الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صيانته على ابتذاله، ومن صفاته المذمومة على صفاته الممدوحة
(1)
.
وهذه الغيرة خاصِّيّة النّفس الشّريفة الزّكيّة العُلْويّة، وما للنّفس الدّنيّة المَهِينة فيها نصيبٌ، وعلى قدر شرفِ النّفس وعلوِّ همّتها تكون هذه الغيرة.
ثمّ الغيرة أيضًا نوعان: غيرة الحقِّ تعالى على عبده، و
غيرة العبد لربِّه
لا عليه.
فأمّا
غيرة الرّبِّ على عبده:
فهي أن لا يجعله للخلق [عبدًا]
(2)
، بل يتّخذه لنفسه عبدًا، فلا يجعل له فيه شُركاء متشاكسينَ، بل يُفرِده لنفسه، ويَضَنُّ به على غيره. وهذه أعلى الغيرتين.
وغيرة العبد لربِّه نوعان أيضًا: غيرةٌ من نفسه، وغيرةٌ من غيره. فالّتي من نفسه: أن لا يجعل شيئًا من أعماله وأقواله وأحواله ولا أوقاته وأنفاسه لغير ربِّه. والّتي من غيره: أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاونَ بها المتهاونون.
وأمّا الغيرة على الله: فأعظمُ الجهل وأبطلُ الباطل، وصاحبها من أعظم النّاس جهلًا، وربّما أدَّتْ بصاحبها إلى معاداته لربّه وهو لا يشعر، وإلى انسلاخه من أصل الدِّين والإسلام. وربّما كان صاحبها شرًّا على السّالكين إلى الله من قُطَّاع الطّريق، بل هو
(3)
من قُطّاع طريق السّالكين حقيقةً، وأخرج قَطْع الطّريق في قالب الغيرة. وأين هذا من الغيرة لله التي تُوجب تعظيمَ
(1)
ت: «المحمودة» .
(2)
ليست في ش، د، ت.
(3)
«هو» ليست في ت.
حقوقه، وتصفيةَ أعماله وأحواله؟ فالعارف يَغار لله، والجاهل يَغار على الله. فلا يقال: أنا أَغارُ على الله، ولكن أنا أَغار لله.
وغيرة العبد من نفسه: أهمُّ من غيرته من غيره، فإنّك إذا غِرْتَ من نفسك صحَّتْ لك غيرتك لله من غيرك، وإذا غِرْتَ له من غيرك ولم تَغَرْ من نفسِك فالغيرة مدخولةٌ معلولةٌ ولا بدَّ. فتأمّلْها وحَقِّق النّظرَ فيها.
فليتأمّل السّالك اللّبيب هذه الكلمات في هذا المقام، الذي زلَّتْ فيه أقدام كثيرٍ من السّالكين. والله الهادي الموفِّق المثبِّت.
كما حكي عن واحدٍ أنّه قال: لا أستريح حتّى لا أرى من يذكر الله
(1)
. يعني غيرةً عليه من أهل الغفلة وذكرِهم.
والعجب أنّ هذا يُعَدُّ من مناقبه ومحاسنه، وغاية هذا: أن يُعذَر فيه لكونه مغلوبًا على عقله، وهو من أقبح الشّطحات. وذِكرُ الله على الغفلة وعلى كلِّ حالٍ خيرٌ من نسيانه بالكلِّيّة، والألسُن متى تركتْ ذكر الله الذي هو محبوبه اشتغلتْ بذكر ما يُبغِضه ويَمْقُت عليه. فأيُّ راحةٍ للعارف في هذا؟ وهل هو إلّا أشقُّ شيءٍ عليه وأكرهه إليه؟
وقولٌ آخر: لا أحبُّ أن أرى الله ولا أنظر إليه. فقيل له: كيف؟ قال: غيرةً عليه من نظرٍ
(2)
إليه
(3)
.
(1)
حكاه القشيري عن الشبلي في «الرسالة القشيرية» (ص 548). وانتقده شيخ الإسلام في «الاستقامة» (2/ 26).
(2)
د: «نظري» . ت: «نظر مثلي إليه» .
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 548). وانتقده شيخ الإسلام في «الاستقامة» (2/ 62 وما بعدها)، والمؤلف في «روضة المحبين» (ص 427).
فانظر إلى هذه الغيرة القبيحة، الدّالّة على جَهْل صاحبها، مع أنّه في خَفارة ذلِّه وتواضعه وانكساره واحتقاره لنفسه.
ومن هذا ما
(1)
يُحكى عن الشِّبليِّ رحمه الله: أنّه لمّا مات ابنه دخلَ الحمّام ونوَّرَ
(2)
لحيتَه، حتّى أذهب شَعرَها كلّه. فكلُّ من أتاه معزِّيًا قال: أيشٍ هذا يا أبا بكرٍ؟ قال: وافقتُ أهلي في قَطْع شعورهم. فقال له بعض أصحابه: أخبرني لمَ فعلتَ هذا؟ فقال: علمتُ أنّهم يُعزُّونني على الغفلة ويقولون: آجَرَك الله، ففديتُ ذِكرَهم لله بالغفلة بلحيتي
(3)
.
فانظُرْ إلى هذه الغيرة المحرّمة القبيحة، التي تضمّنتْ أنواعًا من المحرّمات: حلق الشَّعر عند المصيبة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليس منّا من حلقَ وسَلقَ وخرقَ»
(4)
. أي حلق شعرَه، ورفع صوتَه بالنّدب والنِّياحة، وخرقَ ثيابه.
ومنها: حلق اللِّحية، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفائها وتوفيرها.
ومنها: منعُ إخوانه من تعزيته ونيلِ ثوابها.
ومنها: كراهيته
(5)
لجريان ذكرِ اسمِ الله على ألسنتهم بالغفلة. وذلك خيرٌ بلا شكٍّ من ترْكِ ذكره.
(1)
«ما» ليست في د.
(2)
أي طلاه بالنُّورة، وهي حجر يحرق ويُسوّى منه الكلس، ويُحلق به الشعر.
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 551).
(4)
أخرجه مسلم (104) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(5)
ت: «كراهته» .
فغايةُ صاحب هذا: أن يُغفَر له هذه الذُّنوب ويُعفى عنه، وأمّا أن يُعَدّ ذلك في مناقبه وفي الغيرة المحمودة= فسبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ.
ومن هذا: ما ذُكِر عن أبي الحسين النُّوريِّ: أنّه سمع رجلًا يُؤذِّن، فقال: طعنةً وسمَّ الموتِ. وسمع كلبًا ينبحُ، فقال: لبّيكَ وسعديكَ. فقالوا له: هذا تركٌ للدِّين. وصدقوا والله، يقول للمؤذِّن في تشهُّده: طعنةً وسمَّ الموتِ، ويُلبِّي نُباحَ الكلب؟! فقال: أمّا ذاك فكان يذكر الله عن رأس الغفلة، وأمّا الكلب فقد قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}
(1)
[الإسراء: 44].
فيالله
(2)
! ماذا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُواجه به هذا القائلَ لو رآه يقول ذلك، أو عمر بن الخطّاب، أو مَن عدّ ذلك في المناقب والمحاسن؟!
وسمع الشِّبليُّ رجلًا يقول: جلَّ الله. فقال: أحبُّ أن تُجِلَّه عن هذا
(3)
.
وأَذَّن مرّةً، فلمّا بلغَ الشّهادتين فقال: لولا أنّك أمرتَني ما ذكرتُ معك غيَرك
(4)
.
وقال بعض الجُهَّال من القوم: «لا إله إلّا الله» من أصل القلب، و «محمّدٌ رسول الله» من القُرْط
(5)
.
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 552). وانتقده شيخ الإسلام في «الاستقامة» (2/ 15)، والمؤلف في «روضة المحبين» (ص 429).
(2)
ت: «فبالله» .
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 552).
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه. وهو منسوب فيه إلى أبي الحسن الخَرْقاني.
ونحن نقول: «محمّدٌ رسول الله» من تمام قول «لا إله إلّا الله» . فالكلمتان يخرجان من أصل القلب من مشكاةٍ واحدةٍ
(1)
، لا تتمُّ إحداهما إلّا بالأخرى.
فصل
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(2)
: (باب الغيرة. قال الله عز وجل حاكيًا عن نبيِّه سليمان عليه السلام: {(32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ} [ص: 33]).
ووجه استشهاده بالآية: أنّ سليمان عليه السلام كان يحبُّ الخيل، فشَغَلَه استحسانُها والنّظرُ إليها ــ لمّا عُرِضَتْ عليه ــ عن صلاة النّهار، حتّى توارت الشَّمسُ بالحجاب، فلحِقتْه الغيرةُ لله من الخيل، إذ استغرقَه استحسانُها والنّظر إليها عن خدمتِه وحقِّه، فقال: ردُّوها عليَّ، فطفِقَ يضرب أعناقَها وعراقيَبها بالسّيف غيرةً لله
(3)
.
قال
(4)
: (الغيرة: سقوطُ الاحتمال ضَنًّا، والضِّيق عن الصَّبر نفاسةً).
أي عَجْزُ الغيورِ عن احتمال ما يَشْغَلُه عن محبوبه ويَحْجُبه عنه، ضَنًّا به ــ أي بخلًا به ــ أن يعتاض عنه بغيره. وهذا البخل هو محض الكرم عند المحبِّين الصّادقين.
(1)
ش، د:«واحد» .
(2)
(ص 72).
(3)
انظر: «تفسير الطبري» (20/ 81 وما بعدها)، و «تفسير ابن كثير» (6/ 419، 420).
(4)
«المنازل» (ص 72).