الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصار ما ذكر في هذا الحديث من الاشتراط لا يراه البخاري حجة؛ لما سبق من الخلاف الواقع في إسناده، ولو كان يراه حجة لخرجه في باب الإحصار في الحج على سبيل اختلاف النصوص أو نحو ذلك، وهو أليقُ مكانٍ به.
لكنه نبَّه بإخراجه في كتاب النكاح إلى أنه -على الأقل- متوقف عن الحكم بمقتضاه فيما يتعلق بالاشتراط، وخرج في باب الإحصار من حديث ابن عمر ما يدل على خلاف مقتضاه، مكتفيًا بذلك، وهذا واضح بحمد اللَّه.
فالبحث هنا إنما هو في تصرف البخاري في أبوابه ، وما يخرج فيها من الأحاديث؛ لتوافق رأيه وما ذهب إليه من الأحكام، لا مجرد إخراج الحديث بين دفتي "الصحيح"، بغض النظر عن ملابسات ومناسبات الأبواب؛ لأن من المعروف أن فقه البخاري في تراجم أبوابه.
والمتخصص إذا عزا حديثا للصحيحين؛ فحري به أن يذكر الباب الذي خرج فيه الحديث؛ ليلتفت الناظر إلى ما قد يدعوه إلى مطالعة الكتاب بنفسه.
ومثاله هنا: مَن أراد الاستدلال على قضية الاشتراط في الحج مثلا، فليس من الإنصاف مع البخاري و"صحيحه"، بل لا يُستبعد وصفُ ذلك بالقُصور المبعد عن حقيقة الحال أن يُعزى حديثُ أبي أسامة هذا إلى البخاري بإطلاق، دون التنبيه على كيفية إخراجه له، فأما إذا عزاه على النحو المذكور، ثم خالفَ البخاريَّ في نقده للحديث، فهذا أمر آخر، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.
النموذج الثاني:
في باب: الرطب والتمر من كتاب الأطعمة (9/ 477 - فتح).
أخرج البخاري (5443) حديث إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان بالمدينة يهودي، وكان يسلفني في تمري
إلى الجذاذ
…
، فجاءني اليهودي عند الجذاذ، ولم أجد منها شيئا، فجعلت أستنظره إلى قابل، فيأبى، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
…
فقمتُ، فجئتُ بقليل رطب، فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل
…
فأقول:
في هذا الحديث قضيتان، قد استشكلهما بعضُ المحققين:
أولهما: أن فيه أن قصة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في النخل بالبركة كانت فيما كان على جابر من الدَّيْن، وإنما المحفوظ المعروف أنها كانت فيما كان على والد جابر.
هكذا أخرجه البخاري في غير موضع موصولا ومعلقا في مواضعه المعهودة، منها (2395)(2601)(2781)(3580)(4053).
القضية الثانية: أن في هذا الحديث "السَّلف إلى الجذاذ" وهذا لا يقول به البخاري ولا يجيزه هو، هكذا قال الإسماعيلي، كما نقله عنه ابن حجر في "الفتح"(9/ 479)، وهذا واضح جدًّا؛ فقد اعتمد البخاري في كتاب السَّلَم من "صحيحه" (4/ 500):"السَّلَم إلى أجل معلوم" لم يذكر غيره، وهو الموضع اللائق بكل ما يتعلق بـ:"السَّلَم" شريطة أن تكون النصوص يراها البخاري حُجة في بابها، بغض النظر عن رجحان بعضها على بعض لأسباب خارجة عن صحتها في نفسها.
فإذا أبعد البخاري حديث إبراهيم هذا عن كتاب السَّلَم، مع اشتماله على ما هو صريح في بابه، ووضعه في كتاب آخر لأجل ما فيه من أكل "الرطب"، فإن ذلك يدل للمتأمل أن البخاري لا يرى أن عبارة:"كان يسلفني في تمري إلى الجذاذ" محفوظة، وهذه إشارةٌ بديعةٌ، لا تصدر إلا من مثل البخاري في براعته، فإذا أراد أحدهم أن يستدل لمن يقول بالسلم إلى الجذاذ بتصحيح البخاري هذا الحديث، محتجا بأنه مخرج في "الصحيح"، لكان هذا محل نظر كبير وتعجب طويل.
نعم، يمكن أن يُختلف مع البخاري، أو يخالِف في ذلك مَنْ يرى من المحققين صحةَ الحديث بلفظه وسياقه هذا، متجشما تأويله وتوجيهه.
فبينما ذهب الإسماعيلي -ومثله ابن التين- إلى شذوذ هذه الرواية لما فيها من جعل الدَّيْن لجابر وليس لوالده، دفع ذلك ابنُ حجر بتعدد القصة، وأنه لا مانع من وقوعها لدَيْن جابر ودَيْن أبيه.
وكذلك قول الإسماعيلي: السَّلَف إلى الجذاذ مما لا يجيزه البخاري وغيره، فقد ذهب ابن حجر إلى أنه وقع في الاقتصار على الجذاذ اختصار، وأن الوقت كان في أصل العقد معيَّنًا.
نتجاوز هنا القضية الأولى لقبولها الأخذ والرد والاحتمال، أما القضية الثانية فقد اتفق ابن حجر مع الإسماعيلي على أن لفظ "السَّلم إلى الجذاذ" لا يصح، ولا يُراد مدلولُه، وأوَّلَهُ ابن حجر بأنه لفظٌ "مختصر" عن أصل كلام العقد، ولا يخفى على الحافظ ابن حجر أن "الاختصار" -لو كان هو الواقع هنا- هو أحد مداخل الخلل وأسباب التعليل التي يُعِلُّ بها النقادُ أحيانا بعضَ المتون، وهو منتشر في كلامهم، فثبت الاتفاق بين المُنْكِر والمؤَوِّل على أن هذا اللفظ غير موافق لواقع الحال، فهو خطأ.
وهذا هو المراد لمن تأمل هذا الموضع: أن البخاري خرج هذا الحديث في كتاب الأطعمة، وهو لا يرى أن جميعَ لفظه محفوظ، بل أراد أن يضرب بسهم واحد غرضين:
الأول: الاستفادة من اشتماله على أكل الرطب وحده، وقد بوَّب قبله على أكل القثاء بالرطب.
الثاني: الإشارة إلى ما وقع في رواية إبراهيم بن أبي ربيعة هذا من الأوهام في متنه.