الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نموذج (2)
باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه:
أخرج مسلم فيه حديثا واحدا رقم (2605/ 101) قال: حدثني حرملة بن يحى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب أخبرني حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، أن أُمَّهُ أَمَّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط -وكانت من المهاجرات الأول، اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرا وينمي خيرا".
قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
ثم قال: حدثنا عمرو الناقد حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي، عن صالح حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، بهذا الإسناد، مثله. غير أن في حديث صالح: وقالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث - بمثل ما جعله يونس من قول ابن شهاب.
ثم قال مسلم: وحدثناه عمرو الناقد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا معمر، عن الزهري، بهذا الإسناد، إلى قوله:"ونَمى خيرا" ولم يذكر ما بعده. اهـ.
أقول:
• فقد بدأ مسلم برواية يونس، وفيها فصل قول الزهري عن الحديث، ولم ينسب الزهري عدم الترخيص لأحد بعينه.
• ثم أتبعه برواية صالح بن كيسان بمثل إسناد يونس، إلا أنه أدرج قول الزهري في الحديث، وجعله من قول أم كلثوم، ناسبةً عدم الترخيص للنبي صلى الله عليه وسلم.
• ثم أيَّد مسلم قضية الإدراج برواية معمر عن الزهري، فلم يجاوز معمر القول المرفوع. فلعل الزهري كان يحدث به أحيانا هكذا، فسمعه منه معمر، وتارة يضيف من عنده مسألة الترخيص المذكورة، ففصلها يونس، وأدرجها صالح، أو أن معمرا سمعه كما سمعه الآخرون، لكنه اقتصر على القدر المرفوع.
وسياق مسلم لهذه الروايات عن الزهري يوافق طريقته المعهودة في تقديم الأصح والأسلم من ذلك.
ويلاحظ أن هذا الباب ليس فيه إلا هذا الحديث الواحد، فتعيَّن على مسلم أن يسوقه على هذا النسق.
• أما في النموذج السابق، فقد صدَّر مسلم الباب بحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطن وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب
…
فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له
…
وهذا قد أخرجه البخاري (4921) لكن ليس فيه عنده: "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم".
ففي هذا الحديث تصريح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ على الجن، ولكنهم استمعوا إلى قراءته دون أن يشعر بهم، حتى أنزل الله تعالى عليه قرآنا يخبره خبرهم.
وهو الذي يشتمل على جهره صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر بالقراءة، وهو المقصود بهذا الباب، وقد استفيد من قوله: فلما سمعوا القرآن استمعوا له.
ثم أتبعه مسلم بحديث علقمة عن ابن مسعود، وقد وقع فيه الاختلاف المذكور في قول الشعبي.
وكذلك فليس فيه إلا مطلق قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن عليهم، دون ذكر لصلاة الصبح، فإيراد هذا الحديث هنا هو على سبيل الاستطراد، وليس مقصودا لهذا الباب؛ لخلوه من محل الشاهد.
وكذلك فإن فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن". وهو مخالف لحديث ابن عباس.
وجمع البيهقي بأن ما حكاه ابن عباس إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله عز وجل، كما رواه عبد الله بن مسعود.
وكذلك ذهب الحافظ في "الفتح" إلى تعدد القصة، وليس هذا محل تحقيق هذه القضية، لكن المراد هنا هو تأمُّل طريقة عرض مسلم للخلاف في هذا الحديث.
وواضح من الروايات التي ساقها مسلم أن الخلاف في هذا الحديث هو على داود بن أبي هند، وهو بصري، ساقه مسلم من طريق ثلاثة عنه؛ هم عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري، وإسماعيل بن علية كذلك، وعبد الله بن إدريس الكوفي، وجميعا ثقات أثبات.
ولو قدَّم مسلمٌ روايةَ ابن علية وابن إدريس وأخَّر رواية عبد الأعلى، لكان مقتضاه تخطئته لعبد الأعلى فيه.
لكنه قدم رواية عبد الأعلى التي وقع فيها الإدراج، مع إرادته التنبيه على الوهم الواقع فيها، فتحصل من ذلك أن مسلما كأنه يرى أن الاختلاف في هذا الحديث ليس من الرواة عن داود، بل من داود نفسه، اضطرب فيه، فكان يحدث به تارة مدرجا، وتارة مفصلا، وروى كل واحد ما سمعه منه.
وداود قال الأثرم عن أحمد: كان كثير الاضطراب والخلاف.
يؤكد ذلك أن محمد بن أبي عدي البصري قد رواه عن داود إلى قوله: وآثار نيرانهم. ثم قال: قال داود: ولا أدري في حديث علقمة أو في حديث عامر أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة الزاد.
أسنده البيهقي في "سننه الكبرى"(1/ 109) إلى ابن أبي عدي.
فوضح أن داود كان أحيانا يصرح بِشَكِّهِ في هذا القَدْر، عمَّن هو؟
إذًا، فقد كان يحدث به على ثلاث صور: الجزم بالتفصيل، والجزم بالإدراج، والشك فيه.
يبين ذلك أيضا أنه قد رواه:
يزيد بن زريع عند البزار في "مسنده"(5/ 35).
ويحيى بن أبي زائدة عند ابن خزيمة (82) وابن حبان (1432).
ووهيب بن خالد عند أبي داود الطيالسي (1/ 37) -وجمعه مع يزيد-.
ثلاثتهم: عن داود بالإدراج، فوافقوا عبد الأعلى في روايته.
ورواه النسائي من طريق يحيى بن أبي زائدة (6/ 499) وكذلك الطحاوي في شرح المعاني (1/ 96) مثلما حدث به ابن إدريس، لم يذكر القدر المدرج أصلا.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 201) من طريق وهيب، لكن إلى قوله: وآثار نيرانهم، كرواية ابن إدريس.
وهذا كله يدل على ما سبق، فإذا كان الاختلاف من داود، صح اختلاف الرواة عنه، بل والاختلاف على أفراد منهم، تبعا لسماع كل واحد منهم للحديث من داود في مجالس متعددة. والله تعالى أعلم.
وبعد:
فهذا آخر ما أردت عرضه فيما يتعلق بهذه القضية، آثرت فيه الاختصار، والاقتصار على أوضح النماذج التي وقفت عليها حال المطالعة، ومذاكرة بعض النابهين في هذا الشأن. وبين يدي نماذج أخرى، أرجأتها لموضع آخر.
فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى التوفيق، وإن كانت الأخرى فأسأله سبحانه العفو والهداية.
* * *