الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإبراهيم هذا ليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وليس هو بالمحل الذي يُقبل منه تفرده بهذين المعنيين المذكورين، فإنه لم يوثق توثيقا يعتد به، وهو مقل من الحديث، واللَّه تعالى الموفق للصواب.
النموذج الثالث:
في باب: المسح على الخفين (1/ 365 فتح):
أخرج البخاري أولا حديث سعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة في المسح على الخفين، ثم أخرج (204) حديث شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، أن أباه أخبره، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين.
قال البخاري: وتابعه حرب بن شداد وأبان عن يحيى، ثم أخرجه (205) من طريق ابن المبارك، أخبرنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو، عن أبيه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه.
قال: وتابعه معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عمرو، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
…
اهـ. فلم يذكر جعفرا في الإسناد.
فأقول:
المتأمل يلاحظ أن البخاري لم يبوب على المسح على العمامة، وإنما أورد رواية الأوزاعي تحت باب المسح على الخفين، فهل ذكر العمامة في هذا الحديث محفوظ عنده؟
إن كانت الإجابة: نعم؛ لأنه خرجها، وذكر متابعة معمر للأوزاعي عن يحيى، فقد يقال: لِمَ لَمْ يبوب عليها بابا مستقلا: "المسح على العمامة"، وهو الذي يترجم بأدق من هذا بكثير، وأبواب المسح على العمامة مما اعتنى بذكرها الأئمة، فكان حري به أن يخرجها في بابها إذًا؟
وقد اتفق -فيما ذكره البخاري- شيبان، وحرب بن شداد، وأبان بن يزيد العطار على رواية هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير بلفظ المسح على الخفين فقط.
ورواه الأوزاعي عن يحيى، فزاد فيه المسح على العمامة.
ورواه معمر عن يحيى فأسقط من الإسناد جعفرا، كما ساقه البخاري، ولكنه عبر عن رواية معمر بالمتابعة، ومع ذلك فقد بين أنه خالفه في الإسناد، فهل يعني بالمتابعة: موافقته في المتن؟ هذا هو الظاهر، وإلا فيكون المقصود: متابعته في أصل الحديث، مع مخالفته في اللفظ والإسناد، وهو بعيد.
قال ابن حجر: ذكر أبو ذر في روايته لفظ المتن، وهو قوله:"يمسح على عمامته" زاد الكشميهني: "وخفيه" وسقط ذكر المتن من سائر الروايات في "الصحيح".
ورواية معمر قد أخرجها عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر بدون ذكر العمامة، ولكن أخرجها ابن منده في كتاب الطهارة له من طريق معمر بإثباتها. اهـ.
أقول:
ظاهر صنيع البخاري أنه عني أن معمرا تابع الأوزاعي في ذكر العمامة، وإلا لم يكن لمتابعته أي معنى، ولا يكون لإرداف رواية الأوزاعي برواية معمر أي مزية، وإلا فيكون معمر حينئذ قد وافق الثلاثة الأول: شيبان، وحرب، وأبان، في لفظه، وخالف الجميع -ومعهم الأوزاعي- في إسناده بإسقاط جعفر.
فدل هذا السياق أن البخاري قصد متابعة معمر للأوزاعي على ذكر العمامة.
يؤيد ذلك رواية أبي ذر والكشميهني وفيها ذكر العمامة من رواية معمر، وكذلك رواية ابن منده، وإن لم يذكر الحافظ راويها عن معمر؛ ليقارن بعبد الرزاق في روايته عنه.
ومع رجحان إرادة البخاري متابعة معمر للأوزاعي في ذكر المسح على العمامة، فهل ذلك كافٍ في كونها محفوظة عنده؟
استقراء "الصحيح" يقتضي أن الإجابة لو كانت: نعم، لأفرد لها البخاري بابا خاصا بها، وخرج فيه حديث الأوزاعي ومتابعة معمر، لكن تصرف البخاري يشير إلى توقفه -على الأقل- في صحة هذه الزيادة.
هذا بغض النظر عن صحة "المسح على العمامة" سواء في حديث عمرو بن أمية، أو غيره، وقد خرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة، لكن المراد هنا هو التأمل في رأي البخاري في ذلك، ومقتضى إخراج رواية الأوزاعي فيها.
وقد نقل ابن بطال في شرح "صحيح البخاري"(1/ 306) عن أبي محمد الأصيلي قوله:
ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأن شيبان روى الحديث عن يحيى بن أبي كثير ولم يذكر العمامة، وتابعه حرب بن شداد، وأبان العطار، فهؤلاء ثلاثة من رواة يحيى بن أبي كثير خالفوا الأوزاعي، فوجب تغليب الجماعة على الواحد، وأما متابعة معمر للأوزاعي فهي مرسلة، وليس فيها ذكر العمامة. روى عبد الرزاق عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عمرو بن أمية قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه.
هكذا وقع في مصنف عبد الرزاق، ولم يذكر العمامة، وأبو سلمة لم يسمع من عمرو، وإنما سمع من ابنه جعفر، فلا حجة فيهما.
وذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين أن حديث عمرو بن أمية في المسح على العمامة مرسل. اهـ.
نقل ابن حجر في "الفتح"(1/ 369) كلام الأصيلي عن كتاب ابن بطال، دون حكاية ابن أبي خيثمة عن ابن معين، ثم أجاب عن الإرسال بأن سماع أبي سلمة من عمرو ممكن
…
وعن تفرد الأوزاعي برواية معمر عند ابن منده، ثم قال: "وعلى
تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته فتقبل، ولا تكون شاذة، ولا معنى لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية. اهـ.
أقول:
نعم، التفرد لا يستلزم الخطأ، ولكنها هنا زيادة حكم أو حكاية فِعل في حديثٍ لا يتعدى بضع كلمات ممن لم يُقدَّم على أحد ممن خالفهم -وهم جماعة- فكيف يُقدم عليهم جميعا؟!
فإذا انضاف إلى ذلك أن رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قد تكلم فيها بعض الأئمة؛ ففي "شرح علل الترمذي" لابن رجب (ص 486):
ذكر أحمد في رواية غير واحد من أصحابه أن الأوزاعي كان لا يُقيم حديث يحيى ابن أبي كثير، ولم يكن عنده في كتاب، إنما كان يحدث به من حفظه، ويهم فيه، ويروي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، وإنما هو أبو المهلب. اهـ.
فالتفرد بمثل هذه الزيادة، مع هذه القرائن، يُريب في صحتها، وهذا هو مقتضى عدم اعتماد البخاري لها، فلم يبوب عليها.
والحكم بالخطأ أو الشذوذ في الحديث يكفي فيه غلبة الظن إذا انقدح في ذهن الناقد ذلك، كما هو معلوم.
وبعد، فهذه النماذج -إضافة إلى ما ذكره الشيخ المعلمي- إنما هي أُطروحات ربما تَفتح بابَ النظر في "صحيح البخاري" على أساس محاولة فهم تصرفات البخاري في أبوابه وما يحتج فيها من الأحاديث، وما هو على شرطه في الباب الذي يخرج فيه الحديث، وما يخرج في غير بابه.
ولعل هذا يدفع عن البخاري -ومسلم- بعض الانتقاد الذي أُخذ عليهما في إخراج بعض الأحاديث، إذا لوحظ تصرفهما في إخراجها.
ولا يخفى أن مثل هذا النظر لا يتهيأ لغير أهل الصنعة الذين قد وُضع هذا "الصحيح" من أجل نظرهم وبحثهم -رزقنا اللَّه فَهْمَهُم- والأمر يحتاج إلى تحصيل الملكات الخاصة بهذا الشأن، مع شيء من التأمل المجرد، والنية الخالصة - وهبنا اللَّه إياها.
واللَّه تعالى من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
* * *