الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الثاني
النظر في مذهبه في الفروع
قال الشيخ المعلمي في ترجمة الخطيب من "التنكيل":
"وإذ قد بان أن عقيدة الخطيب كانت مباينة لعقائد المبتدعة، فلننظر في انتقاله عن مذهب أحمد في الفروع.
الظاهر: أن معنى أنه كان على مذهب أحمد أن والده وأهله كانوا على مذهب أحمد، وأنه هو انتقل إلى مذهب الشافعي في صغره زمان طلبه العلم، فما الباعث له على الانتقال؟
يقول ابن الجوزي: "إن ذلك لِمَيْلِ الحنابلة عليه وإيذائهم له"، فلماذا آذوه؟ يقول ابن الجوزي:"لِمَا رأوا من ميله إلى المبتدعة".
قد تقدم إثبات أن عقيدة الخطيب كانت مباينة لعقائد المبتدعة، وذلك ينفي أن يكون ميلُه إليهم رغبة منه في بدعتهم أو موافقة عليها، فما معنى الميل وما الباعث عليه؟
كان الحنابلة في ذاك العصر يَنفرون بحقٍّ مِنْ كُلِّ مَنْ يقال إنه أشعري أو معتزلي، ويَنفرون عن الحنفية والمالكية والشافعية لشيوع البدعة فيهم، وكان كثير من الحنابلة يبالغون في النفرة ممن نفروا عنه، فلا يكادون يروون عنه إذا كان من أهل الرواية ولا يأخذون عنه غير ذلك من العلوم، وإذا رأوا الطالب الحنبلي يتردد إلى حنفي أو مالكي أو شافعي سخطوا عليه.
وقد ذكر ابن الجوزي نفسه في "المنتظم"(9/ 213)، عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي قال:"وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا".
وتقدم في ترجمة أحمد بن عبد الله أبي نعيم الأصبهاني ما لفظه:
"قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم فليفعل -وكان مهجورًا في ذلك الوقت بسبب المذهب، وكان بين الحنابلة والأشعرية تعصب زائد يؤدي إلى فتنة وقال وقيل وصداع - فقام إلى ذلك الرجل أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد أن يُقتل"، مع أن مجلس أبي نعيم إنما كان لسماع الحديث لا للدعوة إلى الأشعرية.
وقد قال ابن الجوزي في "المنتظم"(8/ 267) في وصف الخطيب:
"كان حريصًا على علم الحديث وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه" وقال قبل ذلك بورقة: "أول ما سمع الحديث في سنة 403 وهو ابن إحدى عشرة سنة
…
وأكَثْرَ مِنَ السماع من البغداديين، ورحل إلى البصرة ثم إلى نيسابور ثم إلى أصبهان، ودخل في طريقه همذان والجبال ثم عاد إلى بغداد، وخرج إلى الشام وسمع بدمشق وصور ووصل إلى مكة
…
وقرأ" صحيح البخاري "على كريمة
…
في خمسة أيام".
أقول: فحرصُه على تحصيل العلم وولوعُه به هو الذي كان يحمله على أن يقصدَ كُلَّ من عُرف بالعلم مَهْما كان مذهبه وعقيدته، وكان الحنابلة إذ ذاك يخافون عليه بحقٍّ أن يقع في البدعة، وإذا كانت نهمته تضطره إلى الانطلاق في مخالفتهم، وغيرتُهم تضطرهم إلى المبالغة في كَفِّه: بَلَغَ الأمرُ إلى الإيذاء، وكان وهو حنبلي لا يرجو من غيرهم أن يعطف عليه ويحميه وينتصر له، فاحتاج أن يتحول إلى مذهب الشافعي ليحميه الشافعيون ولا يعارضوه في الاختلاف إلى مَنْ شاء من أهل العلم مهما كان مذهبه وعقيدته؛ لأن الشافعية لم يكونوا يُضيقون في ذلك، مع أنهم إنما استفادوا الخطيب، فَهُمْ أشدُّ مسامحةً له، وهذا وإن نفعه من جهة الظفر بأنصارٍ أقوياء، يتمكن في حمايتهم من طلب العلم كيف شاء، لكن من شأنه أن يزيد حنق الحنابلة عليه وغيظهم منه، وكانت بغداد مقر الحنابلة وأكثر العامة معهم، والعامة كما لا يخفى إذا اتصل بهم السخط على رجل تسارعوا إلى إيذائه وبالغوا.
قال الكوثري في "التأنيب"(ص 12): "وفي" مرآة الزمان "لسبط ابن الجوزي: وقال ابن طاهر: جاء جماعة من الحنابلة يوم الجمعة إلى حلقة الخطيب بجامع المنصور فناولوا حَدَثًا صبيحَ الوجه دينارًا وقالوا له: قِفْ بإزائه ساعة وناوله هذه الرقعة، فناوله الصبي وإذا فيها -ما ذكره السبط مما لا حاجة إلى ذكره هنا (1)، ثم قال: وكانوا يُعطون السَّقَّاء قطعةً يوم الجمعة فكان يقف من بعيد بإزائه ويميل رأس القربة وبين يديه أجزاء فيبتل الجميع فتتلف الأجزاء، وكانوا يطينون عليه باب داره في الليل فربما احتاج إلى الغسل لصلاة الفجر فتفوته
…
".
أقول: السبط ليس بعمدة كما يأتي، وابن طاهر لم يدرك الخطيب، لكن ما تضمنته القصة من تتبع أولئك العامة للخطيب وإيذائه يوافق في الجملة ما تقدم عن ابن الجوزي، وكذلك يوافق ما في "تذكرة الحفاظ" (3/ 318) عن الحافظ المؤتمن الساجي:"تحامَلَتِ الحنابلة على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه".
وابن الجوزي نفسه يتألم آخر عمره من أصحابه الحنابلة حتى قال في "المنتظم"(10/ 253) بعد أن ذكر تسليم المدرسة إليه وحضور الأكابر وإلقاءه الدرس: "وكان يومًا مشهودًا لم يُرَ مثلُه، ودخل على قلوبِ أهلِ المذهبِ غَمٌّ عظيمٌّ".
وزاد سِبْطُهُ في "المرآة" عنه: "لأنهم حسدوني" قال السبط: "وكان جدي يقول: والله لولا أحمد والوزير ابن هبيرة لانتقلت عن المذهب؛ فاني لو كنت حنفيًّا أو شافعيًّا لحملني القوم على رءوسهم".
وليس السبط بعمدة، لكن عبارة "المنتظم" تشعر بصحة الزيادة.
هذا حالُ ابنِ الجوزي في آخر عمره، فأما الخطيب فإنه كان انتقاله في حداثته ليتمكن من طلب العلم، لا لِيُحملَ على الرءوس". اهـ.
(1) انظر إلى عِفَّةِ الشيخ المعلمي وحيائه من ذكر ما يبغض سماعه أهل الصيانة والتقى، رحمة الله عليه.