الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
ما يتعلق بمنهج ابن حبان في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل وغير ذلك
وهو المراد هنا.
وينتظم ذلك هنا في تسعة أمور:
الأمر الأول
منزلة ابن حبان بين أهل النقد
قال الحازمي في كتابه "شروط الأئمة الخمسة"(ص 31 - 32):
"ابنُ حبان أَمْكَنُ في الحديث من الحاكم". اهـ.
وقال ابن كثير في كتابه: "اختصار علوم الحديث"(ص 26):
"قد التزم ابن خزيمة وابن حبان الصحة، وهما خير من "المستدرك" بكثير، وأنظف أسانيد ومتونًا". اهـ.
قال أبو أنس:
قد نُسب ابنُ حبان إلى التعنت في الجرح، وإلى التساهل في التصحيح والتوثيق أيضا، وهذا مما قد يُوهِمُ الاضطرابَ في الحكم على ابن حبان من حيث الاعتماد عليه في باب النقد.
وسيأتي في الفصول الآتية شرحُ ما يدفعُ هذا الإيهامَ، ويُبَيِّنُ وَجْهَ الحكم عليه في الحالتين إن شاء الله تعالى.
وخلاصة ذلك: أنه وإن كان يتساهل في توثيق من لم يَعرف من حالهم شيئًا بناءً على البراءة الأصلية عنده، فإنه ربما تعنَّت فيمن وقف له على حديث منكر أو أكثر ممن وثقه جمهور الأئمة، فلا هو بالمتساهل مطلقًا، ولا هو بالمتعنت مطلقًا، ولِكُلِّ مقامٍ مقالٌ، فلا تعارض ولا إيهام، ويأتي تفصيل ذلك قريبًا، والله الموفق.
ومما يبُيّنُ منزلةَ ابن حبان عند الشيخ المعلمي، مع ما سيأتي من تفصيل قوله فيه:
(1)
أنه قابلَ قولَ أبي زرعة وأبي حاتم بقول ابن حبان في القاسم بن أُمية؛ ففي تعليق المعلمي على "الفوائد المجموعة"(ص 265):
"ذكر الرازيان أنه -يعني القاسم بن أمية- صدوق. وقال ابن حبان: يروي عن حفص بن غياث المناكير الكثيرة، ثم ساق له هذا الحديث (1). وقال: لا أصل له من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: شهادة أبي زرعة وأبي حاتم أنه صدوق أَوْلى.
أقول: بل الصواب تتبع أحاديثه، فإن وُجد الأمر كما قال ابن حبان ترجَّح قولُه وبان أن هذا الرجل تغيَّرت حالُه بعد أن لقيه الرازيان، وإلا فكونه صدوقًا لا يدفع عنه الوهمَ، وقد تفرد بهذا". اهـ.
(1) يعني حديث: "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك".
قال أبو أنس:
فهاك منهجٌ للمعلمي تُضربُ له أكبادُ الإبل، وهو: أن الجرحَ المُفسَّرَ المُبَرْهَنَ عليه لا يُدفعُ بالتعديل المطلق، مهما تفاوتَ قدرُ الجارح والمعدِّل، بل ربما كان مع الجارح زيادةُ علمٍ أو غيرها من الملابسات، هذا حتى ولو كان الجارح معروفًا بالتعنت والمجازفة في الجرح.
وأوضحُ من ذلك في إرساء هذا المنهج ما ذكره الشيخ المعلمي في ترجمة مهنأ بن يحيى من "التنكيل" رقم (255) إذ قال فيه أبو الفتح الأزدي: "منكر الحديث".
فقال الشيخ المعلمي: "الأزدي نفسه متكلم فيه حتى رُمي بالوضع
…
و
…
في عبارة ابن الجوزي في "المنتظم"(8/ 368): ذكر -يعني الخطيب- مهنأ بن يحيى، وكان من كبار أصحاب أحمد، وذكر عن الدارقطني أنه قال: مهنأ ثقة نبيل، وحكى
…
عن أبي الفتح الأزدي
…
وهو يعلم أن الأزدي مطعون فيه عند الكُلِّ
…
فلا يستحيي الخطيب أن يقابلَ قولَ الدارقطني في مهنأ بقول هذا ثم لا يتكلم عليه؟
أقول: عفا الله عنك يا أبا الفرج
…
وعليك في كلامك هذا مؤاخذات:
…
الرابعة: أن الأزدي ذكر مُتَمَسَّكَهُ، فلا يسوغُ ردُّ قوله إلا ببيانِ سقوطِ حجته.
أما متمسك الأزدي فهو أن مهنأ روى عن زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن جابر حديثًا في الجمعة، ولا يُعلم رواه أحدٌ غيره عن زيد بن أبي الزرقاء، ولا أحد غير زيد بن أبي الزرقاء عن سفيان الثوري، فلا يُعرف عن الثوري إلا بهذا الإسناد
…
فلو كان ابن الجوزي نظر في هذا الحديث وحَقَّقَ، لكان أَوْلَى به مما صنع، وعلى كل حال فغاية ما في الباب أن يكون مهنأ أخطأ في سند هذا الحديث، فكان ماذا؟ وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "كان من خيار الناس في حديث أحمد بن حنبل وبشر
الحافي، مستقيم الحديث" ويكفيه مكانته عند أحمد وثناء أصحابه عليه. والله أعلم". اهـ. كلام المعلمي.
قلت:
فانظر كيف أقام المعلمي لجرح الأزدي -على ما فيه- وزنًا؛ لَمَّا فسَّرَهُ الأزدي وبَيَّن مستنده فيه ولم يقبل المعلمي دَفْعَ ابن الجوزي له لمجرد ما في الأزدي من الطعن.
وفي جواب المعلمي عما رُمي به ابن حبان من المجازفة والتهور في الجرح أحيانًا يقول المعلمي في ترجمة ابن حبان من "التنكيل" رقم (200):
"إنما ذلك في مواضع غير كثيرة، يرى ما يستنكره للراوي، فيبالغ في الحطّ عليه، وهذا أمرٌ هيِّن؛ لأنه إن كان فيمن قد جرحَه غيره فكما يقول العامّة: "لا يضر المقتول طعنة" وإن كان فيمن وثقه غيره، لم يُلتفت إلى تشنيعه، وإنما ينظر في تفسيره وما يحتج به". اهـ.
(2)
مثال آخر لبيان منزلة ابن حبان عند المعلمي أنه قابلَ تجهيلَ أبي حاتم للراوي بمعرفة ابن حبان له.
فقد ترجم ابن أبي حاتم في "الجرح"(8 / ت 1431) لمصعب بن خارجة، ولم يزد في نسبه شيئًا، وبيَّض لشيوخه والآخذين عنه، ونقل عن أبيه قولَه فيه:"مجهول".
فقال الشيخ المعلمي في ترجمة مصعب من "التنكيل"(246):
"قد عرفه ابن حبان فقال في "الثقات": مصعب بن خارجة بن مصعب، من أهل سرخس، يروي عن حماد بن زيد وأبيه، روى عنه أهل بلده، مات سنة إحدى أو اثنتن ومائتين، وكان على قضاء سرخس". اهـ. كلام المعلمي.
قال أبو أنس:
واضح من سياق ابن أبي حاتم للترجمة أن أباه لم يعرف عنه سوى أنه وقع له هكذا في بعض الأسانيد. والله تعالى أعلم.
(3)
وفي ترجمة: مسلم بن أبي مسلم من "التنكيل" رقم (244):
"وثقه الخطيب لكن في "اللسان" أنه ربما يخطىء. وقال البيهقي: غير قوي، وقال أبو الفتح الأزدي: حدث بأحاديث لا يتابع عليها".
قال الشيخ المعلمي: "ذكره ابن حبان في "الثقات": مسلم بن أبي مسلم الجرمي، سكن بغداد، يروي عن يزيد بن هارون ومخلد بن الحسين ثنا عنه الحسن بن سفيان وأبو يعلى، ربما أخطأ، مات سنة أربعين ومائتين.
وقدمنا في ترجمة ابن حبان أن توثيقه لمن قد عرفه من أثبت التوثيق، وقوله:"ربما أخطأ" لا ينافي التوثيق، وإنما يظهر أثر ذلك إذا خالف من هو أثبت منه.
فأما أبو الفتح محمد بن الحسن الأزدي، فليس في نفسه بعمدة حتى لقد اتهموه بوضع الحديث.
ومع ذلك فليس من شرط الثقة أن يُتابَعَ في كل ما حدَّث به، وإنما شرطه أن لا ينفرد بالمناكير عن المشاهير فيكثر.
والظاهر أن الأزدي إنما عنى الحديث الذي ذكره البيهقي، وهو ما رواه مسلم هذا عن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا:"لا يقل أحدكم زرعته، ولكن ليقل حرثته". قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64].
وهذا الحديث أخرجه ابن جرير في تفسير الواقعة عن أحمد بن الوليد القرشي عن مسلم. وفي "اللسان" أن البيهقي أخرجه في "شعب الإيمان" من وجهين [عنه] وقال: إن مسلمًا غيرُ قويّ.
ولعل ابن حبان إنما أشار بقوله: "ربما أخطأ" إلى هذا الحديث، على أن الصواب موقوف، وأخطأ مسلم في رفعه.
ومسلم مكثر في التفسير كما يُعلم من "تفسير ابن جرير" فإن ترجح خطؤه في هذا الحديث الواحد لم يضره ذلك إن شاء الله.
وابن حبان والخطيب أعرف بالفن ودقائقه من البيهقي". اهـ.
* * *