الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة العَزْم
، وقد ذكرنا في أوّل الكتاب
(1)
أنّه نوعان:
أحدهما: عزم المريد على الدُّخول في الطّريق، وهو بدايةٌ
(2)
.
والثّاني: عزم السّالك. وهو مقامٌ ذكره صاحب «المنازل» في وسط كتابه في قسم الأصول، فقال
(3)
: (هو تحقيق القصد طوعًا أو كَرهًا).
أمّا قوله: (تحقيق القصد) فهو أن يكون قصده محقّقًا، لا يَشُوبه شيءٌ من التّردُّد.
وأمّا تقسيمه هذا التّحقيق إلى طوعٍ وكَرهٍ فصحيحٌ، فإنّ المختار: تحقيقُ قصدِه طوعًا، وأمّا المُكْرَه
(4)
: فتحقيقُ قصدِه كَرهًا، فإنّه إذا أكره على فعلٍ، وعزم عليه: قد حقّق قصده كرهًا لا طوعًا.
واختلف الفقهاء والأصوليُّون في المكره: هل يسمّى مختارًا أم لا؟
(5)
.
(1)
(1/ 204).
(2)
ل: «بذاته» ، تصحيف.
(3)
(ص 51).
(4)
ل: «الكره» .
(5)
انظر: «المستصفى» (1/ 78، 83) ط. الرسالة، و «الأشباه والنظائر» للسيوطي (ص 203)، و «الضروري في أصول الفقه» لابن رشد (ص 54)، و «المبسوط» للسرخسي (24/ 28)، و «بدائع الصنائع» (3/ 123)، و «نهاية المطلب» (16/ 126) و «مجموع الفتاوى» (8/ 502).
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله يقول: والتّحقيق أنّه محمولٌ على الاختيار، فله اختيارٌ في الفعل، وبه صحّ وقوعه، فإنّه لولا إرادته واختياره لما وقع الفعل. ولكنّه محمولٌ على هذه الإرادة والاختيار؛ ليست من قِبَلِه، فهو مختارٌ باعتبار أنّ حقيقة الإرادة والاختيار منه، وغير مختارٍ باعتبار أنّ غيره حملَه على الاختيار، ولم يكن مختارًا من نفسه. هذا معنى كلامه.
قال
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ: الدّرجة الأولى: إِباءُ الحال على العلم، لشَيْمِ برقِ الكشف، واستدامةِ نور الأنس، والإجابةِ لإماتة الهوى).
يريد بـ (إباء الحال على العلم): استعصاءَه عليه، وأنّ صاحب الحال يأبى عليه حالُه أن يَنزِل منه إلى درجة العلم، ويصعب عليه ذلك كلّ الصُّعوبة. وهو انحطاطٌ في رتبته.
ولا يريد امتناع الحال عن طاعة العلم وتحكيمه، فإنّ هذا انحلالٌ وانسلاخٌ من الطّريق بالكلِّيّة. فكلُّ حالٍ لا يُطيع العلمَ ولا يُحكِّمه فهو حالٌ فاسدٌ مُبعِدٌ عن الله، لكن من وصل إلى حال العلم لم يُجِبْه حالُه أن يَنزِل إلى درجة العلم، وينحطَّ إليها بلا حالٍ.
فإن كان مراده هذا المعنى فهو صحيحٌ. وإن كان مراده امتناع الحال عن طاعة العلم، لأنّ العلم يدعو إلى أحكام الغيبة والحجاب، والحال يدعو إلى
(1)
«المنازل» (ص 51).
أنس الكشف والحضور، فصاحب الحال لا يلتفت إلى العلم
(1)
= فباطلٌ. فإنّ العلم شرطٌ في الحال يستحيل معرفة صحّته بدون العلم.
نعم، لا ننكِر حصوله بدون العلم، لكنّ صاحبه على غير بصيرةٍ ولا وثوقٍ به.
و (شَيْمُ بَرقِ الكشف) هو النّظر إليه على بعدٍ، فإنّ صاحب الحال عاملٌ على شَيْم برق الكشف، لأنّ شَيْم برق الكشف يوجب نورًا يأنس به القلب، فعزيمة صاحبه على استدامته وحفظه.
وأمّا (الإجابة لإماتة الهوى)، فهو أنّ السّالك إذا أشرفَ على الكشف أحسّ بحالةٍ شبيهةٍ بالموت، حتّى إنّ منهم من يسقط إلى الأرض ويظنُّ ذلك موتًا. وهذه الحال من مبادئ الفناء، فتهوى نفسُه العودَ إلى الحجاب خوفًا من الانعدام، لما جُبِلتْ عليه النّفس البشريّة من كراهة الموت. فإذا حصل العزم أُمِيتَ هذا الهوى، ولم يلتفت إليه، رغبةً فيما يطلبه من الفناء في الفردانيّة، فإنّ الحقيقة لا تبدُو إلّا بعد فناء البشريّة.
وهذا الذي قاله حقٌّ، لا يُنكِره إلّا من لم يذُقْه. وإنّما الكلام في مرتبته، وأنّه غايةٌ أو توسُّطٌ، أو لازمٌ أو عارضٌ؟
فشيخنا رحمه الله كان يرى أنّه عارضٌ من عوارض الطّريق لا يَعرِض للكُمَّل، ومن السّالكين من لم يَعرِض له البتّةَ.
ومن النّاس من يراه لازمًا للطّريق لا بدَّ منه.
(1)
ل: «إلا للعلم» .
ومن النّاس من يراه غايةً لا شيء فوقه.
ومنهم من يراه توسُّطًا، وفوقَه ما هو أجلُّ منه وأرفع، وهو حالة البقاء.
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة الثّانية: الاستغراقُ في لوائح المشاهدة، واستنارةُ ضياءِ الطّريق، واستجماعُ قوى الاستقامة).
هذه ثلاثة أشياء:
أحدها: فقدان الإحساس بغير
(2)
شهودِه، لاستغراقه في مشاهدته.
الثّاني: استنارة ضياء الطّريق، يعني ظهور الجادّة له ووضوحها، واتِّصالها بمطلوبه. وهذا كمن هو سائرٌ إلى مدينةٍ، فإذا شارفها ورآها رأى الطّريقَ حينئذٍ واضحةً إليها، واستنار له ضياؤها واتِّصالها بالمدينة، وكان قبل مشاهدة المدينة على علمٍ أو ظنٍّ يجوز معه أن يضيع عن باب المدينة، وأمّا الآن فقد أمِنَ من
(3)
أن يضيع عن الباب. وكذلك هذا السّالك: قد انقطعت عنه الموانع، واستبان له الطّريق، وأيقنَ بالوصول، وصارت حالُه حالَ معاينِ باب المدينة من حينِ يقع بصره عليه، وكحال معاينِ الشّفق الأحمر قربَ طلوع الشّمس، حيث يتيقَّن أنّ الشّمس بعده.
قوله: (واستجماع قوى الاستقامة)، يعني: يستجمع له قوى الظّاهر والباطن على قصد الوصول والعزم عليه، لمشاهدته ما هو سائرٌ إليه. وهكذا
(1)
«المنازل» (ص 51).
(2)
ش، د:«يعني» ، تحريف.
(3)
«من» ليست في ل.