الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الثاني
منهج ابن حبان في شرائط إيراده للرواة في كتاب "الثقات
"
• قال الشيخ المعلمي: في ترجمة ابن حبان من "التنكيل"(1/ 436):
"بَيَّن ابنُ حبان اصطلاحه وهو أنه يذكر في "الثقات" كُلَّ مَنْ روى عنه ثقة ولم يرو منكرًا، وأن المسلمين على العدالة حتى يثبت الجرح، وقد ذهب غيره من الأكابر إلى قريبٍ من هذا كما قدمته في "قسم القواعد" في القاعدة السادسة.
نعم، إنه ربما يظهر أنه يذكر الرجل ولم يعلم ما روى، ولا عمَّن روى، ولا من روى عنه. وعذره في هذا أنه بنى على رأيه أن المسلمن على العدالة، واستأنس بصنيع بعض من تقدمه من الأئمة (1) مِنْ ذكر ذلك الرجل بدون إشارة إلى ضعفٍ فيه
…
ومع ذلك يُبين ابن حبان بعدم ذكر شيخ الرجل ولا راوٍ عنه أنه لم يعرفه". اهـ.
• وقال في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد من "التنكيل"(1/ 66):
"ينبغي أن يُبحث عن معرفة الجارح أو المعدِّل بمن جرحه أو عدله، فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلسًا واحدًا، أو حديثًا واحدًا، وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه، وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه ومنهم من يجاوز ذلك.
(1) لاسيما البخاري في "التاريخ الكبير" كما سيأتي.
فابن حبان قد يذكر في "الثقات" من يجد البخاري سمَّاه في "تاريخه" من القدماء، وإن لم يعرف ما روى، وعمَّن روى، ومن روى عنه
…
والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد.
وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا روايةَ أحدهم مستقيمة؛ بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد (1)، وإن لم يَرْوِ (2) عنه إلا واحد، ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد
…
وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نَصَّ على ذلك في "الثقات"، وذكره ابن حجر في "لسان الميزان"(1/ 14) واستغربه، ولو تدبَّر لوجد كثيرًا من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبع أحدهم أحاديثَ الراوي فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط ولم يبلغه ما يوجب طعنًا في دينه وثَّقَهُ، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف". اهـ.
قال أبو أنس:
قد أفصح ابن حبان عن شرطه في كتاب "الثقات"، فقال في مقدمة الكتاب:
"كل من أذكره في هذا الكتاب فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرَّى عن خصالٍ خمسٍ، فإذا وُجد خبرٌ منكرٌ عن شيخٍ من هؤلاء الشيوخ الذين ذكرتُ أسماءهم فيه كان ذلك الخبر لا ينفك عن إحدى خصالٍ خمسٍ:
إما: أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرته في هذا الكتاب شيخ ضعيف سوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله نَزَّه أقدارهم عن إلزاق الضعف بهم.
(1) في "التنكيل": "مشاهد" وهو خطأ.
(2)
في "التنكيل": "يروا" كذلك.
أو: دونه شيخ واهٍ لا يجوز الاحتجاج بخبره.
أو: الخبر يكون مرسلًا لا يلزمنا به الحجة.
أو: يكون منقطعًا لا تقوم بمثله الحجة.
أو: يكون في الإسناد شيخ مدلس لم يبين سماع خبره عمن سمع منه
…
فإذا وُجد الخبرُ متعرّيًا عن هذه الخصال الخمس، فإنه لا يجوز التنكب عن الاحتجاج به؛ لأن العدل من لم يُعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرح فهو عدل إذا لم يتبين ضده؛ إذ لم يُكَلَّف الناسُ من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كُلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم". اهـ.
ويقول ابن حبان في موضع آخر:
"الناس في أقوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين ما يوجب القدح هذا حكم المشاهير من الرواة، فأما المجاهيل الذين لم يَرو عنهم إلا الضعفاءُ، فهم متروكون على الأحوال كلها". اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر كما في كتاب "فتح المغيث" للسخاوي (1/ 37) عنه:
"إذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل، وكان كلٌ من شيخه والراوي عنه ثقة، ولم يأت بحديث منكر، فهو عنده -أي ابن حبان- ثقة، وفي كتاب "الثقات" له كثير ممن هذه حاله". اهـ.
قال أبو أنس:
الناظر في كلام ابن حبان السابق، تتبين له ملامحُ منهجه في التصحيح والتوثيق.
• أما في التصحيح فإنه اختزل شرطين من الشرائط المعروفة عند أهل النقد في الحكم على الحديث بالصحة، هما:
الأول: انتفاء الشذوذ.
الثاني: انتفاء العلة (1).
وستأتي إشارة الشيخ المعلمي إلى عدم تَقَيُّد ابن حبان بشرائط المنكر عند أهل العلم، والتي بيَّنها الإمام مسلم في مقدمة "صحيحه".
• وأما في التوثيق ففيه ملاحظتان:
الأولى: أنه لم يشترط في العدالة ما يرفع جهالة حال الرجل، بل اكتفى برفع جهالة عينه برواية ثقة عنه، وربما كان ذاك الراوي عنه ممن أجرى عليه ابن حبان تلك الشرائط فلا يمتنع أن يكون مجهول الحال أيضًا (2)، وهكذا.
وقد علَّق الحافظ ابن حجر على مذهب ابن حبان هذا بقوله في مقدمة كتاب "لسان الميزان"(1/ 93):
"وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان -من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه- مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب "الثقات" الذي ألَّفَهُ؛ فإنه يذكر خَلْقًا ممن يَنُصُّ عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون، وكأنَّ عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره". اهـ.
الثانية: أنه لم يشترط في العدالة أيضا ما يثبت به ضبط الراوي (3).
(1) ثم رأيت الحافظ ابن حجر يشير إلى عدم اشتراط ابن حبان لهذين الشرطين، وذلك في كتابه:"النكت على كتاب ابن الصلاح"(1/ 290).
(2)
بل أكثر من هذا، وانتظر.
(3)
قد أشار إلى ذلك أيضًا الحافظ ابن حجر في "النكت على كتاب ابن الصلاح"(1/ 290).
وبعد، فقد أبانَ ابنُ حبان عن منهجه، وأفصح عن طريقته، وتبين من صريح كلامه، وأكَّده الحافظ ابن حجر، أن في كتاب "الثقات" جملةً وافرةً مِمَّن ذكرهم ابن حبان على البراءة الأصلية في تعديل المسلمين، خلافًا لجمهور أهل العلم الذين اعتبروا هذا الضرب من الرواة في حَيِّز الجهالة.
وقد سبقت بعض النكات المتعلقة بحدود "الجهالة" في ترجمة أبي حاتم الرازي من هذا الكتاب.
والمقصود هنا أن ابن حبان قد وضع شروطًا لتوثيق الرواة تَقْصُرُ عن الشروط المعتبرة عند أئمة الحديث.
أقول:
مع ما سبق من صريح كلام ابن حبان فقد أفاد بعض الباحثين أن ابن حبان لا ينبغي أن يُنسبَ له توثيقُ أحدٍ ممن ذكرهم في "الثقات" إلا إذا ضمَّن ترجمته تعديلا صريحا؛ كان يصفه بالثقة أو التثبت أو الإتقان أو اليقظة، ونحو ذلك، أما غير هذا فإنه لم يقصد توثيقه، إنما أراد فهرسة ما وقف عليه من رواة الأسانيد، وهذا بلا شك أَعَذْرُ لابن حبان، وأرفعُ للإشكال؛ وهو أمرٌ مرغوبٌ فيه، إلا أنه لا يُساعد عليه صريحُ كلامِ ابن حبان.
وعلى كل حالٍ، فالمحصلة بالنسبة إلينا واحدة، وقد سبقت مراتب الاعتماد على ابن حبان في توثيق الرواة، والله تعالى الموفق.
وقد أجاد الشيخ العلامة المعلمي في تعليقاته النفيسة على كتاب "الفوائد المجموعة" للشوكاني، إذ وضع الأمور في نصابها، وأعطى كتاب "الثقات" حَقَّهُ وأنزله منزلته.
(1)
ففي "الفوائد"(ص 294) حديث: "من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة لم تقبل له صلاة تلك الليلة".
قال الشوكاني: قيل هو موضوع، وقد تفرد به عاصم بن مخلد، وهو مجهول. وقال في "اللآلىء": هو في "مسند" أحمد من هذه الطريق.
قال ابن حجر في "القول المسدد": ليس في شيء مما ذكره أبو الفرج ابن الجوزي ما يقتضي الوضع. وعاصم ليس مجهولا، بل ذكره ابن حبان في "الثقات"
…
فعلَّق الشيخ المعلمي بقوله:
"قاعدة ابن حبان أن يذكر في "ثقاته" المجهول إذا لم يعلم في روايته ما يستنكره، وهذا معروف مشهور، فَذِكْرُهُ الرجل في "ثقاته" لا يمنع كونه مجهولا". اهـ.
(2)
وقال الشيخ في تعليقه على "الفوائد"(ص 492):
"موسى هذا -يعني: ابن جبير- ذكره ابن حجر في "التقريب" وقال: مستور. وذكره ابن حبان في "ثقاته"، لكنه قال: يخطىء ويخالف.
وذِكْرُ ابن حبان للرجل في "ثقاته" وإخراجُه له في "صحيحه" لا يخرجه عن جهالة الحال، فأما إذا زاد ابن حبان فغمزه بنحو قوله هنا: يخطىء ويخالف، فقد خرج عن أن يكون مجهول الحال إلى دائرة الضعف". اهـ.
(3)
وقال في تعليقه على "الفوائد"(ص 70):
"محمد بن ثابت بن سباع ذكره ابن حبان في "الثقات" وذلك لا يكفي في معرفة حاله".
(4)
وقال في تعليقه على "الفوائد"(ص 240) في أبي المبارك الذي روى عنه يزيد بن سنان الرهاوي: "مجهول، وذِكْرُ ابن حبان له في "الثقات" لا يُخرجه عن ذلك".
(5)
وقال فيه (ص 299):
"عمر بن إبراهيم بن محمد بن الأسود، له ترجمة في "الميزان" و"اللسان" وهو مجهول، ذكره ابن حبان في "الثقات" على عادته في ذكر المجاهيل
…
".
قال أبو أنس:
هذا من حيث بيان الخلل الواقع في منهج ابن حبان في باب توثيق الرواة.
ولكن هل وَفَّى ابنُ حبان بتلك الشروط التي وضعها للتوثيق؟
قد عقد السيوطي في "تدريب الراوي"(1/ 108) مقارنةً بين ابن حبان والحاكم في شرائط التوثيق والتصحيح، ثم قال:
"فالحاصل أن ابنَ حبان وَفَّى بالتزام شروطه، ولم يُوَفِّ الحاكم". اهـ.
أقول:
أما الحاكم فسيأتي الكلام عنه في موضعه، وأما ابن حبان، فَزَعْمُ أنه وَفَّى بالتزام شروطه -على ما فيها- زَعْمٌ ينقصه التدقيق والتحرير، ويتبين ذلك مما يلي:
(1)
في "الفوائد"(ص 414 - 415) حديث: "دعوني من السودان، إنما الأسود لبطنه وفرجه".
…
وقد رواه العقيلي، عن أم أيمن مرفوعًا، وفي إسناده خالد بن محمد بن خالد ابن الزبير. قال أبو حاتم: هو مجهول.
وقال في "اللسان": ذكره ابن حبان في "الثقات".
فعلَّق الشيخ المعلمي بقوله:
"هذا لا ينفي الجهالة، فإنه من قاعدة ابن حبان أن يذكر المجهولين في "ثقاته" بشرطٍ قرَّرَه، ومع ذلك لا يفي به؛ فإن من شرطه أن لا يروي الرجلُ منكرًا، وهذا قد روى هذا المنكر، بل قال البخاري: منكر الحديث". اهـ.
(2)
وفي "الفوائد"(ص 474) حديث: "مِنْ سعادة المرء خِفَّةُ لحيته".
رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعًا، وفي إسناده: المغيرة بن سويد وهو مجهول.
ورواه ابن عدي
…
قال السيوطي في "اللآلىء": المغيرة ذكره ابن حبان في "الثقات".
فقال الشيخ المعلمي:
"قاعدة ابن حبان ذِكْرُ المجهولين في "ثقاته" بشروطٍ ذكرها، ومع ذلك يخل بالوفاء بها". اهـ.
(3)
وفي "الفوائد"(ص 273): بشر بن عبيد
…
كذَّبه الأزدي، وقال في "اللسان": ذكره ابن حبان في "الثقات".
فقال الشيخ المعلمي:
"لا ينفعه ذلك، فقد قال ابن عدي: منكر الحديث عن الأئمة، بَيِّن الضعف جدًّا". اهـ.
وقال الشيخ في "الفوائد"(ص 61) معلقًا على ترجمة بشر هذا: "بشر هالك
…
وابن حبان معروف بالتسامح في كتابه "الثقات".
(4)
وفي "الفوائد"(ص 343) قولُ عليٍّ: "أنا عبد الله وأخو رسول الله، أنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب، صليت قبل الناس بسبع سنين".
رواه النسائي في "الخصائص"، وفي إسناده: عباد بن عبد الله الأسدي، وهو المتهم بوضعه.
وقال ابن المديني: ضعيف الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
فقال الشيخ المعلمي:
"لا يفيد ذلك شيئًا مع كلام كبار الأئمة فيه وظُهور سُقوطِه". اهـ.
قال أبو أنس:
•• ومن أمثلة من ذكرهم ابن حبان في "الثقات" وهم من الهَلْكى والمتروكين:
(1)
عمرو بن مالك الراسبي.
وقال: يخطىء ويغرب. وانظر: "تهذيب الكمال"(22/ 257)، و"ميزان الاعتدال"(6435).
(2)
إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني الدمشقي.
وقد أخرج له في "صحيحه"، وهو كذاب، وانظر:"الميزان"(244).
(3)
عبد الله بن خراش.
وقال: ربما أخطأ، وقد كُذِّب. انظر:"تهذيب الكمال"(14/ 453).
(4)
الحسن بن عبد الأول.
وهو كذاب. انظر: "الميزان"(2016)، و"اللسان"(2775).
•• ومن أمثلة ما خالف فيه ابن حبان شرطه فيمن يورده في كتابه أن يكون الراوي عنه وشيخه ثقات:
(1)
خالد بن زيد الجهني:
ذكره ابن حبان في "الثقات"(4/ 197) بروايته عن أبيه وعنه: عبد الله بن محمد ابن عقيل، وعبد الله مجروح عند ابن حبان نفسه، كما في "المجروحين"(2/ 3).
(2)
محمد بن عقبة بن أبي مالك القرشي:
ذكره ابن حبان في "الثقات"(5/ 359) وذكر أنه روى عنه زكريا بن منظور، وهو عنه منكر الحديث جدًّا كما في "المجروحين"(1/ 314)، ومحمد بن رفاعة وهو ابن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، ذكره ابن حبان وحده في "الثقات" على قاعدته، وقال الأزدي: منكر الحديث.