الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتعلق به هاهنا ثلاثة أمور:
الأول: أن من عادته تتبع أصول شيوخه:
قاله الشيخ المعلمي في "التنكيل"(2/ 117) وقدم بذلك روايةً لابن المبارك، عن يونس، عن الزهري على رواية ابن وهب، عن يونس، قال: "هذا أثبت؛ لأن ابن المبارك أثبت من ابن وهب. وكان يقول: كتاب يونس صحيح، وكان من عادة ابن المبارك تتبع أصول شيوخه، فالظاهر أنه أخذ هذا عن يونس من أصل كتابه
…
" اهـ.
الثاني: هل روايته عن الرجل تقويه
؟
قال الشيخ المعلمي في "التنكيل"(2/ 75):
"أما فليح -يعني: ابن محمد- فغير مشهور، لكن رواية ابن المبارك عنه تقويه".
لكن هذا يعارضه ما يأتي.
الثالث: هل هو ممن لا يشدد في الرواية عن الرجال
؟
قال الشيخ المعلمي في "الفوائد"(ص 213):
"
…
وروى ابن المبارك، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي مَرَّة، ثم تركه، فسئل أن يحدث عنه فقال: تأمرني أن أعود في ذنب قد تبت منه
…
مع أن ابن المبارك ليس ممن يُشَدِّدُ؛ فقد روى عن الكلبي
…
(1) ". اهـ.
(1) وانظر ترجمة إبراهيم من قسم التراجم رقم (29).
قال أبو أنس:
فإذا كان لا يُشدد، فظاهره أنه لا يقتصر في روايته عن مشايخه على الثقات، فروايته عن غير مشهور إذًا لا تقويه.
إلا أنَّ وصفَه بأنَّه ليس مِمَّنْ يشُدِّدُ؛ بناءً على ما ذُكر من روايته عن الكلبي، قد نظرتُ في ذلك فوجدت ما يلي:
كان ابن المبارك يتوسع الرواية عمن يلقى من المشايخ، حتى يكتب عمن هو أصغر منه، لِعَلَّةٍ ذكرها:
ففي كتاب "الجامع" للخطيب (2/ 219): "أخبرني القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، أنا المعافى بن زكريا الجريري، نا أبي، نا الفضل بن محمد بن عقيل، قال: سمعت أبا حاتم الرازي يقول: كان عبد الله بن المبارك يكتب عمن دونه؛ مثل: رشدين بن سعد وغيره. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، كم تكتب؟ قال: فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع إلي". اهـ.
فقد كان يسمعُ ويكتبُ عمَّن يَلْقَى؛ بغيةَ الانتفاع بالمعاني والفوائد والمواعظ، ككثير من الأئمة الذين يتساهلون في مثل ذلك، فإذا جاءت الأحكام والحجة في دين الله شددوا وانتقوا.
يدل على ذلك ما جاء في "السير"(8/ 397):
"قال العباس بن مصعب في "تاريخه" عن إبراهيم بن إسحاق البناني، عن ابن المبارك، قال: حملتُ العلمَ عن أربعةِ آلافِ شيخٍ، فرويتُ عن ألف شيخٍ، ثم قال العباس: فتتبعتهم حتى وقع لي ثمانمائة شيخ له". اهـ.
فلم يرو إلا عن رُبع مَن سَمع وكَتب عنه.
وفي تصونه وانتقائه للمشايخ:
قال المسيب بن واضح كما في "تذكرة الحفاظ"(1/ 277):
"سمعت ابن المبارك، وسئل: عَمَّنْ نأخذ؟ قال: من طلب العلم لله، وكان في إسناده أشدَّ، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة". اهـ.
وفي امتناعه عن إتيان الشيخ لخبرٍ بلغه عنه أنه حدث به:
ما في ترجمة: عبيد الله بن عبد الله أبي المنيب العتكي الهروي من "التاريخ الكبير"(5/ 388): "
…
عنده مناكير، قال أبو قدامة: أراد ابن المبارك أن يأتيه، فأُخبر أنه روى عن عكرمة:"لا يجتمع الخراج والعشر"، فلم يأته".
وفي احتياطه حتى في صيغ الأداء:
نقل في "التذكرة" أيضا أن نعيم بن حماد قال: "ما رأيت ابن المبارك يقول قط: "حدثنا"، كأنه يرى "أخبرنا" واسع". اهـ.
هذا، ولم ينفرد ابن المبارك بالرواية عن الكلبي -فيما ذكروا- بل شاركه جماعة من الحفاظ في ذلك، منهم: شعبة، والثوري، وابن عيينة، ومعمر، وحماد بن سلمة وغيرهم.
وقد ذكر ابن عدي في "الكامل" أن شعبة والثوري إنما حدثا عنه بالشيء اليسير غير المسند، وأما غيرهما -ولم يذكر ابن المبارك- فقد رضوه في التفسير.
وأما في الحديث، فخاصة إذا روى عن أبي صالح، عن ابن عباس، ففيه مناكير
…
اهـ. وذلك أن الكلبي نفسَه قد اعترف بأن هذه النسخة كذب.
أما الثوري، ففي "الجرح والتعديل" (7/ 270):
"نا أحمد بن سليمان الرهاوي -فيما كتب إلي- قال: سمعت زيد بن حباب يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: عجبا لمن يروي عن الكلبي.
نا عبد الرحمن قال: فذكرته لأبي وقلت له: إن الثوري يروي عن الكلبي؟ قال: كان لا يقصد الرواية عنه، ويحكي حكايةً تعجبا، فيعلقه من حضره، ويجعلونه روايةً عنه.
…
وكيع، قال: كان سفيان لا يعجبه هؤلاء الذين يفسرون السورة التي من أولها إلى آخرها، مثل الكلبي". اهـ.
وفي "الكامل": "
…
إبراهيم بن عبد الله بن المنذر، ثنا يعلى بن عبيد، قال: قال الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل: فإنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه". اهـ.
فالظاهر أن هذا هو حالُ سائرِ مَنْ ذكروا روايتَه عنه من الكبار، فقد سمعوا منه أشياء لم يتحققوا كذبه فيها، فذكروها على وجه سوى أوجه الرواية المعروفة.
يدل على ذلك دلالةً بينةً خلوُّ الكتب الأصول، كالسنن والمسانيد والتفسير من رواية هؤلاء عنه، فهذا قاطع في أن الكلبي لم يَرو -أو لم يَسمع هؤلاء منه- ما يُحتاج إليه. والله تعالى أعلم.
والمقصود هنا أن مجرد ذكر الكلبي فيمن روى عنهم ابن المبارك، مع ما سبق من تثبت ابن المبارك واحتياطه وتصونه في هذا الباب، لا يكفي في دعوى أنه لم يكن يشدد. والله الموفق.
* * *