الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإحسان، وخُطَّته: الإساءة. وفي مثلها قال القائل
(1)
:
إذا مرِضْنا أتيناكم نعودكُمُ
…
وتُذنِبون فنأتيكم ونَعتذرُ
ومن أراد فهْمَ هذه الدّرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع النّاس، يجدها هذه بعينها. ولم يكن كمال هذه الدّرجة لأحدٍ سواه، ثمّ للورثة منها بحسب سهامهم من التَّرِكة. وما رأيت أحدًا قطُّ أجمعَ لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيميّة قدّس الله روحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: ودِدتُ أنِّي
(2)
لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.
وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قطُّ، وكان يدعو لهم.
وجئتُ يومًا مبشِّرًا له بموتِ أكبرِ أعدائه وأشدِّهم عداوةً وأذًى له، فنهَرَني وتنكَّر لي واسترجع، ثمّ قام من فورِه إلى بيت أهله فعزّاهم، وقال: أنا لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدةٍ إلّا وساعدتُكم فيه. ونحو هذا الكلام. فَسُرُّوا به، ودَعَوا له، وعظّموا هذه الحالَ منه. فرحمه الله ورضي عنه.
وهذا مفهومٌ، إلّا
الاعتذار إلى من يجني عليك
، فإنّه
(3)
غير مفهومٍ في بادي الرّأي، إذ لم يصدر منك جنايةٌ توجب اعتذارًا، وغايتك: أنّك لم تؤاخذه، فهل تعتذر إليه من ترك المؤاخذة.
(1)
البيت للمؤمّل بن أميل في «التمثيل والمحاضرة» (ص 90)، و «المنتحل» (ص 99)، و «خاص الخاص» (ص 115)، و «نهاية الأرب» (3/ 92).
(2)
ل: «أن» .
(3)
«مفهوم
…
فإنه» ليست في ش، د.
ومعنى هذا: أنّك تُنزل نفسَك منزلةَ الجاني لا المَجْنيِّ عليه، والجاني خليقٌ بالعذر.
والّذي يُشهِدك هذا المشهد: أن تعلم أنّه إنّما سلِّط عليك بذنبٍ، كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
فإذا علمتَ أنّك بدأتَ بالجناية فانتقم الله منك على يده= كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار.
والّذي يُهوِّن عليك هذا كلّه: مشاهدة تلك المشاهد العشرة المتقدِّمة، فعليك بها، فإنّ فيها كنوزَ المعرفة والبرِّ.
وقوله: (سماحةً لا كظمًا، وتوادًّا
(1)
لا مصابرةً).
يعني: اجعلْ هذه المعاملة منك صادرةً عن سماحٍ، وطِيبةِ نفسٍ، وانشراح صدرٍ، لا عن كظمٍ وضيقٍ ومصابرةٍ، فإنّ ذلك دليلٌ على أنّ هذا ليس في خلقك، وإنّما هو تكلُّفٌ يُوشِك أن يزول ويظهر حكم الخلق فتفتضح، وليس المقصود إلّا إصلاح الباطن والسِّرِّ والقلب.
وهذا الذي قاله الشّيخ لا يمكن إلّا بعد العُبور على جِسر المصابرة والكظم، فحينئذٍ إذا تمكّن فيه أفضى به إلى هذه المنزلة بعون الله.
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة الثّالثة: أن لا تتعلَّق في السَّير بدليلٍ، ولا تشوبَ إجابتَك بعِوَضٍ، ولا تقفَ في شهودِك على رسمٍ).
(1)
الذي سبق (ص 94): «وموادَّة» .
(2)
«المنازل» (ص 48).
هذه ثلاثة أمورٍ اشتملت عليها هذه الدّرجة.
فأمّا عدم تعلُّقه في السّير بدليلٍ: فقد بيَّن مراده به في آخر الباب، إذ يقول
(1)
: (وفي علم الخصوص: من طلبَ نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم يحلّ له دعوى الفتوّة أبدًا).
وهذا موضعٌ عظيمٌ يحتاج إلى تبيينٍ وتقريرٍ.
والمراد: أنّ السّائر إلى الله يسير على قَدَم اليقين، وطريق البصيرة والمشاهدة. فوقوفُه مع دليلٍ دليلٌ على أنّه لم يَشُمَّ رائحةَ اليقين. والمراد بهذا: أنّ المعرفة عندهم ضروريّةٌ لا استدلاليّةٌ. وهذا هو الصّواب. ولهذا لم تَدْعُ
(2)
الرُّسل قطُّ الأممَ إلى الإقرار بالصّانع سبحانه، وإنّما دَعَوهم إلى عبادته وتوحيده، وخاطبوهم خطابَ من لا شبهةَ عنده قطُّ في الإقرار بالله تعالى، ولا هو محتاجٌ إلى الاستدلال عليه
(3)
. ولهذا قالت لهم رسلهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [إبراهيم: 10].
وكيف يصحُّ الاستدلال على مدلولٍ هو أظهرُ من دليله؟ حتّى قال بعضهم: كيف أطلب الدّليل على من هو دليلٌ على كلِّ شيءٍ؟ فتقيُّدُ السّائرِ بالدّليل وتوقُّفُه عليه دليلٌ على عدم يقينه، بل إنّما يتقيّد بالدّليل الموصِل له إلى المطلوب بعد معرفته به، فإنّه يحتاج بعد معرفته به إلى دليلٍ يُوصِله
(4)
(1)
المصدر نفسه (ص 48).
(2)
ش، د:«تدعو» .
(3)
«عليه» ليست في ش، د.
(4)
د: «يوصل» .
إليه، ويدلُّه على طريق الوصول إليه. وهذا الدّليل هو الرّسول صلى الله عليه وسلم، فهو موقوفٌ عليه ويتقيّد به، لا يخطو خطوةً إلّا وراءه.
وأيضًا فإن القوم يشيرون إلى الكشف ومشاهدة الحقيقة، وهذا لا يمكن طلبه بالدّليل أصلًا. ولا يقال: ما الدّليل على حصول هذا؟ وإنّما يحصل بالسُّلوك في منازل السّير، وقَطْعِها منزلةً منزلةً حتّى يصلَ إلى المطلوب، فوصوله إليه بالسّير لا بالاستدلال. بخلاف وصول المستدلِّ، فإنّه إنّما يصل إلى العلم، ومطلوبُ القوم وراءه. والعلم منزلةٌ من منازلهم كما سيأتي ذكرها، ولهذا يسمُّون أصحاب الاستدلال: أصحابَ القال، وأصحاب الكشف: أصحاب الحال. والقوم عاملون على الكشف الذي يحصل بنور العيان، لا على العلم الذي يُنال بالاستدلال والبرهان.
وهذا موضع غلطٍ واشتباهٍ، فإنّ الدّليل في هذا المقام شرطٌ، وكذلك العلم. وهو بابٌ لا بدَّ من دخوله إلى المطلوب، ولا يُوصَل إلى المطلوب إلّا من بابه، كما قال تعالى:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189].
ثمّ إنّه يُخاف على من لم يقف مع
(1)
الدّليل ما هو أعظم الأمور، وهو الانقطاع عن المطلوب بالكلِّيّة، والوصول إلى مجرّد الخيال والمحال. فمن خرج عن الدّليل ضلّ عن
(2)
سواء السّبيل.
فإن قيل: تعلُّقه في السير بالدّليل يُفرِّق عليه عزمَه وقلبه، فإنّ الدّليل يُفرِّق، والمدلول يجمِّع. فالسّالك يقصد الجمعيّة على المدلول، فما له
ولتفرقةِ الدّليل؟
قيل: هذه هي البليّة التي لأجلها أعرض من أعرض من السّالكين عن العلم ونهى عنه، وجعله علّةً في الطّريق، ووقع هذا في زمان الشُّيوخ القدماء العارفين، فأنكروه غايةَ الإنكار، وتبرَّؤوا منه ومن قائله، وأوصَوا بالعلم، وأخبروا أنّ طريقَهم مقيّدةٌ بالعلم، لا يُفلِح فيها من لم يتقيَّدْ بالعلم
(1)
. والجنيد رحمه الله كان من أشدِّ النّاس مبالغةً في الوصيّة بالعلم، وحثًّا لأصحابه عليه
(2)
.
والتّفرُّق في الدّليل خيرٌ من الجمعيّة على الوهم والخيال، فإنّه لا يعرف كون الجمعيّة حقًّا إلّا بالدّليل والعلم، فالدّليل والعلم ضروريّان للصّادق، لا يستغني عنهما.
نعم، يقينُه
(3)
ونورُ بصيرته وكشفُه يُغنِيه عن كثيرٍ من الأدلّة التي يتكلّفها المتكلمون وأرباب القال، فإنّه مشغولٌ عنها بما هو أهمُّ منها، وهو الغاية المطلوبة.
مثاله: أنّ المتكلِّم يُفنِي زمانه في تقرير حدوث العالم وإثبات الصّانع، وذلك أمرٌ مفروغٌ منه عند السّالك الصّادق صاحب اليقين. فالّذي يطلبه هذا بالاستدلال ــ الذي هو عُرضة الشُّبَه والأسولة والإيرادات التي لا نهاية لها ــ هو كشفٌ ويقينٌ للسّالك، فتقيُّده في سلوكه بحال هذا المتكلِّم انقطاعٌ
(1)
«لا يفلح
…
بالعلم» ساقطة من ش، د.
(2)
انظر أقواله في «الرسالة القشيرية» (ص 155).
(3)
ل: «بينته» .
وخروجٌ عن الفتوّة.
وهذا حقٌّ لا ينازع فيه عارفٌ، فترى المتكلِّم يبحث في الزّمان والمكان، والجواهر والأعراض والأكوان، وهمّته مقصورةٌ عليها لا يعدوها ليصعدَ منها إلى المكوِّن. والسّالك قد جاوزها إلى جَمْع القلب على المكوِّن وعبوديّته بمقتضى أسمائه وصفاته، لا يلتفت إلى غيره، ولا يَشْغَل قلبَه بسواه.
فالمتكلِّم يستغرق
(1)
في معرفة حقيقة الزّمان والمكان، والعارف قد شَحَّ بالزّمان أن يذهب ضائعًا في غير السّير إلى ربِّ الزّمان والمكان.
وبالجملة، فصاحب هذه الدّرجة لا يتعلّق في سيره بدليلٍ، ولا يمكنه السّيرُ إلّا خلفَ الدّليل، وكلاهما يجتمع في حقِّه. فهو لا يفتقر إلى دليلٍ على وجود المطلوب، ولا يستغني طرفةَ عينٍ عن دليلٍ يُوصِله إلى المطلوب. فسَيرُ الصّادق عن البصيرة واليقين والكشف، لا على النّظر والاستدلال.
وأمّا قوله: (ولا تشوب إجابتَك بعوضٍ).
أي تكون إجابتك لداعي الحقِّ خالصةً، إجابةَ محبّةٍ ورغبةٍ، وطلبٍ للمحبوب ذاته، غيرَ مَشُوبةٍ بطلب غيره من الحظوظ والأعواض، فإنّه متى حصل لك حصل لك كلُّ عوضٍ وكلُّ حظٍّ وكلُّ قسمٍ، كما في الأثر الإلهيِّ:«ابنَ آدم، اطلُبني تجِدْني، فإن وجدتَني وجدتَ كلّ شيءٍ، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيءٍ، وأنا أحبُّ إليك من كلِّ شيءٍ»
(2)
.
(1)
ل: «مستغرق» .
(2)
هو أثر إسرائيلي كما نصَّ عليه شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (8/ 52). وأورده المؤلف في «روضة المحبين» (ص 424)، و «الداء والدواء» (ص 462)، و «طريق الهجرتين» (ص 95، 526).
فمن أعرض عن طلب ما سوى الله، ولم يشُبْ طلبه له بعوضٍ، بل كان حبًّا له وإرادةً خالصةً لوجهه= فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلِّها. فإنّه لمّا لم يجعلها غايةَ طلبه، توفّرتْ عليه في حصولها، وهو محمودٌ مشكورٌ مقرَّبٌ. ولو كانت هي مطلوبةً لنقصتْ عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرّبِّ تعالى لذاته وإرادته.
فهذا قلبه ممتلئٌ بها، والحاصل له منها نزرٌ يسيرٌ. والعارف ليس قلبه متعلِّقًا بها، وقد حصلتْ له كلُّها. فالزُّهد فيها لا يُفِيتُكها، بل هو عين حصولها. والزُّهد في الله هو الذي يُفِيتكه ويُفِيتُك الحظوظَ. وإذا كان لك أربعة عبيدٍ: أحدهم يريدك ولا يريد منك، بل إرادته مقصورةٌ عليك وعلى مرضاتك. والثّاني يريد منك ولا يريدك، بل إرادته مقصورةٌ على حظوظه منك. والثّالث يريدك ويريد منك. والرّابع لا يريدك ولا يريد منك، بل هو متعلِّق القلب ببعض عبيدك، فله يريد، ومنه يريد. فإنّ آثَرَ العبيدِ عندك، وأحبَّهم إليك، وأقربَهم منك منزلةً، والمخصوصَ من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيدُ الثّلاثة= هو الأوّل. وهكذا نحن عند الله سواء.
وأمّا قوله: (ولا تَقِفُ في شهودِك على رَسْمٍ).
أي: لا يكون منك نظرٌ إلى السِّوى عند الشُّهود، كما تقدّم مرارًا.
وهذا عند القوم غير مكتسَبٍ، فإنّ الشُّهود إذا صحّ محا الرُّسومَ ضرورةً في نظر الشّاهد، فلا حاجةَ إلى أن يشرط عليه عدم الوقوف عليها. والشُّهود
الصّحيح ماحٍ لها بالذّات، لكنّ أوّله قد لا يستغني عن الكسب، ونهايته لا تقف على كسبٍ.
قال
(1)
: (واعلم أنّ مَن أحوجَ عدوَّه
(2)
إلى شفاعةٍ، ولم يخجلْ من المعذرة إليه: لم يَشُمَّ رائحةَ الفتوّة).
يعني: أنّ العدوّ متّى علم أنّك متألِّمٌ من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك، ويشفع إليك شافعٌ يُزيل ما في قلبك منه. فالفتوّة كلُّ الفتوّة: أن لا تُحوِجه إلى الشّفاعة، بأن لا يظهر له منك عَتْبٌ ولا تغيُّرٌ عمّا كان له منك قبل معاداته، ولا تَطوِي عنه بِشْرَك ولا بِرَّك، وإذا لم تخجلْ أنت من قيامه بين يديك مقامَ المعتذر لم يكن لك في الفتوّة نصيبٌ.
ولا تستعظمْ هذا الخُلق، فإنّ في الفتيان ما هو أكبر
(3)
منه. ولا تستصعِبْه، فإنّه موجودٌ في كثيرٍ من الشُّطّار والعُشَراء الذين ليس لهم في حال المعرفة ولا في لسانها نصيبٌ، فأنت أيُّها العارف أولى به.
قال
(4)
: (وفي علم الخصوص: من طلبَ نور الحقيقة على قَدَمِ الاستدلال لم يَحِلَّ له دعوى الفتوّة أبدًا).
كأنّه يقول: إذا لم تُحوِج عدوّك إلى العذر والشّفاعة، ولم تُكلِّفْه طلبَ الاستدلال على صحّة عذره، فكيف تُحوِج وليَّك وحبيبَك إلى أن يُقِيم لك
(1)
«المنازل» (ص 48).
(2)
ش، د:«عدوك» .
(3)
ش، د:«أكثر» .
(4)
«المنازل» (ص 48).
الدّليلَ على التّوحيد والمعرفة، ولا تسير إليه حتّى يقيم لك دليلًا على وجوده ووحدانيّته وقدرته ومشيئته؟ فأين هذا من درجة الفتوّة؟ وهل هذا إلّا خلاف الفتوّة من كلِّ وجهٍ؟
ولو أنّ رجلًا دعاك إلى داره، فقلت للرّسول: لا آتي معك حتّى تقيم لي الدّليلَ على وجود من أرسلك، وأنّه مُطاعٌ، وأنّه أهلٌ أن يُغشى بابه= لكنتَ في دعوى الفتوّة زنيمًا. فكيف بمن وجوده ووحدانيّته وقدرته
(1)
وربوبيّته وإلهيّته أظهر من كلِّ دليلٍ تطلبه؟ فما من دليلٍ تَستدلُّ به إلّا ووحدانيّة الله وكماله أظهر منه، فإقرار الفِطَر بالرّبِّ سبحانه خالق العالم: لم يُوقِفها عليه مُوقِفٌ، ولم تَحتَجْ فيه إلى نظرٍ واستدلالٍ، {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [إبراهيم: 10]. فأبعدُ النّاس من
(2)
درجة الفتوّة طالب الدّليل على ذلك.
وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ
…
إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ
(3)
* * * *
(1)
«قدرته» ليست في ش، د.
(2)
ل: «في» .
(3)
البيت للمتنبي في «ديوانه» (3/ 215).