الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الأول
مناقشته في قضية خطيرة نسبها إلى أبي حامد الغزالي، وهو منها براء
نقل أبو رية عن صاحب المنار قوله: "والعمدة في الدين: كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى، والسُّنَّة العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة في الدرجة الثالثة".
فقال العلامة المعلمي في "الأنوار"(ص: 24):
"أقول (1): قد سبق أن المعروف بين أهل العلم ذكر الكتاب والسنة، ثم يُقسمون السنة إلى متواتر وآحاد وغير ذلك.
قال -يعني صاحب "المنار": "ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى وقد قرر ذلك الغزالي".
علق أبو رية في الحاشية:
"قرر الغزالي ذلك في كتاب "القسطاس المستقيم".
وعبارة صاحب المنار في مقدمته لمغني ابن قدامة: "فَمِنْ مقتضى أصولهم كلهم وجوب ترك أسباب كل هذا التفرق والاختلاف (2) حتَّى قال الغزالي في "القسطاس المستقيم" بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه، وعد المسائل الظنية المختلف فيها كأن لم تكن".
(1) هاهنا عنوان جانبي: "قضية خطيرة".
(2)
علق هنا الشيخ المعلمي بقوله: "أسباب التفرق والاختلاف الواجب تركها باتفاقهم هي الجهل والهوى والتعصب، وكذلك الخطأ بقدر الوسع، فأما أن يترك أحدهم ما يراه حقًا فلا قائل به، بل هو محظور باتفاقهم".
كذا قال، والذي في "القسطاس المستقيم" خلاف هذا، فإن فيه (ص 89) فما بعدها أنه: "يعظ العامِّي الطالب الخلاص من الخلاف في الفروع بأن يقول له: لا تشغل نفسك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والزنا والسرقة والخيانة
…
حرام، والفرائض كلها واجبة، فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف".
قال: "فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كده فهو جَدَلي وديس بعامِّي
…
نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها، وقال: ها أنا تشكل عليَّ مسائل
…
فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ من كل ما فيه خلاف، فإن كل من لا يوجبه يستحبه
…
فإن قال: هو ذا يثقل عليَّ
…
فأقول له: الآن اجتهد مع نفسك وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل
…
فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فأتبعه".
حاصل هذا أن الغزالي كان يعلم أن العامَّة في زمانه ينتسب كل منهم إلى مذهب ويتعصب له، فإن فرض أن أحدهم سأل عن الخلاف وكيف يتخلص منه فلن يكون إلا أحد رجلين: إما فارغًا متلهيًا، وإما ورعًا تقيًا، والتقي الورع لا بد أن يكون قد شغل فكره المحافظة على الفرائض المتفق عليها وتجنب المحرمات المتفق عليها، وعمل بذلك على مذهبه قبل أن يشغله الخلاف.
فإذا كان السائل مقصرًا مفرطًا وجاء يسأل عن الخلاف فلن يكون إلا متلهيًا، فيقال له: ابدأ بالعمل بما تعلمه يقينًا ثم سَلْ، فإن أَبَى فهو جَدليَ يتعنت في السؤال ولا يهمه العمل، والإعراض عن مثله أَوْلى.
فأما من أتى بما عليه بحسب مذهبه، وسأل عن الخلاص من الخلاف، فالظاهر أنه يَسأل ليعلم ويعمل، قال الغزالي:"فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع".
وفَسَّر ذلك بما بعده، وذلك يوضح قطعًا أن مراده بما يتفق عليه الجميع أن يلتزم أن يكون وضوءه الذي يصلي به وضوءًا يتفق العلماء على صحته، يتوضأ من كل ما قال عالم إنه ينقض الوضوء، وهكذا في سائر عمله، يأخذ بالأشد الأشد من أقوال المختلفن، وفهم منها صاحب المنار أن لا يتوضأ من شيء قال عالم إنه لا ينقض الوضوء، وهكذا في سائر عمله، يأخذ بالأخف الأخف من أقوال المختلفين، فلينظر العالم أين هذا من ذاك؟
على أنه إن لم يتوضأ إلا مما اتفقوا على أنه ينقض الوضوء قد يكون وضوءه باطلًا باتفاقهم؛ وذلك أن بعض العلماء يوجب الوضوء بمس الذكر ولا يوجبه من خروج الدم، وبعضهم يعكس، فإذا وقع لعامي هذا وهذا ولم يتوضأ، فوضوءه الأول باطل باتفاق الفريقين.
ومع أن مراد الغزالي الاحتياط الأكيد، اقتصر على أن فيه الأمان في طريق الآخرة، ومع أن صاحب المنار قلبه إلى التفريط الشديد لم يقتصر على أن صاحبه يكون ناجيًا في الآخرة بل زاد مقربًا عند الله تعالى.
وبعد فلندع الغزالي وصاحب المنار، ولنرجع إلى الحجة.
إننا نعلم أن لكثيرٍ من علماء الفرق زلاتٍ وشواذ مخالفة لدلالات واضحة من القرآن ولأحاديث تبلغ درجة التواتر المعنوي أو درجة القطع عند من يعرف الرواية والرواة، ومثل هذا غير قليل، فالمقتصر على ما اتُّفِق عليه على ما فهمه صاحب المنار
لا بد أن يخالف الكتاب والسنة حتمًا في كثير من القضايا، هذا في المخالفة القطعية، فأما الظنية فحدِّث عن كثرتها ولا حرج.
ومن جهةٍ أخرى فمن المحال عادة أن يكون الحق دائمًا من المسائل الخلافية مع المرخصين، فالترخص فيها كلها ترك متيقن لكثير من الحق.
ولنفرض أن جماعةً تتبعوا أقوال علماء المسلمين من جميع الفرق ثم جمعوا كتابًا ضمنوه ما اتفق المسلمون على أنه واجب أو حرام أو باطل (1) وأهملوا ما عدا ذلك، فهل يقال: إن من حافظ على ما في ذاك الكتاب بدون نظر إلى غيره كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى ثم يستغني الناس بذاك الكتاب عن كتاب الله وتفسيراته وعن كتب السنة وشروحها ومتعلقاتها وعن كتب الفقه كلها، ثم لا يعدم المشذبون مقالا يشكك فيما ضمَّه ذاك الكتاب كالشك في تحقق الإجماع وفي حجيته، ولتغير الأحكام بتغير الزمان، وحينئذ يستريح الذين يدعون أنفسهم بالمصلحين من كل أثرٍ للإسلام.
وقال ابن حزم في "الأحكام"(3/ 114):
"وبالجملة فهذا مذهبٌ لم يُخلق له معتقدٌ قطُّ، وهو أن لا يقول القائل بالنص حتَّى يوافقه الإجماع، بل قد صح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف؛ لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف في وجوب طاعتها".
هذا وقد برئت ذمةُ الغزالي من ذاك القول كما علمتَ.
(1) علَّق هاهنا الشيخ المعلمي بقوله: انظر: هل يسمحون بزيادة: أو مندوب.
وأنا أُجِلُّ السيدَ محمد رشيد رضا عن أن يقول به متصوِّرًا حقيقته، وإنما هذا شأن الإنسان؛ كَمَن يكون على جسر غير محجر، فتستولي على ذهنه خشية السقوط من جانب، فيتأخر عنه ويتأخر حتَّى يسقط بغير اختياره من الجانب الآخر.
بلى، من عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى، وهذا المتفق عليه هو العمل بالدلائل القطعية والظنية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله الثابتة قطعًا أو ظنا، فالعالم يتحرَّى ذلك بالنظر في الأدلة، فإن اشتبهت عليه أو تعارضت أَخذ باحسنها مع تجنب خرق الإجماع الصحيح.
والعامِّي يسأل العلماء ويأخذ بفتواهم، فإن اختلفوا عليه احتاط أو طلب ترجيحًا ما، وإذا علم الله حسن نيته فلابد أن ييسر له ذلك، فأما تقليد الأئمة فمهما قيل فيه فلا ريب أنه خيرٌ بكثير من تتبع الرخص.
وراجع "الموافقات"(4/ 72 - 81). اهـ.
* * *