الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن السبكي
صاحب "طبقات الشافعية الكبرى"
(ت 771 هـ)
هو تاج الدين قاضي القضاة أبو النصر عبد الوهاب بن تقي الدين علي بن عبد الكافي بن تمام الأنصاري السبكي الشافعي.
قال الشيخ المعلمي في "التنكيل"(1/ 127):
"
…
لِغُلُوُّهِ شديدُ العُقوق لأستاذه الذهبي". اهـ.
قاله أبو أنس:
أسرد هنا ما يتعلق بهذه القضية، مما لخصه الدكتور/ بشار عواد في ترجمته للذهبي في مقدمة "سير أعلام النبلاء" (ص 128) قال:
"
…
وقد عرفنا من حياة الذهبي أنه رافق الحنابلة، وتأثر بشيخه ابن تيمية، لا سيما في العقائد، فكان شافعي الفروع، حنبلي الأصول، ولذلك عني عند النقد بإيراد العقائد على طريقة أهل الحديث، وعَدَّها جزءا منه كما بيَّنَا قبل قليل، ووجدنا في البيئة الدمشقية في الوقت نفسه من يتعصب للأشاعرة غاية التعصب.
وبسبب العقائد انْتُقِدَ الذهبيُّ مِنْ بعض معاصريه، لا سيما تلميذه تاج الدين عبد الوهاب السبكي (1)(728 - 771) في غير موضع من كتابه "طبقات الشافعية الكبرى"(2) وفي كتابه الآخر "معيد النعم"(3)، فقال في ترجمته من "الطبقات":
"وكان شيخنا -والحق أحق ما قيل، والصدق أولي ما آثره ذو السبيل- شديدَ الميل إلى آراء الحنابلة، كثير الازدراء بأهل السنة الذين إذا حضروا كان أبو الحسن
(1) اتصل السبكي بالذهبي سنة 739 هـ، ولم يبلغ آنذاك اثني عشر عامًا، ولازمه، فكان يذهب إليه في كل يوم مرتين، وقد ترجم له الذهبي في "معجمه المختص" انظر مقدمة "طبقات الشافعية".
(2)
انظر مثلًا 2/ 13 فما بعد، 3/ 299، 352 - 353، 356، 4/ 33، 133، 147، 9/ 103 - 104، وغيرها.
(3)
"معيد النعم"(ص 74، 77).
الأَشعري فيهم مقدم القافلة، فلذلك لا ينصفهم في التراجم، ولا يصفهم بخير إلا وقد رغم منه أنف الراغم.
صنف "التاريخ الكبير"، وما أحسنه لولا تعصب فيه، وكمله لولا نقص فيه، وأي نقص يعتريه" (1).
وقال في ترجمة: أحمد بن صالح المصري من "الطبقات" أيضًا:
"وأما تاريخ شيخنا الذهبي غفر الله له، فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين؛ أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على أئمة الشافعيين والحنفيين، ومال فأفرط على الأشاعرة، ومدح فزاد في المجسمة، هذا وهو الحافظ المِدْرَه، والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين"(2).
وذكر في موضع آخر أنه نقل من خط صلاح الدين خليل بن كيلكلدي العلائي (694 - 761) وهو من تلاميذ الذهبي والمتصلين به، أنه قال ما نصه:
"الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي، لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله الناس، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات، ومنافرة التأويل، والغفلة عن التنزيه، حتى أثَرَ ذلك في طبعه انحرافا شديدًا عن أهل التنزيه وميلا قويًا إلى أهل الإثبات، فإذا ترجم لواحدٍ منهم يُطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه، ويتغافل عن غلطاته، ويتاول له ما أمكن، وإذا ذكر أحدًا من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما، لا يبالغ في وصفه، ويُكثر من قول من طعن فيه، ويُعيد ذلك ويُبديه، ويعتقده دينًا، وهو لا يشعر، ويُعْرِضُ عن محاسنهم الطافحة، فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحدٍ منهم بغلطة ذكرها.
(1)(2/ 22).
(2)
(9/ 103 - 104).
وكذلك فِعْلُهُ في أهل عصرنا، إذا لم يقدر على أحدٍ منهم بتصريحٍ يقول في ترجمته: والله يُصلحه، ونحو ذلك، وسببه المخالفة في العقائد" (1).
ثم ذكر السبكي أن الحال أزيد مما وصف العلائي، ثم قال:"والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه، وعدم اعتبار قوله، ولم يكن يستجرىء أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه"(2).
وبالغ السبكي بعد ذلك، فقال:"إن الذهبي متقصد في ذلك، وأنه كان يغضب عند ترجمته لواحد من علماء الحنفية والمالكية والشافعية غضبا شديدًا، ثم يقرطم الكلام ويمزقه، ثم هو مع ذلك غير خبير بمدلولات الألفاظ كما ينبغي، فربما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها لما نطق بها"(3).
وقد أثارتْ انتقاداتُ السبكي هذه نقاشا بين المؤرخين، فَرَدَّ عليه السخاوي (ت 902 هـ) حيث اتَّهَمَ السبكيَّ بالتعصب الزائد للأشاعرة. ونقل قولَ عز الدين الكناني (ت 819 هـ) في السبكي:"هو رجلٌ قليلُ الأدب، عديمُ الإنصاف، جاهلٌ بأهل السنة ورتبهم"(4).
وقال يوسف بن عبد الهادي (ت 909 هـ) في "معجم الشافعية":
"وكلامُه هذا في حَقِّ الذهبيِّ غيرُ مقبول؛ فإن الذهبي كان أَجل من أن يقول ما لا حقيقة له
…
والإنكار عليه أشدُّ من الإنكار على الذهبي، لا سيما وهو شيخه وأستاذه فما كان ينبغي له أن يفرط فيه هذا الإفراط". اهـ.
(1)"الدرر الكامنة" لابن حجر: (2/ 179 - 182).
(2)
نفسه (2/ 13 - 14).
(3)
نفسه (2/ 14).
(4)
"الإعلان بالتوبيخ"(ص 469) فما بعدها.
والحق أن السبكي أشعري جلد متعصب غاية التعصب، ولا أدل على ذلك من شتيمته المقذعة في حقِّ الذهبي في ترجمة أبي الحسن الأَشعري من "الطبقات"، فقد سفَّ بها إسفافا كثيرا؛ بسبب عدم قيام الذهبي بترجمته ترجمة طويلة في "تاريخ الإسلام"، ولأنه اكتفى بإحالة القارىء إلى كتاب "تبيين كذب المفتري" لابن عساكر، فعَدّ ذلك نقيصة كبيرة في حق الأَشعري
…
ولقد أبانت دراستنا لـ "تاريخ الإسلام" أن الذهبي قد وُفِّقَ إلى أن يكون منصفا إلى درجة غير قليلة في نقده لكثير من الناس، وما رأينا عنده تفريقا كبيرًا بين علماء المذاهب الأربعة، وما كان يرضى الكلام بغير حق، ولا حتَّى نقله في بعض الأحيان.
* قال في ترجمة: الحسن بن زياد اللؤلؤي الفقيه الحنفي:
"قد ساق في ترجمة هذا أبو بكر الخطيب أشياء لا ينبغي لي ذكرها". اهـ.
* وقال في ترجمة: ابن الحريري الدمشقي الحنفي (ت 728 هـ):
"قاضي القضاة، علامة المذهب، ذو العلم والعمل". اهـ.
* وقوله في قاضي الحنفية: شمس الدين الأذرعي (ت 673 هـ):
"لم يخلف بعده مثله". اهـ.
* وترجم لأبي جعفر الطحاوي ترجمة رائقة ودلل على سعة معرفته وفضله وعلمه الجمّ.
* وقال في ترجمة عماد الدين الجابري الحنفي المتوفى سنة (584 هـ) من "السير"(1): "شيخ الحنفية نعمان الزمان". اهـ.
* وقال في ترجمة المرغيناني الحنفي: "كان من أوعية العلم"(2).
(1)(21/ 172).
(2)
نفسه (21/ 232).
وهذا هو منهجه في معظم الحنفية، لم نره تكلم في أحدهم بسبب المذهب، لا من الشافعية ولا المالكية ولا الحنفية.
ولو قال السبكي: إنه كان يتعصب على الأشاعرة حَسْب لَوَجَد بعضَ الآذان الصاغية، ولبحث له المؤيدون عن بضعة نصوص قد تؤيد رأيه علمًا أني بحثت في "تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" وغيرهما، فلم أستطع أن أحصل على مثلٍ يصلح أن يسمى انتقادا لأشعري.
نعم قد نجد بعض تقصير في تراجم قسمم من الأشاعرة، وفي هذا المجال صرت أشعر أن سبب قصر بعض تراجم الأشاعرة قد جاء من عدم قيام الذهبي بنقل آراء المخالفين بتوسع حبا منه للعافية، كما في ترجمة أبي الحسن الأشعري الذي لم يأت الذهبي بكلمةِ نقدٍ فيه، مع أن الأشعري قضى القسم أكبر من حياته معتزليا. ونحن نعرف موقف الذهبي من المعتزلة.
والواقع أن الذهبي ما بخس فضل هذا الرجل إلى درجة أنه عده مجددا في أصول الدين على رأس المائة الرابعة (1).
أما كلام الذهبي في الصوفية، فصحيحٌ ما قاله السبكي، ولكن في النادر منهم، وهذا رأي ارتآه الذهبي، واعتقد فيه وآمن بمع فقد ميَّز بين طائفتين منهم:
أولاهما: كانت متمسكة بالدين القويم، متبعة للسنة، احترمهم الذهبي الاحترام كله، بل لبس هو خرقة التصوف من الشيخ ضياء الدين عيسى بن يحيى الأنصاري السبتي عند رحلته إلى مصر، وكان يعتقد ببعض كرامات كبار الزهاد، ويُعنى بايرادها في كتابه، بل يكثر منها عادة، ويورد بعض أقوالهم وحكاياتهم في الزهد والمحبة فيه.
(1) انظر "طبقات" السبكي (3/ 26).
أما الثانية: فقد عدهم الذهبي مارقين عن الدين، مشعوذين بِهِم مَسٌّ من الجنون ومنهم الأحمدية أتباع الشيخ أحمد الرفاعي، والقلندرية (1)، وشيخُها جمال الدين محمد الساوجي، فقد ذكر تُرَّهاته، وانغشاش الناس به وبحاله الشيطاني ووصف بعض أحوالهم في ترجمة يوسف القميني (ت 657 هـ) فقال: "وكان يأوي إلى قمين حمام نور الدين، ولما تُوفي شيَّعَهُ خلقٌ لا يحصون من العامة، وقد بصَّرنا الله تعالى وله الحمد وعرفنا هذا النموذج
…
فقد عم البلاء في الخلق بهذا الضرب
…
ومن هذه الأحوال الشيطانية التي تضل العامة: أكل الحيات ودخول النار، والمشي في الهواء ممن يتعانى المعاصي، ويخل بالواجبات
…
وقد يجىء الجاهل، فيقول: اسكت، لا تتكلم في أولياء الله ولم يشعر أنه هو الذي تكلم في أولياء الله وأهانهم إذ أدخل فيهم هؤلاء الأوباش المجانين أولياء الشيطان".
ولم يكن الذهبي متعصبا للحنابلة بالمعنى الذي صوره السبكي، فالرجل كان محدثا يحب أهل الحديث ويحترمهم، إلا أن هذا لم يمنعه من تناول مساوىء بعضهم؛ فقد نقل عن الإمام ابن خزيمة في ترجمة الطبري المؤرخ قوله:"ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة"، ثم قال الذهبي معقبًا:"كان محمد بن جرير ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهلٍ وحاسدٍ وملحدٍ".
وقال في ترجمة: عبد الساتر بن عبد الحميد، تقي الدين، الحنبلي، المتوفى سنة 679: "ومهر في المذهب
…
وقلَّ من سمع منه؛ لأنه كان فيه زعارة. وكان فيه غلو في السنة ومنابذة للمتكلمين، ومبالغة في اتباع النصوص
…
وهو فكان حنبليا خشنا، متحرقا على الأشعري
…
كثير الدعاوى قليل العلم".
(1) القلندرية: المحلقون أي الذي يحلقون رءوسهم ولحاهم.
ومع ما كان للذهبي من إعجابٍ بشيخه ابن تيمية، فإنه أخذ عليه:"تغليظه، وفظاظته، وفجاجة عبارته، وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير النفوس"
…
وقد رأى في بعض فتاويه انفرادًا عن الأمة. قال: "وقد انفرد بفتاوى نِيلَ من عِرضه لأجلها، وهي مغمورةٌ في بحر علمه، فالله تعالى يسامحه، ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكُلُّ أحدٍ من الأمة فيؤخذ من قوله ويترك فكان ماذا؟ "(1).
وقد بلغ حرص الذهبي في النقد وشدة تحريه: أنه تكلم في ابنه أبي هريرة عبد الرحمن، فقال:"إنه حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتَّى نسيه"(2).
ولست هنا في حال دفاع عن الرجل فكتاباته خير مدافع عنه، وهي الحكَمُ في تقويمه ولكنني أقول: إن تحقيق كثيرٍ من الإنصاف -وإن لم يكن كله- أمر له قيمته العظمى في كل عصر". اهـ. النقل عن مقدمة "السير" للدكتور/ بشار عواد، بغالب حواشيه.
* * *
(1)"تذكرة الحفاظ"(4/ 1497).
(2)
"الإعلان بالتوبيخ" للسخاوي (ص 488).