الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدر الدين العيني
(ت 855 هـ)
محاولته تقوية حديث موضوع في فضل أبي حنيفة رحمه الله تعالى:
قال الشيخ المعلمي في ترجمة محمد بن سعيد البورقي من "التنكيل" رقم (206):
في "تاريخ بغداد"(13/ 335) من طريقه: "حدثنا سليمان بن جابر بن سليمان بن ياسر بن جابر حدثنا بشر بن يحيى قال: أخبرنا الفضل بن موسى السيناني، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في أمتي رجلا اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي".
قال الخطيب: "قلت: وهو حديث موضوع، تفرد بروايته البورقي، وقد شرحنا فيما تقدم أمرَه وبَيَّنَا حالَه".
يعني في ترجمته، وهي في "التاريخ" (5/ 308 - 309) وفيها عن حمزة السهمي:"محمد بن سعيد البورقي كذاب، حدث بغير حديث وضعه"، وعن الحاكم:"هذا البورقي قد وضع من المناكير على الثقات ما لا يُحصى، وأفحشها روايته: "سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي". هكذا حدث به في بلاد خراسان، ثم حدث به بالعراق بإسناده وزاد فيه أنه قال: "وسيكون في أمتي رجل يقال له: محمد ابن إدريس، فتنته على أمتي أضر من إبليس"، وذكر الخطيب غير هذا من مناكيره".
قال الأستاذ -يعني الكوثري- (ص 30): "استوفى طرقَه البدرُ العيني في "تاريخه الكبير"، واستصعبَ الحكمَ عليه بالوضع مع وروده بتلك الطرق الكثيرة، وقد قال: "
…
فهذا الحديث كما ترى قد روي بطرقٍ مختلفةٍ ومتونٍ متباينةٍ، ورواةٍ متعددةٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على أنه له أصلا، وإن كان بعضُ المحدثين بل أكثرهم ينكرونه وبعضهم يَدَّعون أنه موضوع، وربما كان هذا من أثر التعصب، ورواةُ الحديثِ أكثرُهم علماء، وهم من خير الأمم، فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام متعمدًا".
ذَيَّلَ عليه الكوثري بقوله: "وعالمٌ مضطهدٌ طولَ حياتِه، يموتُ وهو محبوسٌ، ثم يعمُّ علمُه البلادَ من أقصاها إلى أقصاها، شرقًا وغربًا، ويتابعه في فقهه شطرُ الأمة المحمدية، بل ثلثاها على توالي القرون، رغم مواصلة الخصوم من فقيهٍ ومحدثٍ ومؤرخٍ مناصبةَ العداءِ له نبأٌ جللٌ لا يُستبعد أن يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم
…
"!
أقول: لا أدري أَعِلْمُ هؤلاء القوم أَحْرَى أن يؤسفَ عليه أم دينُهم أم عقولُهم؟! قد تأملتُ رواياتِ هذا الحديث في "مناقب أبي حنيفة" وغيرها، فرأيته يدور على جماعة:
أولهم: البورقي، وقد عرفتَ حاله، رواه عن مجهول عن مثله عن السيناني بذاك السند، وقد صح عن السيناني أنه قال:"سمعت أبا حنيفة يقول: مِنْ أصحابي مَنْ يبول قُلَّتَيْن، يَردُّ على النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قُلَّتَيْن لم ينجس" ذكره الأستاذ (ص 83).
الثاني: أبو علي أحمد بن عبد الله بن خالد الجويباري الهروي، وهو مشهورٌ بالوضع، مكشوف الأمر جدًّا، وله فيه أربع طرق:
الأولى: عن السيناني بذاك السند.
الثانية: عن أبي يحيى المعلم عن حميد عن أنس.
الثالثة: عن أبي يحيى عن أبان عن أنس.
الرابعة: عن عبد الله بن معدان عن أنس.
والراوي عنه في بعض هذه مأمون بن أحمد السلمي، وهو شبيهه في الشهرة بالوضع الفاحش.
الثالث: أبو المعلى بن مهاجر، إن كان له ذنب، وهو مجهول. رواه محمد بن يزيد المستملي -وهو متهم- عن مجهول عن مثله عن أبي المعلى عن أبان عن أنس، ورواه النضري بثلاثة أسانيد أخرى كلهم مجاهيل عن أبي المعلى عن أبان عن أنس.
الرابع: أبو علي الحسن بن محمد الرازي، وهو متهم، قد تقدم بعض ما يتعلق به في ترجمة: أحمد بن محمد بن الصلت رقم (34)، رواه النضري من طريقه بسند كلهم مجاهيل إلى عبد الله بن مغفل عن علي بن أبي طالب قوله.
الخامس: النضري؛ قال فيه ابنُ السمعاني في "الأنساب": (الخِيُّوِي) باسم "أبي القاسم يونس بن طاهر بن محمد بن يونس بن خيَّو النضري الخيوي من أهل بلخ الملقب شيخ الإسلام
…
"، ولم يذكر فيه توثيفًا ولا جرحًا والله أعلم به، وبعض الطرق المتقدمة من طريقه، وزاد: بسند كلهم مجاهيل عن أبان عن أنس.
وبسند كلهم مجاهيل عن أبي هُدبة عن أنس.
وبسند كلهم مجاهيل عن موسى الطويل عن ثابت بن أنس. وبسند كلهم مجاهيل عن حماد عن رجل عن نافع عن ابن عمر. وبسند كلهم مجاهيل عن أبي قتادة الحراني عن جعفر بن محمد عن جوير عن الضحاك عن ابن عباس.
هذا ما وقفتُ عليه فالأربعة الأولون قد عرفتهم.
وأما الخامس وهو النضري فالله أعلم به.
وعلى كل حال فكان بين قومٍ أعاجم جهال متعصبين، لا بِدْعَ أن يتقربوا إلى الله عز وجل بتكثير الطرق وكلهم مجاهيل.
وأبان وأبو هدبة وموسى الطويل ثلاثتهم هلكى، ومع ذلك لا أراهم إلا أبرياء من هذا الحديث، وإلا لاشتهر في زمانهم، فما بالُه لم يُعرف له أثر إلا بعد أن وضعه الجويباري في القرن الثالث؟
وأبو قتادة الحراني فسد بأخرة، ومع ذلك لا أراه إلا بريئًا من هذا.
وحماد الذي روى عنه عن رجل عن نافع عن ابن عمر لا أدري من هو، وربما يكون المقصود: حماد بن أبي حنيفة؛ فإنه قد قيل إنه يروي عن مالك عن نافع عن ابن
عمر فكأنَّ بعضَ المجاهيل سمع بذلك، فركب السند إليه بهذا الحديث، فاستحيا النضري عن أن يقول: عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فيكون أشنعَ للفضيحة، فكنى عن مالك برجل!
هذا، ومن شأنِ الدجالين أن يركبَ أحدُهم للحديثِ الواحدِ عدةَ أسانيدَ؛ تغريرًا للجهال، وأن يضعَ أحدُهم فيسرق الآخر، ويركب سندًا من عنده، ومن شأن الجهال المتعصبين أن يتقربوا بالوضع والسرقة وتركيب الأسانيد.
وقد قال أبو العباس القرطبي: "استجاز بعضُ فقهاءِ أهلِ الرأي نسبةَ الحكمِ الذي دل عليه القياسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ولهذا ترى كتبهم مشحونةً بأحاديثَ تشهد متونُها بأنها موضوعة؛ لأنها تشبه فتاوى الفقهاء
…
ولأنهم لا يقيمون لها سندًا صحيحًا".
وقد أشار إلى هذا ابن الصلاح بقوله: "وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
فتدبر ما شرحناه، ثم تأمل ما تقدم عن العيني
…
وانظر ما يقول العيني والكوثري؛ حتى كأنَّ أئمةَ الحديثِ ورجالِه وفقهاءَ المذاهبِ الأخرى أهلٌ عند العيني والكوثري لِكلِّ كذبٍ، وإن اشتهروا بالإمامة والثقة والصدق والتقوى، بخلاف أصحابِهما أهلِ الرأي، كأنه لا يكون منهم ولا من حُمُرهم وكلابهم إلا الصدق
…
". اهـ.
* * *