الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر السابع
في شرائط ابن حبان في تصحيح الأخبار
قال أبو أنس:
اشتهر كتابُ ابنِ حبان "التقاسيم والأنواع" المعروف بـ "صحيح ابن حبان" بذكره في كتب "مصطلح الحديث" عند الكلام على مظانِّ الحديث الصحيح الزائد على ما في "الصحيحين"، لكن مع ذِكْرهم له بالتساهل في التصحيح، وأنه قريب من الحاكم في ذلك.
وقد أسلفتُ في الفصل الثاني أن ابن حبان قد أفصح عن شرائطه في التوثيق والتصحيح، إذ يقول في مقدمة "الثقات":
"كُلُّ شيخٍ ذكرتُه في هذا فهو صدوق يجوز الاحتجاج بروايته إذا تعرَّى عن خمسِ خصالٍ:
فإذا وُجد خبرٌ منكرٌ عن شيخٍ من هؤلاء الشيوخ الذين ذكرتُ أسماءهم فيه كان ذلك الخبر لا ينفكُّ عن إحدى خصالٍ خمسٍ:
إما: أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرته في هذا الكتاب شيخٌ ضعيفٌ سوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله نَزَّه أقدارهم عن إلزاق الضعف بهم.
أو: دونه شيخ واهٍ لا يجوز الاحتجاج بخبره.
أو: الخبر يكون مرسلًا لا يلزمنا به الحجة.
أو: يكون منقطعًا لا تقوم بمثله الحجة.
أو: يكون في الإسناد شيخ مدلس لم يبيَّن سماع خبره عمن سمع منه
…
فإذا وُجد الخبرُ متعرِّيًا عن هذه الخصال الخمس، فإنه لا يجوز التنكب عن الاحتجاج به؛ لأن العدلَ من لم يُعْرَفْ منه الجرحُ ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرح فهو عدل إذا لم يتبين ضده؛ إذْ لم يكلف النَّاسُ من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كُلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم". اهـ.
وقد نظر الحافظ ابن حجر في كتابه "النكت على ابن الصلاح"(1/ 290 - 291) في تلك الشروط، واعترض على قول ابن الصلاح عند قوله على الزيادة في "الصحيح" على ما في "الصحيحين" في مقدمته (1): "ويكفي مجرد كونها في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه كابن خزيمة
…
".
فقال ابن حجر: "مقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد في كتاب ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ممن اشترط الصحيح -بالتسليم
…
وفي ذلك نظر، فلم يلتزم ابن خزيمة وابن حبان في كتابيهما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي ذكرها المؤلف- يعني ابن الصلاح (2)
…
وقد صرح ابن حبان بشرطه، وحاصله: أن يكون راوي الحديث عدلا مشهورًا بالطلب (3)، غير مدلس، سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي، فإن كان يروي من حفظه، فليكن عالمًا بما يحيل المعاني.
فلم يشترط على الاتصال والعدالة ما اشترطه المؤلف في "الصحيح" من وجود:
(1)
الضبط.
(2)
ومن عدم الشذوذ والعلة.
(1)(ص 93).
(2)
حيث قال ابن الصلاح (ص 83): "أما الحديث الصحيح فهو: الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العَدْل الضابط عن العَدْل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا ولا مُعَلَّلا. وفي هذه الأوصاف: احتزاز عن المرسل والمنقطع والمعضل والشاذ، وما فيه علَّة قادحة، وما في راويه نوع جرح". اهـ.
(3)
أما العدالة فعلى منهجه فيها، وأما الشهرة بالطلب ففي تحقق التزامه بها نظر كبير، وقد سبق في المطلب الثاني بيان ذلك مفصلا؛ إذ ربما أخرج ابن حبان لمن لا يعرفه ولا يعرف أباه ولا شيئًا عنه.
وهذا وإن لم يتعرض ابن حبان لاشتراطه، فهو إن وجده كذلك أخرجه، وإلا فهو ماشٍ على ما أصَّل؛ لأن وجود هذه الشروط لا ينافي ما اشترطه.
وسمى ابن خزيمة كتابه "المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة".
وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء؛ لأن ابن حبان تابعٌ لابن خزيمة، مغترفٌ من بحره، ناسجٌ على منواله.
ومما يُعَضِّدُ ما ذكرنا: احتجاجُ ابن خزيمة وابن حبان بأحاديثِ أهل الطبقة الثَّانية اللذين يخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات، كابن إسحاق، وأسامة بن زيد الليثي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغير هؤلاء.
فإذا تقرر ذلك عرفتَ أن حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن ما لم يظهر في بعضها علة قادحة.
وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أنها جمعت الشروط المذكورة في حَدِّ الصحيح فلا، والله أعلم". اهـ. كلام ابن حجر.
وعلَّق السخاوي في "فتح المغيث"(1/ 37) على قول العراقي في "ألفيته": "والبستي -يعني: ابن حبان- يداني الحاكما" يعني في التساهل، بقوله:
"وذلك يقتضي النظر في أحاديثه أيضًا؛ لأنه غير متقيد بالمعدَّلين، بل ربما يخرج للمجهولين".
قال أبو أنس:
قد بأن بما سبق نقلُه عن ابن حبان، ونَكَّت به ابن حجر، وعلَّق به السخاوي ما يلي:
أولًا: لم يزد ابن حبان في شروط التصحيح على شرطين:
(1)
العدالة - بمعناها عنده.
(2)
الاتصال - ويشمل انتفاء الإرسال والانقطاع والتدليس.
ويُفهم من سائر صنيعه اعتبار ألا يكون المتن منكرًا، حتَّى إنه ليسارع إلى الحكم على الحديث بالوضع إذا وجد متنه مما لا يقبله عقل أو لا يوافقه شرع.
وكذا شَرَط في قبول زيادات الألفاظ في الأحاديث أن يكون الزائدُ فقيهًا حتَّى يَعلم ما يزيده، وإن حَدَّث الراوي من حفظه فَشَرَط أن يكون عالمًا بما يحيل المعاني.
ثانيًا: لم ينص ابن حبان على اشتراط ما يلي:
(1)
الضبط.
(2)
انتفاء الشذوذ.
(3)
انتفاء العلَّة.
أما العدالة فقد مرَّ النظر في منهج ابن حبان في شرائطها، وأنه لا يمكن الاعتبار بتعديله لمن لم يعرفهم، فإنه يتوسع جدًّا في توثيق المجاهيل بناءً على قاعدته في أن المسلمين على الصلاح والعدالة ما لم يتبين فيهم جرح، وهذه القاعدة لا تصلح في باب الرواية، وقد بيَّن الحافظ ابن حجر أن الجمهور على خلاف ما ذهب إليه ابن حبان، وارجع إلى تفصيل هذا في الفصل الثاني.
ولذا فقد نَبَّهَ السخاوي إلى أن تساهل ابن حبان في باب توثيق المجاهيل، يقتضي النظر في أحاديث "صحيحه".
أقول:
وذلك أنه يبني تصحيحه على كثير من هؤلاء، فوجب التفتيش في أسانيده، وعرْض رجالها على موازين التعديل المعتبرة عند جمهور أهل العلم.
ولا شك أن "صحيحه" يشتمل على جملة من أحاديث هؤلاء، يجب ألا تندرج تحت اسم الصحيح لعدم تحقق شرط العدالة المعتبر عند أئمة النقد.
وأما الاتصال فلم يبيِّن ابن حبان شروطه في إثبات صحة السماع على نحو الخلاف المشهور في: هل الواجب تحقق اللقاء ولو مرة، أم الواجب تحقق المعاصرة مع الخلوِّ من التدليس والقرائن الدالة على عدم السماع؟
وعلى هذا فالأمر يحتاج إلى استقراء وتتبع لمنهجه في ذلك، وهل يتقيَّدُ ابن حبان بكلام المتقدمين في ذِكْر عدم سماع الرواة بعضهم من بعض، أم أن له اجتهاد خاص في ذلك؟
فإنا نرى ابن حبان لا يكاد يذكر في كتبه كثيرًا من الأئمة الذين عليهم مدار النقد في باب الجرح والتعديل والاتصال والانقطاع ونحو ذلك من أحوال الرواة التفصيلية.
وأما الضبط، فقد نصَّ ابن حجر أن ابن حبان لم يشترطه، كما سبق، لكن في قول ابن حبان:"فإن كان -يعني: الراوي- يروي من حفظه فليكن عالمًا بما يحيل المعاني" إشارةٌ إلى اعتباره للفرق بين أن يروي الراوي من كتابه أو من حفظه، وإلى تلميحه لاحتمال خطأ الذي يروي من حفظه إذا لم يكن عارفًا بمقتضيات الألفاظ ومدلولاتها.
وضَبْطُ الراوي إنما يُعرف بعرض أحاديثه على أحاديث الثقات المتقنين، فَيُقَارَنُ سياقُه بسياقهم؛ إسنادًا ومتنًا، ويُحكم على ضبطه بقدر موافقته لهم.
فإن اعتبرَ ابنُ حبان ذلك في المشاهير من الرواة، ورجح بعضَهم على بعض لحالِ اختلاف الضبط بينهم، فإنه لا سبيل له في ذلك في المجاهيل الذين وثقهم وهو لا يعرف عنهم شيئًا؛ بناءً على أصل العدالة عنده، وليس الضبط من العدالة بسبيل!
فتبيَّن من هذا أن ابن حبان لم يتقيد باشتراط الضبط أو البحث فيه بصورة مُطَّرِدَة، لكن إن وجد ما يدل عليه اعتبره، وإلا فهو جارٍ على أصله.
وأما نفي الشذوذ والعلة فقد أشار الحافظ ابن حجر -كما سبق- إلى عدم اشتراط ابن حبان له في باب التصحيح، فقال في "النكت" (1/ 290):"وهذا وإن لم يتعرض ابن حبان لاشتراطه، فهو إن وجده كذلك أخرجه، وإلا فهو ماشٍ على ما أَصَّل؛ لأن وجود هذه الشروط لا ينافي ما اشترطه". اهـ.
قال أبو أنس:
قد قطع شيخنا العلامة المعلمي بمخالفة ابن حبان -ومثله الدارقطني- للمتقدمين في هذا.
ففي كتاب "الأنوار الكاشفة"(ص 112) من قول أبي رية: "أخرج الخطيب عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي -أي كعب الأحبار- يقول: إنك من أبواب جهنم. فقال عمر: ما شاء الله، ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه، فقال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتَّى تدخل الجنة، فقال عمر: ما هذا؟ مرة
في الجنة ومرة في النار! قال كعب: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها فإذا مت اقتحموا، وقد صدقت يمينه
…
فقد قتل عمر في ذي الحجة سنة 23 هـ".
فنظر الشيخ المعلمي في متن هذه الحكاية، وخلص إلى تجويز -إن صحت الحكاية- أن يكون كعب استند إلى بعض العلامات المنقولة عن عمر، ويكون مع ذلك وجد في صحفه إشارةً فَهِمَ منها بطريق الرمز مع النظر في القرائن وتلك العلامات أن عمر لا يعيش بعد تلك السنة.
ثم قال:
"وبعدُ، فسند الحكاية غير صحيح، تفرد بها عن مالك رجلٌ يقال له: "عبد الوهاب ابن موسى" لا يكاد يعرف، وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذُكر في تاريخ البخاري ولا كتاب ابن أبي حاتم، بل قال الذهبي في "الميزان": "لا يُدرى مَنْ ذا الحيوان الكذاب".
وفي مقدمة "صحيح" مسلم: "الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابه قُبل منه
…
".
وهذا الرجل لم يمعن في المشاركة، فضلا عن أن يكون ذلك على الموافقة، لكن هذا الشرط لا يتقيَّدُ به بعض المتأخرين كابن حبان والدارقطني، ومِنْ ثَمَّ -والله أعلم- وَثَّق الدارقطني عبد الوهاب هذا، وزعم أن الخبر صحيح عن مالك". اهـ.
قال أبو أنس:
قد اتَّسعَ الخَرْقُ على مَنْ جاء بعد هؤلاء مِمّن نَحَا هذا النَّحْوَ؛ بسبب عدم التَقَيُّدِ بانتفاء الشذوذ والعلَّة، فكان من لازم ذلك: التصحيحُ بظواهر الأسانيد، دون اعتبارٍ لتفردات الرواة ومخالفاتهم لمن هم أوثق منهم، ولا التفتيش عن العلل الخفية في الأخبار، ومداخل الخلل في المرويات، والأسباب المتباينة للتعليل عند أئمة هذا الشأن، والله تعالى المستعان (1).
* * *
(1) وسيأتي مزيدُ بيانٍ لهذه المسائل عند الحديث عن أسباب التعليل وغيرها في قسم القواعد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.