الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الرابع: هل عدم إخراج الشيخين للرجل في "الصحيح" يقتضي ضعْفَهُ أو لِينَهُ عندهما
؟
قد طعن الكوثري في جماعةٍ من الرواة والمحدثين مُحْتَجًّا بأن البخاري -وربما أصحاب الكتب الستة- لم يخرجوا لهم، فشَرَحَ المعلمي بعضَ أسباب ذلك بما لا يقتضي الطعن.
من ذلك:
(1)
قول العلامة المعلمي في ترجمة إبراهيم بن شماس الغازي من "التنكيل" رقم (6):
أما عدم إخراج البخاري عنه في "صحيحه" فكأنه إنما لقيه مرة؛ فإن إبراهيم كان دائبًا في الجهاد، فلم يسمع منه البخاري ما يحتاج إلى إخراجه في "الصحيح".
وقد أدرك البخاري من هو أكبر من إبراهيم وأعلى إسنادًا، وكم من ثقةٍ ثبتٍ لم يتَّفِقْ أن يخرج عنه البخاري في "صحيحه" وأخرج عمن هو دونه بكثير.
فأما بقية الستة؛ فأبو داود ولد سنة 202، فقد أدرك إبراهيم؛ فإن إبراهيم استشهد سنة 220، ولكن لعله لم يَلْقَهُ وإنما روى في مسائل مالك عن رجل عنه، على ما يظهر من "التهذيب"، وقد سمع أبو داود جماعةً ممن هو أكبر وأعلى إسنادًا من إبراهيم.
ومسلم ولد سنة 204، والباقون بعد ذلك.
وجامعو الكتب الستة يتحرون علوّ الإسناد والاختصار، ولا ينزلون إلا لحاجةٍ، والروايةُ عن إبراهيم قليلةٌ؛ لاشتغاله بالجهاد، ولأنه لم يُعَمَّرْ حتى يُحتاج إليه، وقد رَوى عنه من هو أجَلُّ من أصحاب الكتب الستة كما مرّ (1).
(2)
وقوله في ترجمة: محمد بن علي بن الحسن بن شقيق رقم (221):
"من شأنهما -يعني الشيخين- في "الصحيح" أن يتطلبا العلوّ ما وجدوا إليه سبيلًا، ولا يرضيان بالنزول إلا أن يتفقَ لهما حديثٌ صحيحٌ تشتد الحاجة إلى ذكره في "الصحيح" ولا يقع لهما إلا بنزول، فلم يتفق لهما ذلك هنا، وهذا الرجل سِنُّهُ قريبٌ من سِنِّهِما، فروايتهما عنه نزولٌ.
وهناك وجوهٌ أُخَر لعدم إخراجهما للرجل في "الصحيح"، راجع ترجمة إبراهيم ابن شماس.
ولهذا لم يلتفت المحققون إلى عدم إخراجهما، فلم يَعُدُّوا عدمَ إخراجهما الحديث دليلا على عدم صحته، ولا عدم إخراجهما للرجل دليلا على لِينِه (2).
ومحمد هذا وثقه النسائي، والنسائي ممن قد يفوق الشيخين في التشدد كما نبهوا عليه في ترجته، ووثقه غيره أيضًا.
وروى عنه أبو حاتم وقال: "صدوق" وأبو زرعة، ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في "لسان الميزان"(2/ 416)، وبقي بن مخلد، وهو لا يروي إلا عن ثقة كما مرّ في ترجمة أحمد بن سعد، وابنُ خزيمة، وهو لا يروي في "صحيحه" إلا عن ثقةٍ، واللَّه الموفق". اهـ ..
(1) مثل أحمد وكذا أبي زرعة رحمهما اللَّه وهما لا يرويان إلا عن ثقة عندهما، كا ذكره المعلمي، وعظَّم إسحاقُ بن راهويه شأنه وحرَّض على الكتابة عنه، ووثقه الدارقطني وابن حبان.
(2)
سيأتي النظر في هذا القول في نهاية هذا الأمر الرابع.
(3)
وقوله في ترجمة رجاء بن السندي رقم (92):
"توفي رجاء سنة (231) فلم يدركه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وأدركوا مِنْ أقرانه ومَنْ هو أكبر منه مَنْ هو مثله أو أعلى إسنادًا منه، فلم يحتاجوا إلى الرواية عن رجلٍ عنه؛ لإيثارهم العلوّ.
وأدركه أبو داود في الجملة؛ لأنه مات وسنّ أبي داود نحو تسع عشرة سنة، ولكنه في بلد غير بلده، فالظاهر أنه لم يلقه.
فأما مسلم فإنه كان له حين مات رجاء نحو لست عشرة سنة، وهو بلديُّه، ويمكن أن يكون سمع منه وهو صغير، فلم ير مسلم ذلك سماعًا لائقًا بأن يعتمده في "الصحيح"، ويمكن أن يكون مسلم تشاغل أول عمره بالسماع ممن هو أسنُّ من رجاء وأعلى إسنادًا، فَفَاتَهُ رجاء.
وأما البخاري فقد ذكر الكمال أنه روى عنه لكن قال المزي: لم أجد له ذكرًا في "الصحيح"(1). فقد لا يكون البخاري لقيه (2)، وقد يكون لقيه مرة فلم يسمع منه إلا شيئًا عن شيوخه الذين أدرك البخاري أقرانهم فلم يَحْتَجْ إلى النزول بالرواية عن رجاء.
(1) هكذا هو في "تهذيب" ابن حجر (3/ 231) مختصرًا من كلام المزي، وتمامه: ولا ذكره أحدٌ من المصنفين في رجاله، "وإنما قال الحاكم في "تاريخ نيسابور":"روى عنه البخاري، ولم يقل في "الصحيح" فلعلَّه روى عنه خارج "الصحيح". هكذا قاله المزي في حاشية نسخته من "تهذيب الكمال"، كما نقله عنه محققه (9/ 164).
(2)
هكذا قال المعلمي اعتمادا على نقل الحافظ ابن حجر المختصر لكلام المزي، وسبق كلام الحاكم في ذلك.
فتحصَّلَ مِنْ هذا أنهم إنا لم يخرجوا عنه إيثارًا للعلوّ من غير طريقه على النزول من طريقه (1). وراجع ترجمة إبراهيم بن شماس.
وقد رَوى عنه الإمام أحمد، وهو لا يروي إلا عن ثقةٍ، كما يأتي في ترجمة محمد بن أعين، وروى عنه أيضًا إبراهيم بن موسى وأبو حاتم وقال:"صدوق". وقال الحاكم: "ركن من أركان الحديث".
(4)
وقوله في ترجمة: محمد بن معاوية الزيادي رقم (234):
"قد قدَّمْنا مِرارًا أن كونَهم -يعني الأئمة الستة- لم يخرجوا للرجل، ليس بدليل على وَهَنِه عندهم، ولاسيما مَنْ كان سنُّهُ قريبًا من سِنِّهم وكان مقلا كهذا الرجل، فإنهم كغيرهم من أهل الحديث إنا يُعنون بعلوّ الإسناد، ولا ينزلون إلا لضرورة.
وقد روى النسائي عن هذا الرجل في "عمل اليوم والليلة" وقال في مشيخته: "أرجو أن يكون صدوقًا، كتبت عنه شيئًا يسيرًا" وإنما قال: "أرجو
…
"؛ لأنه إنما سمع منه شيئًا يسيرًا ولم يتفرغ لاختباره؛ لاشتغاله بالسعي وراء مَنْ هُم أعلى منه إسنادًا ممن هم في طبقة شيوخ هذا الرجل
…
".
(5)
وقوله في ترجمة: إسماعيل بن عرعرة رقم (51):
"قد يكون الرجلُ ثقةً مقلا من الرواية، إنا يروي قليلا من الحكايات، فلا يعتني به أهل التواريخ، ولا يُحتاج إليه في الأمهات الست".
(1) قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" - الطبقة 23: "من كبار أصحاب الحديث، لكنه مات قبل أن ينتشر ذكره". اهـ. وهو مؤيد لكلام المعلمي رحمه الله.
(6)
- (7)
انظر ترجمتي: أحمد بن الحسن الترمذي رقم (14)، وترجمة عامر بن إسماعيل البغدادي رقم (115) من "التنكيل".
قاله أبو أنس:
قد لخَصَّ الشيخُ المعلمي القولَ في هذا المبحث بقوله آنفًا:
"لم يلتفت المحققون إلى عدم إخراجهما -يعني الشيخين- فلم يَعُدُّوا عدمَ إخراجهما الحديث دليلا على عدم صحته، ولا عدم إخراجهما للرجل دليلا على لِينِه".اهـ.
فأقول:
هذا الكلام فيه تفصيلٌ لابدَّ منه، وذلك أن الملاحظ في النماذج التي سبق جواب الشيخ المعلمي عن عدم إخراج الشيخين لأصحابها، إنما هو لأسباب لا تتعلق بلِينِ الراوي ونحوه، إنما هو لعدم الاحتياج لما عند الراوي، لاسيما إذا كانت روايتهما عنه بنزول، مع الاستغناء عما عنده حينئذ بطرق أخرى عالية، وهذا واضحٌ وسائغٌ جدًّا في طبقة أصحاب الكتب الستة -لاسيما الشيخين- أو طبقة شيوخهم، وهو جل النماذج السابقة.
أما الطبقات المتقدمة، فالراوي إذا كان معروفًا، وروى أحاديثَ لا توصف بالندرة، ومنها ما هو في أبواب يُحتاج إليها، وظهر الاحتياج لما عنده حينئذ لضيق مخارجه أو قلة طرقه، أو وضوح متنه في بابه، أو نحو ذلك من مُهمات الإسناد أو المتن، فعدمُ إخراج صاحبي "الصحيح" لمثل هذا -مع ما وصفنا- يُعد إعراضا عنه وعما عنده من الحديث.
نعم، هذا لا يلزمُ منه توهينُ الراوي -إلا أن يصرحا بضعفه، أو يتفق الأئمة على ذلك- ولكن يدل ذلك على أنهما لم يرياه صالحا للاحتجاج، ولا ما عنده ناهضا للاستشهاد.
وقد دَأَبَ غيرُ واحد من المحققين على غمز الراوي -لا سيما المختلف فيه- بعدم إخراج صاحبي "الصحيح" له، تدعيما لمن ضعفه على من أَجمل فيه القولَ.
من هؤلاء: البيهقي، فقد ذكر ذلك في جماعة من الرواة في كتابه "السنن الكبرى".
قاله في: عبد خير (1/ 292)، وداود بن عبد اللَّه الأودي (1/ 190)، وقيس بن عباية (2/ 52)، والأجلح بن عبد اللَّه (10/ 267)(1).
قال في كُلٍّ من هؤلاء: لم يحتج به صاحبا "الصحيح".
وخليد بن جعفر (6/ 71) قال فيه: لم يحتج به محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب "الصحيح"، وأخرج مسلم بن الحجاج حديثه الذي يرويه مع المستمر بن الريان عن أبي نضرة عن أبي سعيد في المسك وغيره. اهـ.
ولخليد هذا في صحيح مسلم ثلاثة أحاديث: أحدها هذا الذي أشار إليه البيهقي، وهو برقم (2252) مقرون بالمستمر بن الريان. والثاني برقم (1738) وقد أعقبه أيضًا بمتابعة المستمر بن الريان عن أبي نضرة. والثالث برقم (2341) من رواية شعبة عنه عن أبي إياس عن أنس أنه سئل عن شيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما شانه اللَّه ببيضاء. أخرجه في آخر باب شيب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قدَّم عليه حديث أنس من طرق أخرى أصح من هذه، وفيها قول أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان به شعرات قليلة بيضاء.
وسيأتي مزيدُ بيانٍ لإخراج صاحبي "الصحيح" للرجل في الشواهد ونحوها دون الأصول، وذلك في الأمر التالي، واللَّه الموفق.
(1) وحمزة بن ربيعة: "نصب الراية" عنه: (3/ 228).