الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: منهج البخاري في غير "الصحيحين
"
يشتمل الكلام في هذا المبحث على منهج البخاري في رجال غير "الصحيح".
أولًا: شيوخه:
(1)
ترجم الشيخ المعلمي في "التنكيل" لأحمد بن عبد اللَّه بن حكيم أبي عبد الرحمن الفرياناني المروزي، رقم (23)، وقد قال هو في تعليقه على "الفوائد المجموعة" (ص 71):"تالف"، ثم قال (ص 354):"البخاري لا يمتنع في غير "الصحيح" عن الرواية عن الضعفاء؛ فقد روى عن أبي نعيم النخعي وهو كذاب، وعن الفرياناني وهو كذاب أيضًا".
كذا جزم المعلمي بكذبه مع أنه مال في "التنكيل" إلى أنه لم يجد ما تحصل به نسبته إلى ذلك، وأنه -مع ضعفه في الرواية- كان صدوقًا في الأصل.
وللفرياناني ترجمة في قسم التراجم من هذا الكتاب رقم (53)، فراجعها.
والذي يُعنينا هنا هو بحث الشيخ المعلمي في "التنكيل" في مقتضى رواية البخاري عن الرجل.
قال رحمه الله: "قال الذهبي في "الميزان": وقد رأيت البخاري يروي عن الفرياناني في كتاب "الضعفاء".
أقول: في باب الإمام ينهض بالركعتين من "جامع الترمذي": قال محمد بن إسماعيل البخاري: ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه شيئًا؛ لأنه لا يدرى صحيح حديثه من سقيمه وكُلُّ من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا.
والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله:"لا أروي عنه" أي بواسطة.
وقوله: "وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا". يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة، وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة، فلأن لا يروي عنه بلا واسطة أولى؛ لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيرًا ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة.
وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يَرو عن أحدٍ إلا وهو يَرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه، وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقًا في الأصل؛ فإن الكذاب لا يمكن أن يُعرف صحيح حديثه.
فإن قيل: قد يُعرف بموافقته الثقات. قلت: قد لا يكون سمع، وإنما سرق من بعض أولئك الثقات.
ولو اعتدَّ البخاري بموافقة الثقات لروى عن ابن أبي ليلى، ولم يقل فيه تلك الكلمة؛ فإن ابن أبي ليلى عند البخاري وغيره صدوق، وقد وافق الثقات في كثير من أحاديثه، ولكنه عند البخاري: كثير الغلط، بحيث لا يؤمن غلطه حتى فيما وافق عليه الثقات.
وقريب منه من عُرف بقبول التلقين؛ فإنه قد يلقَّنُ من أحاديثِ شيوخه ما حدثوا به، ولكنه لم يسمعه منهم.
وهكذا: مَنْ يحدث على التوهم، فإنه قد يسمع من أقرانه عن شيوخه، ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه، فيرويها عنهم.
فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الراوي من [سقيمه](1) لا يحصل بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين:
(1) في "التنكيل": شيوخه، كذا، وهو وهم.
- إما أن يكون الراوي ثقةً ثبتًا، فيُعرف صحيح حديثه بتحديثه.
- وإما أن يكون صدوقًا يغلط، ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى؛ كأن يكون له أصول جيِّدة؛ وكأن يكون غلطه خاصًا بجهةٍ؛ كيحيى بن عبد اللَّه بن بكير روى عنه البخاري، وقال في "التاريخ الصغير":"ما روى يحيى بن عبد اللَّه بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني أتقيه"(1)، ونحو ذلك.
فإن قيل: قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح؛ فإنه إن كان يروي ما لا يرى صحته، فأيُّ فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه؟! لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في كتب البخاري غير "الصحيح" أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يَحكم هو نفسه بعدم صحتها؟!
قلت: أما ما نبَّه على عدم صحته فالخطب فيه سهل؛ وذلك بأن يُحمل كونه لا يروي ما لا يصح على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج، فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته ويبقى النظر فيما عدا ذلك.
وقد يقال: إنه إذا رأى أن الراوي لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه تركه البتة؛ ليعرف الناس ضعفه مطلقًا، وإذا رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في: يحيى بن بكير.
وأما غير ذلك فإنه يروي ما عرف صحته وما قاربه أو أشبهه مبينًا الواقع بالقول والحال. والله أعلم.
(1) عن تهذيب ابن حجر (11/ 238)، ومقدمة "الفتح" له (ص 475)، وقال هناك: "فهذا يدلك على أنه ينتقي حديث شيوخه، ولهذا ما أخرج عنه عن مالك سوى خمسة أحاديث مشهورة متابعة، ومعظم ما أخرج عنه عن الليث
…
". وسبق التعرض لروايته في الصحيح.
(2)
وترجم المعلمي في "التنكيل" أيضًا لضرار بن صرد رقم (112)، وقد روى عنه البخاري في غير "الصحيح" قال: أما ضرار فروى عنه أبو زرعة أيضًا، وقال البخاري والنسائي:"متروك الحديث".
لكن البخاري روى عنه، وهُو لا يروي إلا عن ثقة كما صرح به الشيخ تقي الدين بن تيمية، ومَرَّ النظر في ذلك في ترجمة أحمد بن عبد الله أبي عبد الرحمن الفرياناني.
والظاهر: التوسلى وهو أن البخاري لا يروي إلا عمن هو صدوق في الأصل يتميز صحيح حديثه من سقيمه كما صرح به في رواية الترمذي عنه.
فقوله في ضرار: "متروك الحديث" محمول على أنه كثير الخطأ والوهم، ولا ينافي ذلك أن يكون صدوقًا في الأصل يمكن لمثل البخاري تمييز بعض حديثه. اهـ.
وانظر ترجمة ضرار من القسم الأول؛ فإنها أتم مما هنا، واكتفيت هنا بموضع الحاجة منها، والله الموفق.
(3)
وترجم الشيخ لإسماعيل بن عرعرة بن البرند رقم (51)، وقد روى عنه البخاري في "التاريخ الصغير" قال: سمعت إسماعيل بن عرعرة يقول: قال أبو حنيفة
…
فقال الكوثري: "بين إسماعيل وبين أبي حنيفة انقطاع، وإسماعيل هذا مجهول الصفة، لم يذكره أحد من أصحاب التواريخ التي اطلعنا عليها، حتى البخاري
…
نعم له ذكر في كتاب "السنة" لعبد اللَّه بن أحمد في (ص 27، 154) بما يدل أنه بصري، معاصر لعباس بن عبد العظيم العنبري، وليس في هذا أدنى غَناء بعد أن عُلم أنه لم يرو أحد من أصحاب الأصول الستة عن ابن عرعرة هذا".