الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الخامس
فيما ذُكر من تعنت ابن حبان في باب الجرح في مقابل ما وُصف به من التساهل في باب التوثيق
قال أبو أنس:
سبقت الإشارة في الأمر الأول إلى نسبة ابن حبان إلى أمرين ظاهرهما التعارض، أَلا وهما: التساهل في التوثيق، والتعنت في الجرح.
وقد مَرَّ في الأمر الثاني تقرير الشيخ المعلمي لتساهل ابن حبان في قاعدته في توثيق المجاهيل، مع ما زدناه من البيان والنقل عن أهل العلم.
لكن مما يلفت النظر أنه يوجد في كلام بعض النقاد وصفُ ابن حبان بالتعنت في باب الجرح بما ظاهره عكس ما مَرَّ في تلك القاعدة.
(1)
ففي ترجمة: مُحَمَّد بن الفضل السدوسي ولقبه عارم من "الميزان"(3/ 121) بعد ذكر توثيقه وتقديمه:
"قال الدارقطني: تغير بأخرة، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو ثقة.
قال الذهبي: فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله فأين هذا القولُ من قولِ ابن حبان الخسَّاف المتهور في عارم فقال: اختلط في آخر عمره وتغيَّر حتَّى كان لا يدري ما يحدَّثُ به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة؛ فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون؛ فإذا لم يُعلم هذا من هذا تُرك الكُلُّ، ولا يحتج بشيء منها.
قلت: ولم يَقْدِر ابنُ حبان أن يسوق له حديثًا منكرًا، فأين ما زعم؟ ". اهـ.
(2)
وفي ترجمة: سعيد بن عبد الرحمن الجمحي من "الميزان" أيضًا (1 / ت 3227).
"وثقه ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: له غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة؛ وإنما يهم فيرفع موقوفًا ويوصل مرسلًا، لا عن تعمد.
وأما ابن حبان، فإنه خسَّاف قصَّاب، فقال: روى عن الثَّقات أشياء موضوعة". اهـ.
(3)
وفي ترجمة: عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي منه (3/ 442):
"يحدث عن قوم ضعاف
…
وهو لا بأس به في نفسه.
وأما ابن حبان فإنه يُقَعْقِعُ كعادته، فقال فيه: يروي عن قوم ضعاف أشياء يدلسها عن الثقات، حتَّى إذا سمعها المستمع لم يَشُكَّ في وضعها، فلما كثر ذلك في أخباره أُلزقت به تلك الموضوعات، وحمل الناس عليه في الجرح، فلا يجوز عندي الاحتجاج بروايته كلها بحال
…
(و) لم يرو ابن حبان في ترجمته شيئًا، ولو كان له عنده شيء موضوع لأسرع بإحضاره، وما علمت أن أحدًا قال في عثمان بن عبد الرحمن هذا: إنه يدلس عن الهَلْكى، إنما قالوا: يأتي عنهم بمناكير، والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتامَّ المعرفة تامِّ الورع". اهـ.
(4)
وفي ترجمة: أفلح بن سعيد المدني منه (1 / ت 1023):
"وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث.
وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال.
فقال الذهبي: ابن حبان ربما قَصَبَ الثقة حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه". اهـ.
(5)
وفي ترجمة: سالم بن عجلان الأفطس من "هدي الساري" للحافظ ابن حجر:
"قال أبو حاتم: صدوق نقي الحديث وكان مرجئًا، وقال الجوزجاني: كان يخاصم في الإرجاء، داعيةً، وهو في الحديث متماسك، وأفرط ابن حبان فقال: كان مرجئًا يقلب الأخبار وينفرد بالمعضلات عن الثقات
…
قلت:
…
وأما ما وصفه به من قلب الأخبار وغير ذلك فمردود بتوثيق الأئمة له، ولم يستطع ابن حبان أن يورد له حديثًا واحدًا". اهـ.
قال أبو أنس:
ومن مجازفات ابن حبان في جرحه للرواة:
(1)
قوله في بهز بن حكيم بن معاوية: "يخطىء كثيرًا، فأما أحمد وإسحاق فيحتجان به، وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديث" إنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا" لأدخلناه في "الثقات" وهو ممن أستخير الله فيه".
قال الذهبي في ترجمة بهز من "تاريخ الإسلام" في الطبقة الخامسة عشرة:
"على أبي حاتم البستي في قوله مؤاخذات:
إحداها: قوله: "كان يخطىء كثيرًا"، وإنما يُعرف خطأ الرجل بمخالفة رفاقه له، وهذا فانفرد بالنسخة المنفردة المذكورة وما شاركه فيها [أحد] ولا له في عامتها رفيق، فمن أين لك أنه أخطأ؟
الثانية: قوله: "تركه جماعة" فما علمت أحدًا تركه أبدًا، بل قد يتركون الاحتجاج بخبره، فهلا أفصحت بالحق؟
الثالثة: قوله: ولولا حديث: "إنا آخذوها" فهو حديث انفرد به بهز أصلا ورأسًا، وقال به بعض المجتهدين". اهـ.
(2)
قوله في عبد الله بن إنسان الطائفي في "الثقات": "كان يخطىء". فقال الذهبي في ترجمة عبد الله من "الميزان"(3 / ت 4215):
"هذا لا يستقيم أن يقوله الحافظ إلا فيمن روى عدَّة أحاديث، فأما عبد الله هذا فهذا الحديث (1) أول ما عنده وآخره، فإن كان قد أخطأ فحديثه مردود على قاعدة ابن حبان". اهـ.
ويجيب الشيخ المعلمي عن تنديد الكوثري على ابن حبان بوصف الذهبي له بمثل تلك الأوصاف، بقوله في ترجمة ابن حبان من "التنكيل":
"إنما ذلك في مواضع غير كثيرة، يرى ما يستنكره للراوي فيبالغ في الحطِّ عليه وهذا أمر هيّن؛ لأنه إن كان فيمن قد جرحه غيره فكما يقول العامة: "لا يضر المقتول طعنة" (2) وإن كان فيمن وثقه يخرج لم يُلتفت إلى تشنيعه، وإنما ينظر في تفسيره وما يحتج به". اهـ.
لكن يعلق الشيخ في الأمر التاسع من القاعدة السادسة من "التنكيل" على قول ابن حبان في شعبة مولى ابن عباس: "روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر" بقوله:
"ابن حبان كثيرًا ما يُهَوِّلُ مثل هذا التهويل في غير محلِّه كما يأتي في ترجمته".
ويُفَصِّلُ الشيخ هذه القضية في الأمر الثامن من تلك القاعدة، فيقول:
"ابن حبان قد يذكر في "الثقات" مَنْ يجد البخاري سماه في "تاريخه" من القدماء، وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه.
ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكره وإن كان الرجل معروفًا مكثرًا
…
".
(1) هو حديثه عن عروة عن أَبيه مرفوعًا: "إن صَيْد وَجٍّ وعضاهه حرم محرم الله".
(2)
التنديد بابن حبان إنما هو في جرحه البالغ للثقة أو من هو قريب منه، لا في مبالغته في جرح المجروح، والأمثلة التي سقتها آنفًا تدل على ذلك.
قال أبو أنس:
في هذا فَصْلُ الخِطاب إن شاء الله تعالى، فابنُ حبان بينما يذكر في ثقاته من لم يعرفهم أصلا، إذا هو يبالغ في الحطِّ على الراوي الثقة بالحديث الواحد أو الحديثين مما يستنكره عليه.
إذًا، فلا يعتد بتوثيق ابن حبان إلا لمن عرفهم وخبرهم وسبر أحاديثهم، ولا يُعتد بجرحه لمن وثَّقه غيرُه ما لم يُفَسِّرْ وجهَ جرحِه فيُنظر فيه، والله تعالى الموفق.
* * *