الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطلب من المدعي، بعد نكول المدعى عليه عنها.
لكن يقال: وجه الاستدلال: أنها جعلت من جانب المدعي لقوة جانبه باللوث، فإذا تقوى جانبه بالنكول شرعت في حقه.
القول الثالث:
أنه يجبر على اليمين - شاء أم أبى - بالضرب والحبس، ولا يقضى عليه
(1)
بنكول، ولا برد يمين
(2)
.
قال أصحاب هذا القول: ولا ترد اليمين إلَّا في ثلاثة مواضع لا رابع لها:
أحدها: القسامة.
والثاني: الوصية في السفر إذا لم يشهد فيها إلَّا الكفار.
والثالث: إذا أقامَ شاهدًا واحدًا حلف معه، وهذا قول ابن حزم ومن وافقه من أهل الظاهر
(3)
.
قالوا: لم يأت قرآن ولا سنَّة ولا إجماع على القضاء بالنكول ولا باليمين المردودة.
وجاء نص القرآن برد اليمين في مسألة الوصية
(4)
، ونص السنَّة
(1)
"عليه" ساقطة من "و".
(2)
انظر: المغني (14/ 234)، الفروع (6/ 478).
(3)
انظر: المحلَّى (9/ 373).
(4)
كما في الآيات (105 و 106) من سورة المائدة، وسيأتي بيان ذلك مفصلًا في كلام المصنف.
بردها في مسألة القسامة
(1)
، والشاهد واليمين
(2)
، فاقتصرنا على ما جاء به كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم نعد ذلك إلى غيره، وليس قول أحدٍ حجة سوى المعصوم صلى الله عليه وسلم وكل من سواه مأخوذٌ من قوله ومتروك.
وأمَّا قول مالك في "الموطأ"
(3)
في باب اليمين مع الشاهد في كتاب الأقضية: أرأيت رجلًا ادَّعى على رجلٍ مالًا أليس يحلف المطلوب ما ذلك
(4)
الحقُّ
(5)
عليه، فإن حلفَ بطل ذلك عنه، وإن أبى أن يحلف ونكل عن اليمين، حلف طالب الحقِّ: إنَّ حقَّه لحقٌّ، وثبت حقه على صاحبه؟ فهذا ممَّا
(6)
لا اختلاف فيه عند أحدٍ من النَّاسِ، ولا في بلدٍ من البلدان، فبأي شيءٍ أخذ هذا؟ أم في أي كتابٍ وجده؟ فإذا أقرَّ بهذا فليقر باليمين مع الشاهد، وإن لم يكن ذلك في كتاب الله تعالى" هذا لفظه.
قال أبو محمد ابن حزم
(7)
: إن كان خفي عليه قضاء أهل العراق بالنكول، فإنَّه لعجب
(8)
، ثمَّ قوله: "إذا أقرَّ بردَّ اليمين وإن لم يكن في كتاب الله، فليقرَّ باليمين مع الشاهد، وإن لم يكن في كتاب
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
(2/ 722)، والاستذكار (22/ 56).
(4)
"ما ذلك" ساقط من "ب".
(5)
"الحق" ساقط من "و".
(6)
في "أ" و"د": "ما".
(7)
المحلَّى (9/ 380).
(8)
في "ب" و"د" و"و": "لعجيب".
الله
(1)
" فعجبٌ آخر؛ لأنَّ اليمين مع الشاهد ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في كتاب الله، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
قلت: ليس في واحدٍ من الأمرين عجب.
أمَّا حكايته الإجماع فإنَّه لم يقل: لا خلاف أنَّه لا يحكم بالنكول، بل إذا نكلَ وردَّ اليمين، حُكِمَ له بالاتفاق، فإنَّ فقهاء الأمصارِ على قولين
(2)
: منهم من يقول: يقضى بالنكول، ومنهم من يقول: إذا نكل رُدَّت اليمين على المدعي فإن حلفَ حكم له، فهذا الَّذي أراد مالك
(3)
رحمه الله: أنَّه إذا رد اليمين مع نكول المدعى عليه لم يبقَ فيه اختلاف في بلدٍ من البلدان، وإن كان فيه اختلاف شاذ.
وأمَّا تعجبه من قوله: "إنَّ الشاهد واليمين ليس في كتاب الله" فتعجبه هو المتعجب منه، فإنَّ المانعين من الحكم بالشاهد واليمين يقولون: ليس هو في كتاب الله تعالى، بل في كتاب الله
(4)
خلافه، وهو اعتبار الشاهدين
(5)
، فقال مالك - رحمه الله تعالى -: إذا كنتم تقضون
(1)
قوله "فليقر باليمين مع الشاهد وإن لم يكن في كتاب الله" ساقط من "د" و"هـ".
(2)
سبق تفصيله قريبًا، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثة أقوال وسيذكر قولين آخرين آخر الفصل.
(3)
انظر: الاستذكار (22/ 57).
(4)
"بل في كتاب الله" ساقط من "ب".
(5)
في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].
بالنكول، ويقضي النَّاس كلهم بالردِّ مع النكول، وليس في كتاب الله، فهكذا الشاهد مع اليمين يجب أن يقضى به وإن لم يكن في كتاب الله تعالى، كما دلَّت عليه السنة. فهذا إلزام
(1)
لا محيد عنه، والله أعلم.
قال ابن حزم
(2)
: وأمَّا رد اليمين على الطالب إذا نكل المطلوب، فما كان في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبين الأمرين فرقٌ كما بين السماء والأرض.
فيقال: بل أرشد إليه كتاب الله وسنة رسوله.
أمَّا الكتاب: فإنَّه سبحانه شرع الأيمان في جانب المدعي إذا احتاج إلى ذلك، وتعذر عليه إقامة البينة، وشهدت القرائن بصدقه، كما في اللعان
(3)
، وشرع عذاب المرأة بالحدَّ بنكولها مع يمينه، فإذا كان هذا شرعه في الحدود التي تدرأ بالشبهات، وقد أمرنا بدرئها ما استطعنا، فلأن يشرع الحكم بها بيمين المدعي مع نكول المدعى عليه في درهم وثوب ونحو ذلك أولى وأحرى.
لكنْ أبو محمد وأصحابه سدُّوا على نفوسهم باب اعتبار المعاني والحِكَم التي علق بها الشارع الحُكْم
(4)
، ففاتهم بذلك حظٌّ عظيمٌ من العلمِ، كما أنَّ الَّذين فتحوا على نفوسهم باب الأقيسة والعلل - التي لم
(1)
في "ب": "الإلزام".
(2)
المحلَّى (9/ 380).
(3)
الآيات (6 - 9) من سورة النور.
(4)
انظر: الإحكام لابن حزم (7/ 368)، النبذ في أصول الفقه (120)، البداية والنهاية (15/ 795).
يشهد لها الشارع بالقبول - دخلوا في باطل كثير، وفاتهم حقٌّ كثير، فالطائفتان
(1)
في جانب إفراط وتفريط.
وأمَّا إرشاد السنَّة إلى ذلك: فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين في جانب المدعي إذا أقام شاهدًا واحدًا
(2)
، لقوَّة جانبه بالشاهد، ومكنه من اليمين بغير بذل خصمه
(3)
ورضاهُ، وحكم له بها مع شاهده، فلأن يحكم به باليمين التي يبذلها
(4)
خصمه مع قوَّة جانبه بنكول خصمه أولى وأحرى، وهذا ممَّا لا يشك فيه من له خوض في حكم الشريعة وعللها ومقاصدها، ولهذا شرعت الأيمان في القسامة في جانب المدعي، لقوَّة جانبه باللوث، وهذه هي المواضع الثلاثة التي استثناها منكرو القياس
(5)
.
ولما كانت أفهام الصحابة رضي الله عنهم فوق أفهام جميع الأمة، وعلمهم بمقاصد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقواعد دينه وشرعه أتم من علم كل من جاء بعدهم: عدلوا عن
(6)
ذلك إلى غير هذه المواضع الثلاثة وحكموا بالردَّ مع النكول في موضع
(7)
، وبالنكول وحده في
(1)
في "د" و"هـ: "فالطائفتين".
(2)
تقدم ذكر ألفاظه وتخريجها.
(3)
في "ب": "صاحبه".
(4)
في "هـ": "بذلها له".
(5)
انظر: المحلى (9/ 373).
(6)
في "ب" و"د" و"هـ" و"و": "عدوا".
(7)
"وبالنكول وحده في موضع" ساقطة من "هـ".
كما في حكم عثمان على ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدم =
موضع
(1)
، وهذا من كمال فهمهم وعلمهم بالجامع والفارق والحكم والمناسبات، ولم يرتضوا
(2)
لأنفسهم عبارات
(3)
المتأخرين واصطلاحاتهم وتكلفاتهم، فهم كانوا أعمق الأمة علمًا، وأقلهم تكلفًا، والمتأخرون عكسهم في الأمرين.
فعثمان بن عفان قال لابن عمر: "احلف بالله لقد بعت العبد وما به داء علمته"
(4)
، فأبى، فحكم عليه بالنكول، ولم يرد اليمين في هذه الصورة على المدعي، ويقول له: احلف أنت أنَّه كان عالمًا بالعيب؛ لأنَّ هذا ممَّا لا يمكن أن يعلمه المدعي، ويمكن المدعى عليه معرفته، فإذا لم يحلف المدعى عليه لم يكلف المدعي اليمين، فإنَّ ابن عمر رضي الله عنهما كان قد باعه بالبراءة من العيوب، وهو إنَّما يبرأ إذا لم يعلم بالعيب، فقال له:"احلف أنك بعته وما به عيب تعلمه"، وهذا ممَّا يمكن
(5)
أن يحلف عليه دون المدعي، فإنَّه قد تتعذر عليه اليمين أنَّه كان عالمًا بالعيب، وأنَّه كتمه مع علمه به.
وأما أثر عمر بن الخطاب - وقول المقداد: "احلف أنها سبعة آلاف"، فأبى أن يحلف، فلم يحكم له بنكول عثمان
(6)
- فوجهه: أن
= تخريجه.
(1)
كما في قصة المقداد مع عثمان رضي الله عنهما، وقد تقدم تخريجها.
(2)
في "و": "يرضوا".
(3)
في "د" و"هـ" و"و": "بعبارات".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في "د" و"هـ": "يمكنه".
(6)
تقدم تخريجه.
المقرض إن كان عالمًا بصدق نفسه وصحة دعواه حلف وأخذه، وإن لم يعلم ذلك لم تحل له الدعوى بما لا
(1)
يعلم صحته، فإذا نكل عن اليمين لم يقض له بمجرد نكول خصمه؛ إذ خصمه قد لا يكون عالمًا بصحة دعواه، فإذا قال للمدعي: إن كنت عالمًا بصحة دعواك فاحلف وخذ، فقد أنصفه جد الإنصاف.
فلا أحسن مما قضى به الصحابة رضي الله عنهم، وهذا التفصيل في المسألة هو الحق، وهو اختيار شيخنا
(2)
- قدس الله روحه - والله أعلم
(3)
.
قال أبو محمد ابن حزم
(4)
، محتجًا لمذهبه: ونحن نقول: إن نكول الناكل عن اليمين في كل موضع وجب
(5)
عليه، يوجب
(6)
أيضًا عليه حكمًا، وهو الأدب الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل من أتى منكرًا يوجب تغييره باليد
(7)
.
فيقال له: قد يكون معذورًا في نكوله، غير آثم به، بأن يدعي أنه
(1)
في "د": "لم".
(2)
انظر: الاختيارات (343).
(3)
"والله أعلم" ساقط من "أ".
(4)
المحلَّى (9/ 383).
(5)
"وجب" ساقطة من "أ" و"ب".
(6)
في "د" و"و": "موجب".
(7)
كقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم رقم (78)(2/ 380).
أقرضه ويكون قد وفاه، ولا يرضى منه إلا بالجواب على وفق الدعوى. وقد يتحرج من الحلف، مخافة موافقة قضاء وقدر، كما روي عن جماعة من السلف
(1)
، فلا يجوز أن يحبس حتى يحلف.
وقولهم: "إن هذا منكر يجب تغييره باليد"
(2)
كلام باطل، فإن تورعه عن اليمين ليس بمنكر، بل قد يكون واجبًا أو مستحبًّا أو جائزًا، وقد يكون معصية.
وقولهم: "إن الحلف حق قد وجب عليه، فإذا أبى أن يقوم به ضرب حتى يؤديه"
(3)
. فيقال: إن في اليمين حقًّا له وحقًّا عليه، فإن الشارع مكنه من التخلص من الدعوى باليمين، وهي واجبة عليه للمدعي، فإذا امتنع من اليمين فقد امتنع من الحق الذي وجب عليه لغيره، وامتنع من تخليص نفسه من خصمه باليمين، فقيل: يحبس أو يضرب حتى يقر أو يحلف. وقيل: يقضى عليه بنكوله، ويصير كأنه مقر بالمدعى
(4)
. وقيل: ترد اليمين على المدعي. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد
(5)
. وقول رابع بالتفصيل كما تقدم، وهو اختيار
(1)
تقدم ذكر بعضهم.
(2)
المحلَّى (9/ 383).
(3)
المحلَّى (9/ 383).
(4)
في "د": بياض قدر خمس كلمات.
(5)
انظر: مسائل أحمد رواية صالح (2/ 39)، ورواية عبد الله (276)، الهداية (2/ 146)، المغني (14/ 233)، الشرح الكبير (30/ 138)، جامع العلوم والحكم (2/ 234)، الفروع (6/ 478)، كشاف القناع (4/ 286).