الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
البحث في القَدْر الذي أصاب الحاكم فيه التساهُل في "المستدرك"، والسبب في ذلك
قال الشيخ المعلمي في "التنكيل"(1/ 455):
"قال ابن حجر في "اللسان" بعد أن ذكر ما في "المستدرك" من التساهل:
قيل في الاعتذار عنه: أنه عند تصنيفه لـ "المستدرك" كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب "الضعفاء" له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في "مستدركه" وصححها". اهـ.
ولعل المراد بقوله: وذكر بعضهم ما في "تذكرة الحفاظ" عن بعضهم أن الحاكم قال له: "إذا ذاكرتُ في باب لابد من المطالعة؛ لكبر سني"، وهذا لا يستلزم الغفلة، ومع ذلك فقوله "تغير وغفلة" لا يؤدي معنى الاختلاط، فكيف الاختلاط الشنيع؟ (1).
وقد رأيت في "المستدرك" المطبوع إثبات تواريخ السماع على الحاكم في أوله أي ج 1 ص 2 ثم ص 36، فـ: ص 69، فـ: ص 94، فـ: ص 129، فـ: ص 163، وتاريخ الأول سابع المحرم سنة 393، والثاني بعد ثلاثة أشهر تقريبًا، وهكذا بعد كل ثلاثة أشهر يملي جزءًا في نيف وثلاثين صفحة من المطبوع، ولم يستمر إثبات ذلك في جميع الكتاب.
وآخر ما وجدته فيه ج 3 ص 156 في غرة ذي القعدة سنة 402، وهذا يدل على أن تلك الطريقة استمرت منتظمة إلى ذاك الموضع، فأما بعد ذلك فاللَّه أعلم، فإنه لو
(1) يَرُدُّ بذلك الشيخ المعلمي على الكوثري في قوله في الحاكم: اختلط اختلاطًا شنيعًا.
بقي ذاك الانتظام لم يتم الكتاب إلا سنة 410، لكن الحاكم توفي سنة 405، وفي المجلد الرابع (ص 249)، ذكر الحاكم أول سند "أخبرنا الحاكم أبو عبد الله
…
" لكن بلا تاريخ.
هذا واقتصاره في كل ثلاثة أشهر على مجلس واحد يملي فيه جزءًا بذاك القدر يدل أنه إنما أَلَّفَ الكتاب في تلك المدة، فكان الحاكم مع اشتغاله بمؤلفاتٍ أخرى يشتغل بتأليف "المستدرك"، والتزم أن يحضر في كل ثلاثة أشهر جزءًا ويخرجه للنَّاس، فيسمعونه؛ إذ لو كان قد ألَّف الكتاب قبل ذلك وبَيَّضَهُ، فلماذا يقتصر في إسماع الناس على يوم في كل ثلاثة أشهر؟
فأما إسراعه في الأواخر فلعله فرغ من مصنفاته الأخرى التي كان يشتغل بها مع "المستدرك" فتفرغ لـ"المستدرك".
وفي "فتح المغيث"(ص 13) عند ذكر تساهل الحاكم في "المستدرك":
فيه عدة موضوعات، حمله على تصحيحها إما التعصب لِما رمي به من التشيع، وإما غيره فضلًا عن الضعيف وغيره، بل يقال: إن السبب في ذلك أنه صنَّفه في أواخر عمره، وقد حصلت له غفلة وتغير، وأنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قَدْر الخُمْس الأول منه قليل جدًّا بالنسبة لما فيه؛ فإنه وجد عنده: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم.
أقول: لا أرى الذنب للتشيع؛ فإنه يتساهل في فضائل بقية الصحابة كالشيخين وغيرهما، وفي المطبوع ج 3 (ص 156): (حدثنا الحاكم
…
إملاء غرة ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة).
وعادته كما تقدم أن يملي في المجلس جزءًا في بضع وثلاثين صفحة من المطبوع، فقد أملى إلى نحو صفحة 190 من المجلد الثالث المطبوع، وذلك أكثر من نصف
الكتاب، فأما الموضع الذي في ج 4 (ص 349) فإنما فيه "أخبرنا
…
" وليس فيه لفظ "إملاء" ولا ذكر التاريخ.
والذي يظهر لي فيما وقع في "المستدرك" من الخلل أن له عدة أسباب:
الأول: حرص الحاكم على الإكثار، وقد قال في خطبة "المستدرك":
(قد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة، يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على أَلْف جزء أو أقل أو أكثر كلها سقيمة غير صحيحة).
فكان له هوى في الإكثار للرد على هؤلاء.
والثاني: أنه قد يقع له الحديث بسندٍ عالٍ أو يكون غريبًا مما يتنافس فيه المحدثون فيحرص على إثباته، وفي "تذكرة الحفاظ" ج 2 (ص 270): قال الحافظ أبو عبد الله الأخرم: استعان بي السَّرَّاج في تخريجه على "صحيح مسلم" فكنت أتحير من كثرة حديثه وحسن أصوله، وكان إذا وجد الخبر عاليًا يقول: لابد أن نكتبه -يعني في المستخرج- فأقول: ليس من شرط صاحبنا -يعني مسلمًا- فشفعني فيه.
فعرض للحاكم نحو هذا؛ كما وجد عنده حديثًا يفرح بعلوه أو غرابته اشتهى أن يثبته في "المستدرك".
الثالث: أنه لأجل السببين الأولين، ولكي يخفف عن نفسه من التعب في البحث والنظر لم يلتزم أن لا يخرج ما له علة وأشار إلى ذلك، قال في الخطبة:
"سألني جماعة
…
أن أجمع كتابًا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد ابن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها؛ إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له؛ فإنهما رحمهما الله لم يَدَّعِيَا ذلك لأنفسهما".
ولم يُصِبْ في هذا؛ فإن الشيخين ملتزمان أن لا يخرجا إلا ما غلب على ظنهما بعد النظر والبحث والتدبر أنه ليس له علة قادحة.
وظاهر كلامه أنه لم يلتفت إلى العلل البتة، وأنه يخرج ما كان رجاله مثل رجالهما وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس له علة قادحة.
الرابع: أنه لأجل السببين الأولين توسَّع في معنى قوله: "بأسانيد يحتج
…
بمثلها"، فبنى على أن في رجال "الصحيحين" من فيه كلام، فأخرج عن جماعةٍ يَعلم أن فيهم كلامًا.
ومحل التوسع أن الشيخين إنما يخرجان لمن فيه كلام في مواضع معروفة.
أحدها: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام لا يضر في روايته البتة، كما أخرج البخاري لعكرمة.
الثاني: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضى أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقرونًا، أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك.
ثالثها: أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه أو بما يُسمع منه من غير كتابه، أو بما سمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنةً وهو مدلس ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس، فيخرجان للرجل حيث يصلح، ولا يخرجان له حيث لا يصلح.
وقَصَّرَ الحاكم في مراعاة هذا، وزاد فأخرج في مواضع لمن لم يخرجا ولا أحدهما له بناء على أنه نظير من قد أخرجا له، فلو قيل له: كيف أخرجت لهذا وهو متكلم فيه؟
لعله يجيب بأنهما قد أخرجا لفلان وفيه كلام قريب من الكلام في هذا، ولو وفَّى بهذا لهان الخطب، لكنه لم يَفِ به بل أخرج لجماعة هلكى.
الخامس: أنه شرع في تأليف "المستدرك" بعد أن بلغ عمره اثنتن وسبعين سنة، وقد ضعفت ذاكرته كما تقدم عنه، وكان فيما يظهر تحت يده كتب أخرى يصنفها مع "المستدرك"، وقد استشعر قرب أجله فهو حريص على إتمام "المستدرك" وتلك المصنفات قبل موته، فقد يتوهم في الرجل يقع في السند أنهما أخرجا له، أو أنه فلان الذي أخرجا له، والواقع أنه رجل آخر، أو أنه لم يجرح أو نحو ذلك.
وقد رأيت له في "المستدرك" عدة أوهام من هذا القبيل يجزم بها، فيقول في الرجل: قد أخرج له مسلم -مثلًا- مع أن مسلمًا إنما أخرج لرجل آخر شبيه اسمُه باسمِه، ويقول في الرجل: فلان الواقع في السند هو فلان ابن فلان، والصواب أنه غيره.
لكنه مع هذا كله لم يقع خلل ما في روايته؛ لأنه إنما كان ينقل من أصوله المضبوطة، وإنما وقع الخلل في أحكامه، فكل حديث في "المستدرك" فقد سمعه الحاكم كما هو، هذا هو القدر الذي تحصل به الثقة، فأما حكمه بأنه على شرط الشيخين، أو أنه صحيح، أو أن فلانًا المذكور فيه صحابي، أو أنه هو فلان ابن فلان، ونحو ذلك، فهذا قد وقع فيه كثير من الخلل.
هذا وذكرهم للحاكم بالتساهل إنما يخصونه بـ"المستدرك"، فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحد بشيء مما فيها فيما أعلم، وبهذا يتبين أن التشبث بما وقع له في "المستدرك" وبكلامهم فيه لأجله: إن كان لإيجاب التروي في أحكامه التي في "المستدرك" فهو وجيه، وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه في غير "المستدرك" في الجرح والتعديل ونحوه فلا وجه لذلك، بل حالة في ذلك كحال غيره من الأئمة العارفين، إن وقع له خطأ فنادر كما يقع لغيره، والحكم في ذلك اطِّراح ما قام الدليل على أنه أخطأ فيه، وقبول ما عداه، والله الموفق". اهـ.
* * *