليه السلام لهم إذا طلبوا منه الشّفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: «اذهبوا إلى محمّدٍ، عبدٍ غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر»
(1)
.
فسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: فحصلتْ له تلك المرتبة بتكميل عبوديّته لله تعالى، وكمالِ مغفرة الله له.
وحقيقة العبوديّة: الحبُّ التّامُّ، مع الذُّلِّ التّامِّ والخضوع للمحبوب. تقول العرب: طريقٌ مُعبَّدٌ، أي قد ذَلَّلته الأقدام وسَهَّلته
(2)
.
العاشرة: مرتبة الخُلَّة التي انفرد بها الخليلان
(3)
إبراهيم ومحمّدٌ صلّى
(1)
جزء من حديث الشفاعة الطويل الذي رواه البخاري (4712)، ومسلم (194) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: «العبودية» ضمن «مجموع الفتاوى» (10/ 153).
(3)
ش، د:«الخليل» .
الله عليهما وسلّم كما صحّ عنه: «إنّ الله اتّخذني خليلًا، كما اتّخذ إبراهيم خليلًا»
(1)
. وقال: «لو كنت متّخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتّخذت أبا بكرٍ خليلًا، ولكنّ صاحبكم خليل الرّحمن»
(2)
. والحديثان في «الصّحيح» .
وهما يُبطِلان قولَ من قال: الخلّة لإبراهيم والمحبّة لمحمّدٍ، فإبراهيم خليله ومحمّدٌ حبيبه
(3)
.
والخُلَّة هي المحبّة التي تخلَّلتْ روحَ المحبِّ وقلْبَه، حتّى لم يبقَ فيه موضعٌ لغير محبوبه، كما قيل
(4)
:
قد تَخلَّلْتِ مسلكَ الرُّوحِ منِّي
…
وبذا سُمِّي الخليلُ خليلًا
وهذا هو السِّرُّ الذي لأجله ــ والله أعلم ــ أُمر الخليل بذبح ولدِه وثمرةِ فؤادِه وفِلْذَة كبدِه، لأنّه لمّا سأل الولدَ فأُعطِيَه تعلّقتْ به شعبةٌ من قلبه. والخلّة منصبٌ لا يقبل الشّركة والقسمة، فغارَ الخليل على خليله أن يكون في قلبه موضعٌ لغيره، فأَمره بذبح الولد ليخرج المزاحم من قلبه. فلمّا وطَّن نفسَه على ذلك، وعزم عليه عزمًا جازمًا، حصل مقصود الأمر، فلم يبقَ في إزهاقِ نفس الولد مصلحةٌ. فحالَ بينه وبينه، وفَداه بالذِّبح العظيم. وقيل له:
(1)
أخرجه مسلم (532) من حديث جندب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (2383) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والجزء الأول منه مخرَّج في مواضع من «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري، وابن عباس، وجندب رضي الله عنهم.
(3)
نحوه في «مجموع الفتاوى» (10/ 204)، و «الداء والدواء» (ص 446).
(4)
أنشده المؤلف في «روضة المحبين» (ص 77)، وشيخ الإسلام في «الفتاوى» (10/ 204). وهو بلا نسبة في «المنتحل» (2/ 801)، و «ديوان الصبابة» (ص 37).
{يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أي عملتَ عملَ المصدِّق {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} نجزي من بادر إلى طاعتنا، بأن نُقِرَّ عينه، كما أقررنا عينَك بامتثال أوامرنا وإبقاء الولد وسلامته، {إِنَّ هَذَا لَهْوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 104 - 106] وهو اختبار المحبوب لمحبِّه، وامتحانه إيّاه ليُؤثِر مرضاته، فيُتِمّ نعمتَه عليه، فهو بلاء محنةٍ ومنحةٍ عليه معًا.
وهذه الدّعوة إنّما دعا الله بها خواصَّ خلقه، وأهلَ الألباب والبصائر منهم، فما كلُّ أحدٍ يجيب داعيَها، ولا كلُّ عينٍ قريرةٌ بها. وأهلُها هم الذين حصلوا في وسطِ قبضة اليمين يومَ القبضتين، وسائر أهل اليمين في أطرافها.
فما كلُّ عينٍ بالحبيب قريرةً
…
ولا كلُّ من نُودِيْ يُجيبُ المناديا
(1)
…
ومن لم يُجِبْ داعِي هُداك فخَلِّهِ
…
يُجِبْ كلَّ من أضحى إلى الغَيِّ داعيا
…
وقل للعيون الرُّمْد: إيّاكِ أن تَرَيْ
…
سَنا الشّمسِ فاستغشِيْ ظلامَ اللَّياليا
(2)
وسامِحْ نفوسًا لم تَهيَّأْ لحبِّهم
…
ودَعْها وما اختارتْ ولا تكُ جافيا
…
وقُلْ للّذي قد غابَ يكفي عقوبةً
…
مَغِيبُك عن ذا الشّأنِ لو كنتَ واعيا
…
وواللهِ لو أضحى نصيبُك وافرًا
…
رحمتَ عدوًّا حاسدًا لك قاليا
(1)
يبدو أن القصيدة للمؤلف. والبيتان 3، 4 منها في «أعلام الموقعين» (2/ 375، 376)، والبيت 3 في «زاد المعاد» (3/ 50). والأبيات الثلاثة الأخيرة مع خبر في «الرسالة القشيرية» (ص 657)، و «مصارع العشاق» (1/ 109)، و «طريق الهجرتين» (2/ 683). وقد ضمَّنها المؤلف في القصيدة. وبيتان من هذه الثلاثة لامرأة في «الموشى» (ص 126) و «أخبار النساء» (ص 61)، وللمجنون في «المستطرف» (3/ 76).
(2)
بهامش ش: «ظلاما لياليا» .
ألم تَرَ آثارَ القطيعةِ قد بَدَتْ
…
على حالِه فارحَمْه إن كنت رائيَا
…
خَفافيش أعشاها النّهارُ بضوئِه
…
ولاءَمَها
(1)
قِطْعٌ من اللّيلِ باديا
…
فجالتْ وصالتْ فيه حتّى إذا سَنَا النْـ
…
ـنَهارِ بدا
(2)
اسْتَخْفَتْ وأَعطَتْ تَواريا
…
إذا ظلمةُ اللّيل انجلَتْ بضيائها
…
يعودُ لعينيه ظلامًا
(3)
كما هِيا
فيا محنةَ الحسناءِ تُهدَى إلى امرئٍ
…
ضَريرٍ وعِنِّينٍ من الوجدِ خاليا
فضَنَّ
(4)
بها إن كنتَ تعرِفُ قدْرَها
…
إلى أن ترى كُفْؤًا أتاك مُوافيا
فما مهرها شيءٌ سوى الرُّوح أيُّها الْـ
…
جَبانُ تَأخَّرْ لستَ كُفْؤًا مُساويا
فكن أبدًا حيثُ استقلَّتْ ركائبُ الْ
…
محبّةِ في ظهر العزائمِ ساريا
وأدلِجْ ولا تَخْشَ الظّلامَ فإنّه
…
سيكفيكَ وجهُ الحبِّ في اللّيل هاديا
وسُقْها
(5)
بذكراه مَطاياك إنّه
…
سَيكفي المطايا طِيبُ ذكراه حاديا
وعِدْها بروحِ الوصل تُعْطِك سَيْرَها
…
كما شئتَ واستبقِ العظامَ البواليا
وأَقدِمْ فإمّا مُنْيةٌ أو مَنِيَّةٌ
…
تُرِيحُك من عيشٍ به لستَ راضيا
فما ثَمَّ إلّا الوصلُ أو تَلَفٌ بهم
…
وحَسْبُك فوزًا ذاك إن كنتَ واعيا
أما سَئِمتْ من عيشِها نفسُ والهٍ
…
تَبيتُ بنار البعد تَلْقى المكاويا
أمَا موتُه فيهم حياةٌ، وذُلُّه
…
هو العزُّ، والتّوفيق، ما زال غاليا
أما يَستحي مَن يدَّعي الحبَّ باخلًا
…
بما لحبيبٍ عنه يَدْعوه ذَا ليا
(1)
في هامش ش: «ولازمها» (أو)«وإذ يمَّها» برمز ظ.
(2)
ل: «حتى إذا بدا النهار لها» . والمثبت من ش، د.
(3)
بهامش ش: «الظلامُ» برمز ظ.
(4)
ش: «فطن» . والتصويب من هامشها. وضبطها بضم الضاد، والصواب فتحها، فهو فعل أمر من باب فرح.
(5)
بهامش ش: «وسَوقًا» .
أما تلك دعوى كاذبٍ ليس حظُّه
…
من الحبِّ إلّا قولَه والأمانيا
أمَا أنفُسُ العشّاقِ مِلْكٌ لغيرهم
…
بإجماع أهلِ الحبِّ ما زالَ فاشيا
أما سمعَ العشّاقُ قولَ حبيبةٍ
…
لِصَبٍّ بها وَافى من الحبِّ شاكيا
«ولمّا شَكوتُ الحبَّ قالت كَذَبْتَني
…
ألستُ أرى الأعضاءَ منك كَواسِيا
فلا حُبَّ حتّى يَلْصَقَ القلبُ بالحَشَا
…
وتَخْرَسَ حتّى لا تُجِيبَ مناديا
(1)
وتَنْحُلَ حتّى لا يُبَقِّي لك الهوى
…
سوى مُقْلةٍ تَبكِي بها وتُناجِيا»
فصل
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(2)
: (المحبّة: تعلُّق القلب بين الهِمّة والأُنس).
يعني: تعلُّق القلب بالمحبوب تعلُّقًا مقترنًا بهمّة المحبِّ وأُنسِه بالمحبوب، في حالتَي بذْلِه ومنْعِه، وإفرادُه بذلك التّعلُّق بحيثُ لا يكون لغيره فيه نصيبٌ.
وإنّما أشار إلى أنّها بين الهمّة والأنس لأنّ الهمّة لمّا كانت هي نهاية شدّة الطّلب، وكان المحبُّ شديد الرّغبة والطّلب، كانت الهمّة من مُقوِّمات حبِّه وجملةِ صفاته. ولمّا كان الطّلب بالهمّة قد يَعرى
(3)
عن الأنس، وكان المحبُّ لا يكون إلّا مستأنسًا بجمال محبوبه، وطمعه بالوصول إليه، فمن هذين يتولَّدُ الأنس= وجب أن يكون المحبُّ موصوفًا بالأنس، فصارت المحبّة قائمةً بين الهمّة والأنس.
(1)
ل: «المناديا» .
(2)
(ص 71).
(3)
ل: «تعرى» .
ويريد بالبذل والمنع أحد أمرين: إمّا بذل الرُّوح والنّفس لمحبوبه، ومنعها عن غيره، فيكون البذل والمنع صفة المحبِّ. وإمّا بذل الحبيب ومنعه، فتتعلّق همّةُ المحبِّ به في حالتَيْ بذلِه ومنعِه.
ويريد بالإفراد معنيين: إمّا إفراد المحبوب وتوحيده بذلك التّعلُّق، وإمّا فناءه في محبّته، بحيث ينسى نفسه وصفاته في ذكر محاسن محبوبه، حتّى لا يبقى إلّا المحبوب وحده.
والمقصود: إفراد المحبِّ لمحبوبه بالتوجُّه والمحبّة.
فصل
قال
(1)
: (والمحبّة أوّلُ أودية الفناء، والعَقَبة التي ينحدرُ منها على منازل المَحْو. وهي آخرُ منزلٍ تلتقي
(2)
فيه مقدِّمةُ العامّة وساقَةُ الخاصّة).
إنّما كانت المحبّة أوّلَ أودية الفناء لأنّها تُفنِي خواطرَ المحبِّ عن التّعلُّقِ بالغير. وأوّلُ ما يَفنى من المحبِّ خواطرُه المتعلِّقة بِسِوى محبوبه، لأنّه إذا انجذبَ قلبه بكلِّيّته إلى محبوبه انجذبتْ خواطِرُه تبعًا.
ويريد بمنازل المحو مقاماته.
وأوّلها: مَحْو الأفعال في فعل الحقِّ تعالى، فلا يرى لنفسه ولا لغيره فعلًا.
الثّاني: مَحْو الصِّفات التي في العبد. فيراها عاريةً أُعِيرَها وهِبةً وُهِبَها، ليستدلّ بها على بارئه وفاطره، وعلى وحدانيّته وصفاته. فيعلم بواسطة
(1)
(ص 71).
(2)
«المنازل» : «تلقى» .
حياته: معنى حياة ربِّه، وبواسطة علمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه وغضبه ورضاه: معنى علم ربِّه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه وغضبه ورضاه. ولولا هذه الصِّفات فيه لما عرفها من ربِّه.
وهذا أحد التّأويلات في الأثر الإسرائيليِّ: اعرِفْ نفسَك تَعرِفْ ربَّك
(1)
.
وهذه الصِّفات في الحقيقة أثرُ الصِّفات الإلهيّة فيه، فإنّها أثر أفعال الحقِّ، وأفعالُه موجَب صفاتِه وأسمائه. فإذًا عاد الأمر كلُّه إلى أفعاله، وعادت أفعاله إلى صفاته.
ففي هذه المنزلة يمحو العبد شهودَ صفاته ووجودها الذي ليس بحقيقيٍّ، [ويُثبِت]
(2)
شهودَ صفات المعبود ووجودها الحقيقيِّ. فالله سبحانه منحَ عبدَه هذه الصِّفات ليعرفَه بها، ويستدلَّ بها عليه. فإن لم يفعلها
(3)
عطَّلَ عليه طريقَ المعرفة والاستدلال بها، فصارت بمنزلة العدم. ولهذا يُوصف الغافل عن الله بالصَّمَم والبَكَم والعمى والموت وعدم العقل.
الثّالث: محو الذّات. وهو شهود تفرُّد الحقِّ تعالى بالوجود أزلًا وأبدًا، وأنّه الأوّل الذي ليس قبله شيءٌ، والآخر الذي ليس بعده شيءٌ، ووجود كلِّ ما سواه قائمٌ به وأثرُ صنعِه، فوجوده هو الوجود الواجب الحقُّ، الثّابت بنفسه
(4)
أزلًا وأبدًا، وأنّه المنفرِد بذلك.
(1)
تقدم تخريجه (2/ 46) والكلام على هذه التأويلات.
(2)
ليست في ش، د، ل. وبها يستقيم المعنى.
(3)
ل: «يعقلها» .
(4)
ل: «لنفسه» .
وهذا المحو يصحُّ باعتبارين:
أحدهما: باعتبار الوجود الذّاتيِّ. ولا ريبَ في إثبات محوه بهذا الاعتبار، إذ ليس مع الله موجودٌ بذاته سواه، وكلُّ ما سواه فوجودُه بإيجاده سبحانه.
الاعتبار الثّاني: المحو في الشهود. فلا يشهد فاعلًا غيرَ الحقِّ سبحانه، ولا صفاتٍ غيرَ صفاته، ولا موجودًا سواه، لغَيبتِه بكمال شهوده عن شهود غيره.
وأمّا محو ذلك من الوجود جملةً فهو محْوُ الزّنادقة وطائفة الاتِّحاديّة. وصاحب «المنازل» وكلُّ وليٍّ لله بريءٌ منهم حالًا وعقيدةً.
والمقصود أنَّ مِن عَقَبة المحبّة ينحدر المحبُّ على منازل المحو.
ولمّا كانت منازل المحو والفناء غايةً عند صاحب «المنازل» جعلَ المحبّة عقبةً ينحدر منها إليها.
وأمّا من جعل المحبّة غايةً فمنازلُ المحو عنده أوديةٌ يصعد منها إلى روح المحبّة. وليس بعد المحبّة الصّحيحة إلّا منازل البقاء، وأمّا الفناء والمحو فعِقَابٌ
(1)
وأوديةٌ في طريقها عند هؤلاء. والله أعلم.
قوله: (وهي آخر منزلةٍ تلتقي فيه مقدِّمة العامّة وساقةُ الخاصّة).
هذا بناء على الأصل الذي ذكره، وهو أنّ المحبّة ينحدر منها على أودية الفناء فهي أوّل أودية
(2)
الفناء. فمقدّمةُ العامّة هم في آخر مقام المحبّة،
(1)
جمع عَقَبة.
(2)
ل: «منزلة» .
وساقةُ الخاصّة في أوّل منزلة الفناء، ومنزلة الفناء متّصلةٌ بآخر منزلة المحبّة، فالتقَى
(1)
حينئذٍ مقدِّمة العامّة بساقة الخاصّة. هذا شرح كلامه.
وعند الطّائفة الأخرى: الأمر بالعكس. وهو أنّ مقدِّمة أرباب الفناء يلتقون بساقةِ أربابِ المحبّة، فإنّهم أمامَهم في السّير، وهم أمام الرَّكْب دائمًا. وهذا بناءً على أنّ أهل البقاء في المحبّة أعلى شأنًا من أهل الفناء. وهو الصّواب. والله أعلم.
فصل
قال
(2)
: (وما دونها: أغراضٌ لأعواضٍ).
يعني ما دون المحبّة من المقامات فهي
(3)
أغراضٌ من المخلوقين لأجل أعواضٍ ينالونها، وأمّا المحبُّون
(4)
فإنّهم عبيدٌ له
(5)
. والعبد ونفسه وعمله ومنافعه مِلْكٌ لسيِّده، فكيف يعاوضه على ملكه؟ والأجير عند أخذ أجرِه ينصرف، والعبد في الباب لا ينصرف. فلا عبوديّةَ إلّا عبوديّةُ أهل
(6)
المحبّة الخالصة. أولئك الفائزون بشرف الدُّنيا والآخرة، وأولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
(1)
ل: «فالملتقى» .
(2)
«المنازل» (ص 71).
(3)
د: «فهو» .
(4)
ش: «المحبوب» .
(5)
«له» ليست في ل.
(6)
«أهل» ليست في د.