الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
تقدمة الشيخ المعلمي لكتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم
قال رحمه الله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
الإنسان يفتقر في دينه ودنياه إلى معلوماتٍ كثيرةٍ، لا سبيلَ له إليها إلا بالأخبار، وإذ كان يقع في الأخبار الحقُّ والباطلُ، والصدقُ والكذبُ، والصوابُ والخطأُ، فهو مضطر إلى تمييز ذلك.
وقد هَيَّأَ الله تبارك وتعالى لنا سلفَ صدقٍ، حفظوا لنا جميعَ ما نحتاج إليه من الأخبار في تفسير كتاب ربنا عز وجل، وسنةِ نبينا صلى الله عليه وسلم، وآثارِ أصحابه، وقضايا القضاة، وفتاوى الفقهاء، واللغة وآدابها، والشعر، والتاريخ، وغير ذلك.
والتزموا وألزموا مَنْ بعدهم سَوْقَ تلك الأخبار بالأسانيد، وتتبعوا أحوالَ الرواةِ التي تساعد على نَقْدِ أخبارهم، وحفظوها لنا في جملة ما حفظوا.
وتفقدوا أحوالَ الرواةِ، وقَضَوْا على كُلِّ راوٍ بما يستحقُّه، فَمَيَّزُوا مَنْ يجب الاحتجاجُ بخبره ولو انفرد، ومَنْ لا يجب الاحتجاجُ به إلا إذا اعتضد، ومَنْ لا يُحتج به ولكن يُستشهد، ومَن يُعتمد عليه في حالٍ دونَ أُخرى، وما دون ذلك من متساهلٍ ومغفلٍ وكذابٍ.
وعمدوا إلى الأخبار فانتقدوها وفحصوها، وخَلَّصُوا لنا منها ما ضمنّوه كتبَ الصحيح، وتفقدوا الأخبارَ التى ظاهرها الصحة، وقد عرفوا بسعة علمهم ودقة فهمهم ما يدفعها عن الصحة، فشرحوا عللَها، وبينوا خللَها، وضمنّوها كتبَ العلل.
وحاولوا مع ذلك إماتَةَ الأخبارِ الكاذبةِ، فلم ينقلْ أفاضلُهم منها إلا ما احتاجوا إلى ذكره؛ للدلالة على كذب راويه أو وهنه.
ومن تسامح من متأخريهم، فروى كُلَّ ما سمع، فقد بَيَّنَ ذلك، ووكل الناسَ إلى النقد الذي قد مُهِّدَتْ قواعدُه ونُصبَتْ معالِمُه.
فَبِحَقٍّ قال المستشرق المحقق مرجليوث: "ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم".
علم الجرح والتعديل هو عِلمٌ يُبحثُ فيه عن جرحِ الرواةِ وتعديلهم، بألفاظٍ مخصوصةٍ، وعن مراتب تلك الألفاظ، وهذا العلمُ من فروع علم رجال الأحاديث، ولم يذكرْه أحدٌ من أصحاب الموضوعات، مع أنه فرعٌ عظيمٌ.
والكلام في الرجال جرحا وتعديلا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثيرٍ من الصحابة والتابعين، فَمَنْ بعدهم، وجُوِّزَ ذلك تورعا وصونا للشريعة، لا طَعْنا في الناس، وكما جاز الجرحُ في الشهود، جاز في الرواة، والتثبتُ في أمر الدين أَوْلَى من التثبت في الحقوق والأموال، فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلامَ في ذلك.
النقد والنقاد:
ليس نقدُ الرواة بالأمر الهَيِّنِ؛ فإنَّ الناقدَ لا بُدَّ أن يكون واسعَ الاطلاع على الأخبار المروية، عارفا بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية، خبيرا بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب، والموقعة في الخطأ والغلط، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الراوي:
متى وُلد؟
وبأيّ بلد؟
وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفظ؟
ومتى شرع في الطلب؟
ومتى سمع؟
وكيف سمع؟
ومع من سمع؟
وكيف كتابه؟
ثم يعرف أحوالَ الشيوخِ الذين يحدث عنهم، وبلدانهم، ووفياتهم، وأوقات تحديثهم، وعادتهم في التحديث.
ثم يعرف مرويات الناس عنهم، ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبرها بها، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
ويكون مع ذلك متيقظا، مرهفَ اللهم، دقيقَ الفطنة، مالكا لنفسه، لا يستميله الهوى، ولا يستفزه الغضب، ولا يستخفه بادرُ ظَنٍّ، حتى يستوفي النظر ويبلغ المقر، ثم يحسن التطبيق في حُكمه، فلا يجاوز ولا يقصر.
وهذه المرتبة بعيدةُ المرامِ، عزيزةُ المنالِ، لم يبلغْها إلا الأفذاذ.
وقد كان من أكابر المحدثين وأجلتهم مَنْ يتكلم في الرواة، فلا يُعَوَّلُ عليه، ولا يُلتفتُ إليه.
قال الإمام علي ابن المدينى -وهو من أئمة هذا الشأن-: "أبو نعيم وعفان صدوقان، لا أقبل كلامهما في الرجال؛ هؤلاء لا يَدَعُون أحدا إلا وقعوا فيه".
وأبو نعيم وعفان من الأجلة، والكلمة المذكورة تدل على كثرة كلامهما في الرجال، ومع ذلك لا تكاد تجدُ في كتب الفنِّ نقلَ شيء من كلامهما.
أئمة النقد:
اشتهر بالإمامة في ذلك جماعةٌ؛ كمالك بن أنس، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وآخرون، قد ساق ابن أبى حاتم تراجمَ غالبهم مستوفاة في كتابه "تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل"، وذلك أنه رأى أن مدار الأحكام في كتاب الجرح والتعديل على أولئك الأئمة، وأن الواجب أن لا يصل الناظر إلى أحكامهم في الرواة حتى يكون قد عرفهم المعرفة التى تثبت في نفسه أنهم أهلٌ أن يصيبوا في قضائهم، ويعدلوا في أحكامهم، وأن يقبل منهم ويستند إليهم ويعتمد عليهم. اهـ.
* * *