الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولزوم المسامرة: لزوم مناجاة القلب لربِّه: تملُّقًا تارةً، وتضرُّعًا تارةً، وثناءً تارةً، واستعطافًا تارةً، وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسِّرِّ والقلب. وهذه شأن كلِّ محبٍّ وحبيبه، كما قيل
(1)
:
إذا ما خَلَونا والرّقيبُ بمجلسٍ
…
فنحن سُكوتٌ والهوى يتكلَّمُ
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة الثّالثة:
الذِّكر الحقيقيُّ
. وهو شهود ذكر الحقِّ إيّاك، والتّخلُّص من شهود ذكرك، ومعرفة افتراء الذّاكر في بقائه مع الذِّكر).
إنّما سمِّي هذا الذِّكر في هذه الدّرجة حقيقيًّا لأنّه منسوبٌ إلى الرّبِّ تعالى، وأمّا نسبة الذِّكر للعبد
(3)
فليست حقيقيّةً. فذكرُ الله لعبده هو الذِّكر الحقيقيُّ، وهو شهود ذكرِ الحقِّ عبدَه، وأنّه ذكَره فيمن اختصَّه وأهّله للقرب منه ولذكرِه، فجعله ذاكرًا له، ففي الحقيقة هو الذّاكر لنفسه بأن جعل عبده ذاكرًا له وأهّله لذكره. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه في باب التّوحيد بقوله
(4)
:
توحيدُه إيّاه توحيدُه
…
ونَعْتُ من يَنعتُه لاحِدُ
(1)
الشطر الثاني للعباس بن الأحنف في «ديوانه» (273) وصدره:
تكلَّم منّا في الوجوه عيونُنا
وقد ضمَّن الشطر الثاني بعض الشعراء، ومن ذلك ما ذكره المؤلف هنا. وانظر:«خزانة الأدب» لابن حجة (1/ 163، 2/ 331).
(2)
«المنازل» (ص 56).
(3)
ل: «إلى العبد» .
(4)
«المنازل» (ص 113).
أي هو الذي وحَّد نفسَه في الحقيقة، فتوحيدُ العبدِ منسوبٌ إليه حقيقةً، ونسبته إلى العبد غير حقيقيّةٍ
(1)
، إذ ذلك لم يكن به ولا منه، وإنّما هو مجعولٌ فيه. فإن سُمِّي موحِّدًا ذاكرًا فلكونه مجرًى ومحلًّا لما أُجرِي فيه، كما يُسمّى أبيض وأسود وطويلًا وقصيرًا لكونه محلًّا لهذه الصِّفات، لا صُنْعَ له فيها، ولم تُوجِبها مشيئتُه ولا حولُه ولا قوّتُه. هذا مع ما يتّصل بذلك من استيلاء القرب، والفناء عن الرّسم، والغيبة بالمشهود عن الشُّهود، وقوّة الوارد، فيتركّب من ذلك ذوقٌ خاصٌّ: أنّه ما وحَّد اللهَ إلّا اللهُ، وما ذكر اللهَ إلّا اللهُ، وما أحبَّ اللهَ إلّا اللهُ.
فهذا حقيقة ما عند القوم، فالعارفون منهم أرباب البصائر أَعطَوا مع ذلك العبوديّةَ حقَّها والعلمَ حقَّه، وعرفوا
(2)
أنّ العبد عبدٌ حقيقةً من كلِّ وجهٍ، والرّبّ ربٌّ حقيقةً من كلِّ وجهٍ، وقاموا
(3)
بحقِّ العبوديّة بالله لا بأنفسهم، ولله لا لحظوظهم، وفَنُوا بمشاهدة معاني أسمائه وصفاته عمّا سواه، وبما له محبّةً ورضًا عمّا به كونًا ومشيئةً، فإنّ الكون كلّه به
(4)
، والّذي له هو محبوبه ومرضيُّه، فهو له وبه، والمنحرفون فَنُوا بما به عمّا له، فوالَوا أعداءه، وعطَّلُوا دينَه، وسَوَّوا بين مَحابِّه ومساخطِه، ومواقعِ رضاه وغضبِه. والله المستعان.
قوله: (والتّخلُّص من شهود ذكرك).
(1)
ش، د:«حقيقة» .
(2)
ل: «وعلموا» .
(3)
ل: «أقاموا» .
(4)
ش، د:«بيده» .
يعني: يفنَى بشهود
(1)
ذكره لك
(2)
عن شهود ذكرك له، وهذا الشُّهود يُرِيح العبدَ من رؤية النّفس وملاحظة العمل، ويميته ويحييه: يُمِيته عن نفسه ويُحييه بربِّه، ويُفنِيه ويُبقيه، ويقتطعه
(3)
من نفسه ويُوصِله بربِّه، وهذا هو عين الظّفر بالنّفس.
قال بعض العارفين: انتهى سفرُ الطّالبين إلى الظَّفَر بنفوسهم
(4)
.
قوله: «ومعرفة افتراء الذّاكر في بقائه مع الذِّكر» .
يعني: أنّ الباقي مع الذِّكر يشهد على نفسه أنّه ذاكرٌ، وذلك افتراءٌ منه; فإنّه لا فعلَ له. ولا يزول عنه هذا الافتراء إلّا إذا فَنِي عن ذكره، فإنّ شهود ذكره وبقاءه معه افتراءٌ يتضمّن نسبةَ الذِّكر إليه، وهي في الحقيقة ليست له.
فيقال: سبحان الله! أيُّ افتراءٍ في هذا؟ وهل هذا إلّا شهود الحقائق على ما هي عليه؟ فإنّه إذا شهد نفسَه ذاكرًا بجعلِ الله له ذاكرًا وتأهيلِه له وتقدُّمِ ذكرِه للعبد على ذكر العبد، فاجتمع في شهوده الأمران، فأيُّ افتراءٍ هاهنا؟! وهل هذا إلّا عين الحقِّ وشهود الحقائق على ما هي عليه؟ نعَمْ، الافتراء أن يشهد ذلك به وبحوله وقوّته، لا بالله وحده. لكنّ الشّيخ رحمه الله لا تأخذه في الفناء لومةُ لائمٍ، ولا يُصغِي فيه إلى عاذلٍ.
والّذي لا ريبَ فيه: أنّ البقاء في الذِّكر أكمل من الفناء فيه والغيبة به؛ لِما
(1)
ش، د:«بفنا شهود» .
(2)
«لك» ليست في ش، د.
(3)
ش، د:«يقنطه» .
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 275).
في البقاء من التّفصيل
(1)
والمعارف، وشهودِ الحقائق على ما هي عليه، والتّمييزِ بين الرّبِّ والعبد، وما قام بالعبد وما قام بالرّبِّ سبحانه وتعالى، وشهود العبوديّة والمعبود. وليس في الفناء شيءٌ من ذلك، والفناء كاسمه الفناء، والبقاء بقاءٌ كاسمه. والفناء مطلوبٌ لغيره، والبقاء مطلوبٌ لنفسه. والفناء وصف العبد، والبقاء وصف الرّبِّ. والفناء عدمٌ، والبقاء وجودٌ. والفناء نفيٌ، والبقاء إثباتٌ.
والسُّلوك على درب الفناء مُخطِرٌ، وكم به من مَفازةٍ ومَهلكةٍ. والسُّلوك على دَرْب البقاء آمنٌ; فإنّه دَرْبٌ عليه الأعلامُ والهُداةُ والأدلة والخَفَر، ولكنّ أصحاب الفناء يزعمون أنّه طويلٌ، ولا يشكُّون في سلامته وإيصاله إلى المطلوب، ويزعمون أنّ درب الفناء أقرب، وراكبه طائرٌ، وراكبُ درْبِ البقاء سائرٌ. والكُمَّل من السّائرين يرون الفناء منزلةً من منازل الطّريق، وليس نزولها عامًّا لكلِّ سائرٍ، بل منهم من لا يراها ولا يمرُّ بها، وأنَّ الدّرب الأعظم والطّريق الأقوم هو درب البقاء، ويحتجُّون على صاحب الفناء بالانتقال إليه من الفناء، وإلّا فهو عندهم على خطرٍ. والله المستعان.
* * * *
(1)
ش، د:«التفضيل» .