الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - الاعتراض عليه في ذهابه إلى أن انفراد الثقات أو اختلافهم لا يضر:
• عند حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَلقى البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه وطفا، فلا تأكلوه".
قال ابن القيم في حاشيته على "سنن أبي داود"(5/ 324):
"قال عبد الحق: هذا الحديث إنما يرويه الثقات من قول جابر، وإنما أُسند من وجه ضعيف من حديث يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر. ومن حديث عبد العزيز بن عبد الله بن حمزة بن صهيب، وهو ضعيف لم يرو عنه إلا إسماعيل بن عياش.
وقال ابن القطان: يحيى بن سليم وثقه ابن معين، وتكلم فيه غيره من أجل حفظه، والناس رووه موقوفا غير يحيى.
وذكر أبو داود هذا الحديث، وقال: رواه الثوري، وحماد عن أبي الزبير، وقفاه على جابر. وقد أُسند من وجهٍ ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر.
قال ابن القطان: فإن كان عبد الحق ضَعَّفَ المرفوعَ لكونه من رواية أبي الزبير، فقد تناقض؛ لتصحيحه الموقوف، وهو عنه، وإن عنى به ضعف يحيى بن سليم، ناقض أيضًا، فكم من حديث صححه من روايته، ولم يخالف يحيى بن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلا مَنْ هو دونه؛ وهو إسماعيل بن عياش.
وأما إسماعيل بن أمية فلا يسأل عن مثله.
وهذا تعنت من ابن القطان، والحديث إنما ضُعِّفَ؛ لأن الناس رووه موقوفًا على جابر، وانفرد برفعه يحيى بن سليم، وهو مع سوء حفظه قد خالف الثقات وانفرد عنهم. ومثل هذا لا يَحتج به أهل الحديث، فهذا هو الذي أراده أبو داود وغيره من تضعيف الحديث.
وأما تصحيحه حديث يحيى بن سليم هذا، فلا إنكار عليه فيه؛ فهذه طريقة أئمة الحديث، العالِمِين بعلله؛ يصححون حديثَ الرجل، ثم يضعفونه بعينه في حديث آخر إذا انفرد أو خالف الثقات.
ومن تأمل هذا وتتبعه رأى منه الكثير؛ فإنهم يصححون حديثه لمتابعة غيره له، أو لأنه معروف الرواية صحيح الحديث عن شيخ بعينه ضعيفها في غيره، وفي مثل هذا يعرض الغلط لطائفتين من الناس:
طائفة: تجد الرجل قد خرج حديثه في الصحيح، وقد احتج به فيه، فحيث وجدوه في حديثٍ، قالوا: هذا على شرط الصحيح، وأصحابُ الصحيح يكونون قد انتقوا حديثه، ورووا له ما تابعه فيه الثقات، ولم يكن معلولا، ويتركون من حديثه المعلولَ، وما شذ فيه وانفرد به عن الناس وخالف فيه الثقات، أو رواه عن غير معروف بالرواية عنه، ولا سيما إذا لم يجدوا حديثه عند أصحابه المختصين به، فإن لهم في هذا نظرًا واعتبارًا اختصوا به عمن لم يشاركهم فيه، فلا يلزم حيث وُجد حديثُ مثل هذا أن يكون صحيحًا، ولهذا كثيرا ما يعلل البخاري ونظراؤه حديثَ الثقة بأنه لا يتابع عليه.
والطائفة الثانية: يرون الرجل قد تُكلم فيه بسبب حديثٍ رواه، وضُعف من أجله، فيجعلون هذا سببًا لتضعيف حديثه أين وجدوه، فيضعفون من حديثه ما يجزم أهل المعرفة بالحديث بصحته.
وهذا باب قد اشتبه كثيرا على غير النقاد.
والصواب ما اعتمده أئمة الحديث ونقاده من تنقية حديث الرجل وتصحيحه والاحتجاج به في موضع، وتضعيفه وترك حديثه في موضع آخر، وهذا فيما إذا تعددت شيوخ الرجل ظاهر، كإسماعيل بن عياش في غير الشاميين، وسفيان بن حسين في الزهري، ونظائرهما متعددة.
وإنما النقد الخفي إذا كان شيخه واحدا؛ كحديث العلاء بن عبد الرحمن مثلًا عن أبيه عن أبي هريرة، فإن مسلمًا يصحح هذا الإسناد ويحتج بالعلاء، وأعرض عن حديثه في الصيام بعد انتصاف شعبان، وهو من روايته على شرطه في الظاهر، ولم هي إخراجه لكلام الناس في هذا الحديث وتفرده وحده به، وهذا أيضًا كثير يعرفه من له عناية بعلم النقد ومعرفة العلل.
وهذا إمام الحديث البخاري يعلل حديث الرجل بأنه لا يتابع عليه، ويحتج به في "صحيحه"، ولا تناقض منه في ذلك". اهـ.
قال أبو أنس:
هذا كلام أهل الصنعة، وأرباب الفن، الذين ذاقوا طعم هذا العلم من ينابيعه الصافية قبل أن تكدره دلاء أهل الكلام والمنطق والأصول، ومن تأثَّر بهم.
• وفي "الميزان"(1368):
"صح ثابت بن عجلان (خ د س ق) شامي، حدث عنه بقية، ومحمد بن حمير.
وثقه ابن معين، وقال أحمد بن حنبل: أنا متوقف فيه. وقال أبو حاتم: صالح.
وذكره ابن عدي، وساق له ثلاثة أحاديث غريبة. وذكره العقيلي في كتاب "الضعفاء". وقال: لا يتابع في حديثه.
فمما أنكر عليه: حديث عتاب بن بشير عنه، عن عطاء، عن أم سلمة، قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ قال:"ما بلغ أن تؤدي زكاته فَزُكِّيَ فليس بكنز".
قال الحافظ عبد الحق: ثابت لا يحتج به.
فناقشه على قوله أبو الحسن بن القطان، وقال: قول العقيلي أيضًا فيه تحامل عليه، وقال: إنما يُمس بهذا من لا يُعرف بالثقة مطلقًا، أما من عرف بها فانفراده لا يضر، إلا أن يكثر ذلك منه.
قلت: أما من عرف بالثقة، فنعم، وأما من وثق، ومثل أحمد الإمام يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث فلا نرقيه إلى رتبة الثقة، فتفرد هذا يعد منكرا، فرجح قول العقيلي وعبد الحق.
وهذا شيخ حمصي ليس بالمكثر، رأى أنسًا وسمع من مجاهد وعطاء وجماعة، ووقع إلى باب الأبواب غافلًا.
قال دحيم: ليس به بأس. وقال النسائي: ثقة. وسئل عنه أحمد بن حنبل مرة: أكان ثقة؟ فسكت". اهـ.
قال أبو أنس:
لكن وافق ابنُ حجر ابنَ القطان على قوله في مقدمة "الفتح"(ص 413) فقال: "هو كما قال، له في البخاري حديث واحد في الذبائح، وآخر في التاريخ". اهـ.
قلت:
هما حديث واحد، رواه محمد بن حمير عنه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بعنز ميتة، فقال:"ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها". قال ابن حجر في ترجمة محمد بن حمير من مقدمة "الفتح"(ص 460): "له أصل من حديث ابن عباس عنده -يعني البخاري- في الطهارة".
والحق مع الذهبي؛ فإذا كان الأئمة يتوقفون في تفردات بعض الحفاظ، أفلا يردون تفرد مثل هذا؟ لكنه مذهب عُرف عن ابن القطان في قبول ما جاء به الثقة مهما كان، وهو مذهب مردود، ولتفصيل الجواب عن هذه القضية موضع آخر. والله الموفق.
• وفي "فتح الباري" لابن حجر (1/ 696):
"باب إثم الإشارة بين يدي المصلي: أورد فيه البخاري حديث بسر بن سعيد أن
زيد بن خالد -أي الجهني الصحابي- أرسله إلى أبي جهيم، أي ابن الحارث بن الصمة الأنصاري الصحابي.
هكذا روى مالك هذا الحديث في "الموطأ"، لم يُختلف عليه فيه أن المرسِل هو زيد، وأن المرسَل إليه هو أبو جهيم.
وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجه وغيرهما.
وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر، فقال: عن بسر بن سعيد، قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله، فذكر هذا الحديث.
قال ابن عبد البر: هكذا رواه ابن عيينة مقلوبا، أخرجه ابن أبي خيثمة عن أَبيه عن ابن عيينة، ثم قال ابن أبي خيثمة: سُئل عنه يحيى بن معين فقال: هو خطأ؟ إنما هو: أرسلني زيد إلى أبي جهيم، كما قال مالك.
وتعقب ذلك ابن القطان فقال: ليس خطأ ابن عيينة فيه بمتعين؛ لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسرا إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر.
قلت: تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا قالوا: أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال فيعتمد، ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ، وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه في حد الصحيح". اهـ.
قال أبو أنس:
ما أبرد هذا الكلام على الصدر، لا سيما حينما يخرج من مثل الحافظ ابن حجر، فهو يبعث روح الطمأنينة في قلوب سالكي هذا الدرب، ويزرع الأمل في عودة ما غاب من الفهم السليم لقواعد هذا الفن وأصوله. والله الهادي إلى الصواب، وإليه المرجع والمآب.