الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في مذاهب أهل المدينة في الدعاوى
(1)
.
وهو من أسدِّ المذاهب وأصحها. وهي عندهم ثلاث مراتب
(2)
:
المرتبة الأولى: دعوى يشهد لها العرف بأنها مشبهة
، أي تشبه أن تكون حقًّا.
المرتبة الثانية: ما يشهد العرف بأنها غير مشبهة، إلا أنه لم يقض بكذبها.
المرتبة الثالثة: دعوى يقضي العرف بكذبها.
فأما المرتبة الأولى: فمثل
(3)
أن يدعي سلعة معينة بيد رجل، أو يدعي غريب وديعة عند غيره، أو يدعي مسافر أنه أودع أحد رفقته، وكالمدعي على صانع منتصب للعمل أنه دفع إليه متاعًا يصنعه، والمدعي على بعض أهل الأسواق المنتصبين للبيع والشراء أنه باع
(4)
منه أو اشترى، وكالرجل يذكر في مرض موته أن له دينًا قبل رجل، ويوصي أن يتقاضى
(5)
منه فينكره، وما أشبه هذه المسائل.
فهذه الدعوى تسمع من مدعيها، وله أن يقيم البينة على مطابقتها،
(1)
"في الدعاوى" ساقطة من "ب".
(2)
انظر الفروق (4/ 80)، الذخيرة (11/ 45)، القوانين (309)، عقد الجواهر (3/ 1081).
(3)
في "أ": "فهي".
(4)
في "ب" و"جـ" و"د" و"هـ": "باعه".
(5)
في "ب": "يتقاضاه".
أو
(1)
يستحلف المدعى عليه، ولا يحتاج في
(2)
استحلافه إلى إثبات خُلطة
(3)
(4)
.
وأما المرتبة الثانية: فمثل أن يدعي على رجل دينًا في ذمته، ليس داخلًا في الصور المتقدمة، أو يدعي على رجل معروف بكثرة المال أنه اقترض منه مالًا ينفقه على عياله، أو يدعي على رجل لا معرفة بينه وبينه ألبتة أنه أقرضه أو باعه شيئًا بثمن في ذمته إلى أجل ونحو ذلك.
فهذه الدعوى تسمع، ولمدعيها أن يقيم البينة على مطابقتها.
قالوا: ولا يملك استحلاف المدعى عليه على نفيها إلا بإثبات خلطة بينه وبينه
(5)
.
قال ابن القاسم
(6)
: والخلطة أن يسالفه، أو يبايعه، أو يشتري منه
(1)
في "د": "ويستحلف".
(2)
في "أ" و"ب" و"جـ": "إلي".
(3)
الخلطة: حالة ترفع بُعْد توجه الدعوى على المدعى عليه. حدود ابن عرفة (2/ 612). وسيأتي تعريف ابن القاسم لها قريبًا.
(4)
انظر: المنتقى (5/ 224)، عدة البروق (520)، القوانين (309)، منتخب الأحكام (105)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1081).
(5)
انظر: المدونة (5/ 176)، الرسالة (244)، القوانين (309)، بداية المجتهد (8/ 672)، الفروق (4/ 81)، فصول الحكام (212)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1081)، الخرشي (6/ 100)، بلغة السالك (4/ 212)، منح الجليل (8/ 556)، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب (2/ 340).
(6)
عبد الرحمن بن القاسم بن خالد أبو عبد الله العُتقي الإمام المشهور، وثقه النسائي. توفي سنة 191 هـ - رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء =
مرارًا
(1)
.
وقال سحنون
(2)
: لا تكون الخلطة إلا بالبيع والشراء بين المتداعيين
(3)
.
قالوا
(4)
: فينظر إلى دعوى المدعي، فإن كانت تشبه أن يدعي بمثلها على المدعى عليه أُحْلِفَ له، وإن كانت مما لا تشبه، وينفيها العرف لم يحلف إلا أن يبين المدعي خلطة
(5)
.
قالوا: فإن لم تكن خلطة، وكان المدعى عليه
(6)
متهمًا، فقال
= (9/ 120)، الديباج المذهب (1/ 465)، شجرة النور الزكية (1/ 58).
(1)
انظر: البيان والتحصيل (9/ 288)، المنتقى (5/ 225)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1081).
(2)
سُحْنُون بن سعيد بن حبيب التنوخي أبو سعيد صاحب المدونة. توفي سنة 240 هـ - رحمه الله تعالى -. انظر: رياض النفوس (1/ 345)، الديباج المذهب (2/ 30)، سير أعلام النبلاء (12/ 63)، شجرة النور الزكية (1/ 69).
(3)
انظر: البيان والتحصيل (9/ 288)، المنتقى (5/ 225)، الفروق (4/ 81)، الذخيرة (11/ 45)، فصول الأحكام للباجي (213)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1081).
(4)
القائل: الأبهري من المالكية. الفروق (4/ 81)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1081).
(5)
في "أ" و"جـ" و"هـ": "لطخًا". انظر: تنبيه الحكام (255)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (10/ 55)، فتح الباري (5/ 334)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1081).
(6)
في "د": "وكان المدعى عليه خلطة متهمًا".
سحنون: يستحلف المتهم، وإن لم تكن خلطة، وقال غيره: لا يستحلف
(1)
.
وتثبت الخلطة عندهم بإقرار المدعى عليه بها وبالشاهدين، والشاهد واليمين، والرجل الواحد، والمرأة الواحدة
(2)
.
قالوا
(3)
: وأما المرتبة الثالثة فمثالها: أن يكون رجل حائزًا لدار، متصرفًا فيها السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة، وينسبها إلى نفسه، ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقًّا ولا مانع يمنعه من مطالبته من خوف سلطان، أو ما أشبه ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث، أو ما أشبه ذلك مما تتسامح به
(4)
القرابات والصهر بينهم، بل كان عريًّا عن
(5)
جميع ذلك. ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بينة بذلك، فدعواه غير مسموعة أصلًا، فضلًا عن بينته، وتبقى الدار بيد حائزها؛ لأن كل
(1)
انظر: المنتقى (5/ 225)، الذخيرة (11/ 47).
(2)
انظر: عقد الجواهر الثمينة (3/ 1082)، المنتقى (5/ 226)، البيان والتحصيل (9/ 288)، الفروق (4/ 82)، الذخيرة (11/ 47)، القوانين (309)، منتخب الأحكام (1/ 104)، المفيد للأحكام (1/ 192).
(3)
انظر: المدونة (5/ 192)، المعونة (3/ 1582)، القوانين (309)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1083).
(4)
في "جـ": "فيه".
(5)
في "جـ": "من".
دعوى يكذبها العرف وتنفيها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة، قال الله تعالى:{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}
(1)
[الأعراف: 199]، وقد أوجبت الشريعة الرجوع إليه
(2)
عند الاختلاف في الدعاوى، كالنقد والحمولة والسير، وفي الأبنية ومعاقد القمط
(3)
، ووضع الجذوع على الحائط وغير ذلك
(4)
.
قالوا: ومثل ذلك: أن تأتي المرأة بعد سنين متطاولة تدعي على الزوج أنه لم يكسها في شتاء ولا صيف
(5)
، ولا أنفق عليها شيئًا ألبتة، فهذه الدعوى لا تسمع لتكذيب العرف والعادة لها، ولا سيما إذا كانت فقيرة والزوج موسرًا
(6)
.
ومن ذلك: قول
(7)
القاضي عبد الوهاب
(8)
في رده على
(1)
هنا سقط من المخطوطة "د" حتى قوله "ورجل أصابته جائحة".
(2)
في "ب": "إلى العرف".
(3)
سبق بيانه ص (5).
(4)
انظر: المعونة (3/ 1583)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1083). ويظهر أن ابن القيم قد استفاد أكثر هذا الفصل منه.
(5)
وفي "ب" زيادة: "ولا أنفق عليها شتاءً ولا صيفًا".
(6)
انظر: المدونة (2/ 259)، الذخيرة (4/ 471)، التفريع (2/ 54)، الكافي (255)، تبصرة الحكام (2/ 125)، الشرح الكبير (3/ 499)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/ 499)، شرح مختصر خليل للخرشي (4/ 201)، بلغة السالك (2/ 748)، منح الجليل (4/ 411)، نصيحة المرابط (3/ 268).
(7)
في "أ": "ومن قول"، وفي "ب" و"هـ":"ومن ذلك قال".
(8)
عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمد شيخ المالكية، له كتاب التلقين والمعونة وغيرهما. توفي سنة 422 هـ - رحمه الله تعالى -. انظر: تاريخ =
المزني
(1)
: مذهب مالك أن المدعى عليه لا يحلف للمدعي
(2)
بمجرد دعواه، دون أن ينضم إليها علم بمخالطة بينهما أو معاملة
(3)
. قال شيخنا أبو بكر
(4)
: أو تكون الدعوى تليق بالمدعى عليه، لا يتناكرها الناس، ولا ينفيها عرف
(5)
.
قال
(6)
: وهذا مروي عن علي بن أبي طالب
(7)
(8)
- رضي الله
= بغداد (11/ 32)، الديباج المذهب (2/ 62)، سير أعلام النبلاء (17/ 429)، شجرة النور الزكية (1/ 103).
(1)
إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني المصري أبو إبراهيم. توفي سنة 264 هـ - رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 492)، طبقات الشافعية للأسنوي (1/ 28)، طبقات الشافعية للسبكي (2/ 93).
(2)
في "ب": "أن المدعي لا يحلف المدعى عليه".
(3)
انظر: المدونة (5/ 176)، الكافي (478)، الفروق (4/ 81)، البيان والتحصيل (9/ 289)، جامع العلوم والحكم (2/ 237).
(4)
محمد بن عبد الله بن محمد التميمي الأَبْهَري أبو بكر الإمام العلامة. قال الدارقطني: "ثقة مأمون زاهد ورع" ا. هـ. توفي سنة 375 هـ - رحمه الله تعالى -. انظر: الديباج المذهب (2/ 206)، سير أعلام النبلاء (16/ 332)، ترتيب المدارك (4/ 466)، شجرة النور الزكية (1/ 91).
(5)
انظر: الذخيرة (11/ 45)، الفروق (4/ 81)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1081).
(6)
"قال" ساقطة من "جـ" و"هـ".
(7)
"بن أبي طالب" ساقطة من "ب" و"جـ" و"هـ".
(8)
أخرجه أبو عبيد بسنده كما في المحلى (9/ 377)، ورواه البيهقي (10/ 311) وفي إسنادهما:"الحسين بن ضميرة عن أبيه". قال ابن حزم: "أما الرواية عن علي فساقطة لأنها عن الحسن - هكذا والصواب الحسين كما في =
عنه -، وعمر بن عبد العزيز
(1)
، وعن فقهاء المدينة السبعة
(2)
.
قال: والدليل على صحته: أنه قد ثبت وتقرر أن الإقدام على اليمين يصعب ويثقل على كثير من الناس، سيما على أهل الدين وذوي المراتب والأقدار، وهذا أمر معتاد بين الناس على ممر
(3)
الأعصار، لا يمكن جحده.
وكذلك روي عن جماعة من الصحابة: أنهم افتدوا أيمانهم، منهم: عثمان
(4)
، وابن مسعود وغيرهما
(5)
رضي الله عنهما، وإنما فعلوا ذلك لمروءتهم، ولئلا يسبق الظلمة
(6)
إليهم إذا حلفوا، فمن
= المحلى (9/ 377)، والبيهقي (10/ 311) - بن ضميرة عن أبيه وهو متروك ابن متروك لا يحل الاحتجاج بروايته" ا. هـ. المحلى (9/ 381). وانظر: التاريخ الكبير للبخاري (2/ 388)، التاريخ الصغير له (69)، الضعفاء والمتروكون للدارقطني (195)، ميزان الاعتدال (2/ 293)، تعجيل المنفعة (115).
(1)
رواه مالك (2/ 725)، والبيهقي (10/ 429)، وفي المعرفة (14/ 350)، والطحاوي. مختصر اختلاف العلماء (3/ 379).
(2)
انظر: المدونة (5/ 9176)، المنتقى (5/ 224)، القوانين (309)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (10/ 54)، عون المعبود (10/ 48)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1082).
(3)
في "ب": "مر".
(4)
رواه البيهقي (10/ 297). وانظر ما جاء عن عثمان رضي الله عنه أول الفصل.
(5)
كحذيفة. رواه الخلال بإسناده. المغني (10/ 215)، والبيهقي (10/ 302)، والدارقطني (4/ 242).
(6)
في "جـ" و"هـ": "يبقى للظلمة".
يعادي الحالف، ويحب الطعن عليه، يجد طريقًا إلى ذلك، لعظم شأن اليمين وعظم خطرها، ولذا جعلت بالمدينة عند المنبر
(1)
، وأن يكون ما يحلف عليه عنده مما له حرمة، كربع دينار فصاعدًا
(2)
، فلو مكن كل مدع أن يحلف المدعى عليه بمجرد دعواه لكان ذلك
(3)
ذريعة إلى امتهان أهل المروءات وذوي الأقدار والأخطار والديانات لمن يريد التشفي منهم؛ لأنه لا يجد أقرب ولا أخف كلفة
(4)
من أن يقدم الواحد منهم من يعاديه من أهل الدين والفضل إلى مجلس الحاكم ليدعي عليه ما يعلم أنه لا ينهض به، أو لا يعترف
(5)
، ليتشفى منه بتبذله وإحلافه
(6)
، وأن يراه الناس بصورة من أقدم على اليمين عند الحاكم
(7)
، ومن يريد أن يأخذ من أحد
(8)
من هؤلاء شيئًا على طريق الظلم والعدوان وجد إليه سبيلًا، لعله أن يفتدي يمينه منه، لئلا ينقص
(1)
لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على منبري آثمًا تبوأ مقعده من النار" رواه مالك (2/ 727)، وأحمد (3/ 344)، وأبو داود (3246)، وابن ماجه (3/ 17) رقم (2325).
(2)
لأن اليد تقطع بسرقته لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقطع يد السارق في ربع دينار" رواه البخاري (12/ 99) رقم (6790)، ومسلم (1684)(11/ 193).
(3)
"ذلك" ساقطة من "أ".
(4)
في "أ": "كلمة".
(5)
في "ب": "يعرف".
(6)
"وإحلافه" ساقطة من "ب" و"جـ" و"هـ"
(7)
"عند الحاكم" ساقطة من "ب".
(8)
"من أحد" ساقطة من "أ" و"ب" و"جـ".
قدره في أعين الناس، وكلا الأمرين موجود
(1)
في الناس اليوم
(2)
.
قال: وقد
(3)
شاهدنا من ذلك كثيرًا، وحضرناه، وأصابنا
(4)
بعضه، فكان
(5)
ما ذهب إليه مالك ومن تقدمه
(6)
من الصحابة
(7)
والتابعين
(8)
حراسة لمروءات الناس، وحفظًا لها من الضرر اللاحق بهم، والأذى المتطرق إليهم. فإذا قويت دعوى المدعي بمخالطة أو معاملة ضعفت التهمة، وقوي في النفس أن مقصوده غير ذلك، فأُحلف له، ولهذا لم نعتبر ذلك في الغريبين؛ لأن الغربة لا تكاد تلحق المروءة فيها ما يلحقها في الوطن.
فإن قيل: فيجب ألا يُحضره مجلس الحاكم أيضًا؛ لأن في ذلك امتهانًا له وابتذالًا.
قيل له: حضوره مجلس الحاكم لا عار فيه، ولا نقص يلحق من
(1)
في "أ": "موجودات".
(2)
انظر: فتح الباري (5/ 334)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 369)، عون المعبود (10/ 48).
(3)
"وقد" ساقطة من "ب" و"هـ".
(4)
"وأصابنا" ساقطة من "ب".
(5)
وفي "ب": "وذلك".
(6)
في "ب": "تقدم".
(7)
كعثمان وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم وقد سبق قريبًا.
(8)
كجبير بن مطعم. رواه البيهقي (10/ 302)، والدارقطني (4/ 242). ومسروق. رواه ابن سعد (6/ 141). وانظر: مجمع الزوائد (4/ 184)، والدراية (2/ 177).
حضوره؛ لأن الناس يحضرونه ابتداءً في حوائج لهم ومهمات، وإنما العار الإقدام على اليمين، لما ذكرناه.
وأيضًا؛ فإنه يُمكَّن المدعي من إحضاره، لعله يقيم عليه البينة، ولا يقطعه عن حقه.
فإن قيل: فاليمين الصادقة لا عار فيها، وقد حلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من السلف، وقال لعثمان بن عفان رضي الله عنه لما بلغه أنه افتدى يمينه:"ما منعك أن تحلف إذا كنت صادقًا؟ "
(1)
.
قيل: مكابرة
(2)
العادات لا معنى لها، وأقرب ما يبطل به قولهم: ما ذكرناه من افتداء كثير من الصحابة والسلف أيمانهم، وليس ذلك إلا لصرف الظلمة عنهم، وألا تتطرق إليهم تهمة، وما روي عن عمر إنما هو لتقوية نفس عثمان، وأنه إذا حلف صادقًا فهو مصيب في الشرع؛ ليضعف بذلك نفوس من يريد الإعنات، ويطمع في أموال الناس بادعاء المحال؛ ليفتدوا أيمانهم منهم بأموالهم.
وأيضًا: فإن أرادوا أن
(3)
اليمين الصادقة لا عار فيها عند الله تعالى فصحيح، ولكن ليس كل ما لم يكن عارًا عند الله تعالى لم يكن عارًا في
(1)
رواه بنحوه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 237) رقم (559). قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" ا. هـ. مجمع الزوائد (4/ 185).
(2)
في "جـ" و"هـ": "نكارة".
(3)
"أن" ساقطة من "أ".
العادة، وهم يعللون منع إنكاح الابن أمه بأن عليه عارًا في ذلك
(1)
، ونحن نعلم أن المباح لا عار فيه عند الله تعالى، هذا إذا علم كون اليمين صدقًا، وكلامنا في يمين مطلقة لا يعلم باطنها.
قال: ودليل آخر، وهو أن الأخذ بالعرف واجب، لقوله تعالى:{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]. ومعلوم أن من كانت دعواه ينفيها العرف، فإن الظن سبق إليه في دعواه
(2)
بالبطلان، كبقال يدعي على خليفة أو أمير ما لا يليق بمثله شراؤه، أو تطرق تلك الدعوى عليه
(3)
.
قلت: ومما يشهد لذلك ويقويه قول عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه الإمام أحمد وغيره - وهو ثابت
(4)
عنه -: "إن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاختاره لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعده، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصحبته، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح"
(5)
.
(1)
قوله "وهم يعللون منع إنكاح الابن أُمه بأن عليه عارًا في ذلك" ساقط من "ب" و"جـ" و"هـ".
(2)
"في دعواه" ساقطة من "جـ".
(3)
انظر: قواعد ابن رجب (3/ 109).
(4)
وكذا قال في الفروسية (298).
(5)
رواه الإمام أحمد (1/ 379)، وفي فضائل الصحابة (1/ 367)، والطيالسي (33) رقم (246)، والطبراني في الكبير (9/ 113) رقم (8583)، والأوسط (4/ 367) رقم (3627)، والبزار (5/ 212) رقم (1816)، والحاكم (3/ 89)، والبغوي في شرح السنة (1/ 215)، والبيهقي في الاعتقاد (183)، وفي المدخل (1/ 114)(49). وصححه ابن كثير في البداية والنهاية (14/ 386)، =
ولا ريب أن المؤمنين - بل وغيرهم - يرون من القبيح أن تسمع دعوى البقال على الخليفة الأمير أنه باعه بمائة ألف دينار أو نحوها
(1)
ولم يوفه إياها، أو أنه اقترض منه ألف دينار أو نحوها
(2)
، أو أنه تزوج ابنته الشوهاء، ودخل بها، ولم يعطها مهرها. أو تدعي امرأة مكثت
(3)
مع الزوج ستين سنة أو نحوها: أنه لم ينفق عليها يومًا واحدًا، ولا كساها خيطًا، وهو يشاهد داخلًا وخارجًا إليها بأنواع الطعام والفواكه فتسمع دعواها ويحلف لها، ويحبس على ذلك كله. أو تسمع دعوى الذاعر الهارب وبيده عمامة لها ذؤابة، وعلى رأسه عمامة، وخلفه عالم مكشوف الرأس، فيدعي الذاعر أن العمامة له، فتسمع دعواه، ويحكم له بها بحكم اليد. أو يدعي رجل معروف بالفجور وأذى الناس على رجل مشهور بالديانة والصلاح أنه نقب بيته وسرق متاعه، فتسمع دعواه ويستحلف له، فإن نكل قضي عليه. أو يدعي رجل على رجل مشهور بالخير والدين أنه تعرض لزوجته أو ولده أو لقريبه بكلام قبيح أو فعل، فلا تسمع دعواه ويُعزر المدعي بذلك
(4)
. أو يدعي رجل
= والهيتمي في الصواعق المحرقة (23)، والساعاتي في الفتح الرباني (22/ 170)، وحسنه السخاوي في المقاصد (959)، والحافظ ابن حجر في موافقة الخُبْر الخَبَر (2/ 435)، وجود إسناده ابن كثير في تحفة الطالب (455).
(1)
"أو نحوها" ساقطة من "أ".
(2)
"ولم يوفه إياها أو أنه اقترض منه ألف دينار ونحوها" ساقطة من "هـ".
(3)
في "أ": "تلبثت".
(4)
"أو يدعي رجل على رجل مشهور بالخير والدين أنه تعرض لزوجته أو لولده أو لقريبه بكلام قبيح أو فعل فلا تسمع دعواه ويعزر المدعي بذلك" مثبت من "جـ" و"هـ".
معروف بالشحاذة وسؤال الناس أنه أقرض تاجرًا من أكابر التجار مائة ألف دينار، أو أنه غصبها منه، أو أن ثياب التاجر التي هي عليه ملك الشحاذ شلحه إياها، أو غصبها منه. ونحو ذلك من الدعاوى التي شهد الناس بفطرهم وعقولهم أنها من أعظم الباطل؛ فهذه لا تسمع، ولا يُحلَّف فيها المدعى عليه، ويُعزر المدعي تعزير أمثاله. وهذا الذي تقتضيه الشريعة التي مبناها على الصدق والعدل، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] فالشريعة المنزلة من عند الله لا تصدق كاذبًا، ولا تنصر ظالمًا.
فصل
(1)
ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي الله عنه - في ذلك جواب سؤال: هل السياسة بالضرب والحبس للمتهمين في الدعاوى وغيرها من الشرع أم لا؟ وإذا كانت من الشرع فمن يستحق ذلك، ومن لا يستحقه؟ وما قدر الضرب ومدة الحبس؟
فأجاب
(2)
: الدعاوى التي يحكم فيها ولاة الأمور - سواء سموا قضاة، أو ولاة، أو ولاة الأحداث
(3)
، أو ولاة المظالم
(4)
، أو غير
(1)
"فصل" ساقطة من "أ".
(2)
مجموع الفتاوى (35/ 389 - 407).
(3)
ولاة الأحداث: هم الذين يُعلَّمون أحداث الفيء الفروسية والرمي. وقيل: هم الذين ينصبون في الأطراف لتولية القضاء وسعاة الصدقات وعزلهم وتجهيز الجيوش إلى الثغور وحفظ البلاد من الفساد ونحوها عن الأحداث. أسنى المطالب (3/ 92).
(4)
والي المظالم: هو الذي يقود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر =