الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الخامس: هل عدم إخراج الشيخين للرجل في الأصول يقتضي أنه لا يحتج به عندهما
؟
سبق في المطلب الثالث عند شرح العلامة المعلمي لأسباب الخلل والتساهل الواقعَيْن في "مستدرك" الحاكم، أن الحاكم توسَّع في الإخراج عن جماعة من الرواة المتكلم فيهم مقارنةً ومشابهةً بمن أُخرج لهم في "الصحيحن" ممن تُكلم فيهم كذلك.
وبيَّن الشيخُ المواضعَ التي إنما يخرج فيها صاحبا "الصحيح" لمن فيه كلام، فذكر ثلاثة مواضع:
الثاني منها:
أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يُحتج به مقرونًا، أو حيث تابعه غيره، ونحو ذلك. اهـ.
وكذلك سبق في المثالين الأول والثاني من تطبيقاته على منهج البخاري وشرطه في رجال "صحيحه" أنه نصَّ على انتفاء وصف الرجل بأنه على شرط "الصحيح" بإطلاق، محتجًّا بأن البخاري -ومسلمًا- إنما أخرجا له متابعة، أو أن الحديث ثبت عندهما من طريق غيره، وذلك عند الكلام على كُلٍّ من: محمد بن حِمْيَر الحمصي - وراجع تعليقي هناك وقولِ الحافظ ابن حجر: إنه إنما أُخرج له في "الصحيح" في المتابعات لا في الأصول، وكذا عند الكلام على بكر بن عمرو المصري.
وذكر الشيخ في حاشيته على "الفوائد المجموعة"(ص 351) أن الطبقة الثانية من طبقات المدلسين - على تقسيم ابن حجر، وهي طبقة من احتمل الأئمة تدليسه
وأخرجوا له في "الصحيح"- لا تُقبل عنعنتهم مطلقًا كمن ليس بمدلس البتة، وإنما المعنى أن الشيخين انتقيا في المتابعات ونحوها من معنعناتهم ما غلب على ظنهما أنه سماع، أو أن الساقط منه ثقة، أو كان ثابتًا من طريق أخرى، ونحو ذلك، كشأنهما فيمن أخرجا له ممن فيه ضعف. اهـ.
قال أبو أنس:
قد استفاض هذا المعنى في كلام العلامة المعلمي، وقد سبقه إليه غير واحد من المحققين، وقد اعتمد الحافظ ابن حجر في جوابه عن كثير من الرواة المتكلم فيهم داخل "الصحيح" على أنهم ما احتج بهم البخاري في الأصول، وإنما أخرج لهم في المتابعات والشواهد، وذلك في الفصل التاسع من مقدمة "الفتح" (ص 403) بل وكتب عنوانه:"الفصل التاسع: في سياق أسماء من طُعن فيه من رجال هذا الكتاب مرتبًا على حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعًا موضعًا، وتمييز من أَخرج له منهم في الأصول أو في المتابعات والاستشهادات مفصلا لجميع ذلك".
لكن قد مال الشيخ المعلمي في دفاعه عن حماد بن سلمة من "التنكيل" رقم (85) إلى خلاف ما قرره في غير موضع من منهج البخاري في تفريقه بين من يخرج له في الأصول محتجًّا به، ومن يخرج له على غير ذلك.
فقال هناك: "استشهد به البخاري في مواضع من "الصحيح" (1)، فأما عدم
(1) قال الذهبي في "السير"(7/ 446): "تحايد البخاري إخراج حديثه، إلا حديثًا خرجه في الرقاق، فقال: قال لي أبو الوليد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أُبَيّ".
وقال ابن حجر في مقدمة "الفتح"(ص 419): "استشهد به البخاري تعليقًا ولم يخرج له احتجاجًا ولا مقرونًا ولا متابعة إلا في موضع واحد قال فيه: قال لنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة فذكره، وهو في كتاب الرقاق، وهذه يستعملها البخاري في الأحاديث الموقوفة، وفي المرفوعة أيضًا إذا كان في إسنادهما من لا يحتج به عنده".
إخراجه له في الأصول فلا يوجب أن يكون عنده غيرَ أهلٍ لذلك، ولذلك نظائر؛ هذا سليمان بن المغيرة الذي تقدم أنه من أثبت الناس في ثابت، وأنه أثبت فيه من حماد بن زيد، وقد ثَبَّتَه الأئمة جدًّا، قال أحمد:"ثبت ثبت"، وقال ابن معين:"ثقة ثقة" والثناء عليه كثير، ولم يغمزه أحد، ومع ذلك ذكروا أن البخاري لم يحتج به ولم يخرج له إلا حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره
…
" (1).
قال أبو أنس:
هذا قياسٌ مع الفارق؛ فأين مَنْ ثَبَّتَهُ الأئمة ووثقوه لإطلاق، ولم يغمزه أحد منهم بشيء، بمن ذكروه بسوء الحفظ وكثرة الخطأ، ولم يثبتوه إلا في روايته عن ثابت وحميد، ومع ذلك فقد خطئوه في عدة مواضع من روايته عنهما كما يُعلم بالنظر في كتب العلل.
والمقصود أن عدم إخراج البخاري لسليمان بن المغيرة في الأصول أو عدم احتجاجه به لا يمكن أن يكون لسبب يتعلق بعدالة سليمان أو ضبطه؛ للإجماع على ثقته وإتقانه، وإنما هو لأسباب خارجة عن ذلك؛ كأن يكون استغنى برواية غيره فيما احتاج إلى إيراده من الأحاديث لأغراضٍ ربما تتعلق بالإسناد أو المتن.
أما حماد بن سلمة، فالدلائلُ على خِفَّةِ ضبطه، والأوهامِ التي استفاضَ عن النقادِ وقوعُه فيها، جديرٌ ذلك بأن يكون هو سبب إعراضِ البخاري عن الاحتجاج به.
فالدفاع عن حماد بحمل صنيع البخاري معه على أنه لم يقصد الإعراض عن الاحتجاج به -استدلالا بصنيعه مع سليمان بن المغيرة- فيه نظر كبير، واللَّه تعالى أعلم.
* * *
(1) في تهذيب ابن حجر (4/ 221): "قال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف في مسند أنس: ليس لسليمان بن المغيرة عند البخاري غير هذا الحديث الواحد وقرنه بغيره".