الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي (الكفاية) ص 54 "قَلَّ من كان يثبت (وفي نسخة: يكتب) الحديث على ما بلغنا في عصر التابعين وقريبًا منه إلا من جاوز حدَّ البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكراتهم وسؤالهم، وقيل: إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة".
ثم روى بعد ذلك حكايات، منها:"أنه قيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ قال: كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارًا حتى يستكملوا عشرين سنة". اهـ.
28 - جرت عادة المحدثين من الحرص على الكتابة عن المعمّر ولو كان ضعيفًا رغبةً فى العلوّ:
قال الشيخ المعلمي في "التنكيل"(1/ 173).
29 - أهل الرأي: نشأتهم، وعلاقتهم بالرواية والرواة:
قال الشيخ المعلمي في "التنكيل"(1/ 22):
"الأستاذ -يعني الكوثري- من أهل الرأي، ويظهر أنه من غلاة المقلدين في فروع الفقه، ومن مقلدي المتكلمين، ومن المُجارين لكتَّاب العَصْر إلى حَدٍّ ما، وكُلُّ واحدةٍ من هذه الأربع تقتضي قلةَ مبالاةٍ بالمرويات، ودربةً على التَّمَحُّل قي رَدِّها، وجُرْأَةً على مخالفتِها واتِّهام رُواتها.
أما أهل الرأي فهذه بدايتهم:
في (الصحيح) عن أبي هريرة قال: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يُكثر الحديث عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم والله الموعدُ، إني كنت امرءًا مسكينًا أصحبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يَشغلهم القيام على أموالهم
…
".
ومن تتبع السيرةَ والسنةَ، عَلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما يقضي بالقضية أو يحدث بالحديث أو يفتي في مسألة، وليس عنده من أصحابه إلا الواحد أو الاثنان، ثم كان معظمُ أصحابه لا يُحدثون بالحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلا عندما تدعو الحاجة ومنْ لازمِ ما تقدم، مع احتمال نسيان بعضهم، أو موته قيل أن يُخبر بالحديث: أن يكونَ كثيرٌ من السنن ينفرد بسماعها أو بحفظها أو بروايتها آحاد الصحابة.
ثم تفرق الصحابة في الأقطار، فمنهم من هو في باديته، ومنهم من صار إلى الشام والعراق ومصر واليمن، فكان عند أهل كل جهة أحاديثُ من السنة لم تكن عند غيرهم في أول الأمر -كما روي عن مالك-.
ثم اجتهد أصحاب الحديث في جمع السنة من كل وجه، وقد عُلم من الشريعة أنه ليس على العالِم الإحاطةُ بالعلم كله، وأن من شهد له أهل العلم بأنه عالم، فإنما عليه إذا احتاج إلى قضاءٍ أو فتوى أن ينظر في كتاب الله عز وجل وفيما يعلمه من السنة، فإن لم يجد فيهما النص على تلك المسألة سأل من يسهل عليه ممن يرجو أن يكون عنده دليلٌ، فإن لم يجد، وعَرف أن لبعض الصحابة قولًا في تلك المسألة -لم يعلم له مخالفًا- أخذ به، وإن علم خلافًا رجح، فإن لم يجد قولَ صحابي ووجد قولَ تابعي ممن تقدمه -لم يعلم له مخالفًا فيه- أخذ به، وإن علم خلافًا رجح.
وكان الغالب في الترجيح أن يرجح العالمُ قولَ من كان ببلده من الصحابة أو التابعين؛ لمزيد معرفته بهم المقتضية لزيادة الوثوق، هذا مع ما لِلإِلْفِ والعادة من الأثر الخفي. فإن لم يجد شيئًا مما تقدم اجتهد رأيه، وقضى وأفتى بما يظهر له.
ثم إذا قضى أو أفتى مستندًا إلى شيءٍ مما تقدم، ثم وجد دليلًا أقوى مما استند إليه يخالف ما ذهب إليه سابقًا: أخذ مِنْ حينئذٍ بالأقوى.
على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم، كما هو مبسوط في مواضعه، ومنها (إعلام الموقعين).
وكان كثيرٌ من أهل العلم من الصحابة وغيرُهم يَتَّقُون النظرَ فيما لم يجدوا فيه نصًا، وكان منهم من يتوسَّعُ في ذلك، ثم نَشأ من أهل العلم -ولا سيما بالكوفة- من توسَّعَ في ذلك، وتوسَّع في النظر في القضايا التي لم تقعْ، وأخذوا يبحثون في ذلك، ويتناظرون، ويصرفون أوقاتهم في ذلك.
واتصل بهم جماعةٌ من طلبة العلم، تشاغلوا بذلك، ورأوه أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان، والإمعان في جمع الأحاديث والآثار، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم، والإمعان في ذلك ليعرف الصحيح من السقيم، والصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح، ويعرف العام والخاص، والمطلق والمبين وغير ذلك.
فوقعوا فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إياكم والرأي؛ فإن أصحابَ الرأي أعداءُ السنن، أعيتْهم الأحاديثُ أن يَعُوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم" راجع (إعلام الموقعين) طبعة مطبعة النيل بمصر (1/ 62) وراجع (كتاب العلم) لابن عبد البر.
فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا به وأفتوا: مسائلُ، ثبتت فيها السنةُ مخالفةً لما ذهبوا إليه، لم يكونوا اطلعوا عليها، فكان الحديثُ من تلك الأحاديث إذا بلغهم ارتابوا فيه؛ لمخالفته ما ذهب إليه أسلافُهم، واستمر عليه عملُهم، ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول (القياس).
فمن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة، بحيث قهرهم، فلم يجدوا بُدًّا من الأخذ به، وكثيرٌ منها كانوا يردُّونها، ويتلمسون المعاذير، مع أن منها ما هو أثبتُ وأظهرُ وأقربُ إلى القياس من أحاديثَ قد أخذوا بها، لكن هذه التي أخذوا بها -مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس- وردت عليهم قيل أن يذهبوا إلى خلافها، فقبلوها اتباعًا، وتلك التي ردوها -مع قوة ثبوتها- إنما بلغتهم بعد أن استقر عندهم خلافها، واستمروا على العمل بذلك ومضى عليه أشياخهم.
وربما أخذوا بشيء من النقل، ثم بلغهم من السنة ما يخالفه، فأعجزهم أن ينظروا كما ينظر أئمة الحديث لمعرفة الصحيح من السقيم والخطأ من الصواب والراجح من المرجوح، فقنعوا بالرأي، كما ترى أمثلةً لذلك في قسم الفقهيات، ولا سيما في مسألة: ما تُقطع فيه يدُ السارق، وهذا دَيدنُهم، وعليه يعتمدُ الطحاوي وغيرُه منهم.
ولهذا بينما تجد الحنفيةَ يتبجحون بأن مذهبَ أبي حنيفة وسائرِ فقهاءِ العراق تقديمُ الحديث الضعيف على القياس -وقد ذكر الأستاذ ذلك في "التأنيب"(ص 161) - إذا بهم يردُّون كثيرًا من الأحاديث الصحيحة لمخالفتها آراء سلفِهم وآراءهم التي أخذوا بها، وقد كان الشافعي ينعى عليهم ذلك، ومن كلامه كما في (سنن البيهقي) ج 1 ص 148:
"والذي يزعم أن عليه الوضوء في القهقهة يزعم أن القياس أن لا ينتقض ولكنه يتبع الآثار، فلو كان يتبع منها الصحيح المعروف كان بذلك عندنا حميدًا، ولكنه يرد منها الصحيح الموصول المعروف ويقبل الضعيف المنقطع".
فالحنفية يعرفون شناعةَ ردِّ السنة بالرأي، ولكنهم يتلمسون المعاذير، فيحاولون استنباطَ أصولٍ يمكنهم إذا تشبثوا بها أن يعتذروا عن الأحاديث التي ردوها بعذرٍ سوى مخالفة القياس، وسوى الجمود على اتباع أشياخهم، ولكن تلك الأصول مع ضعفها لا تطرد لهم؛ لأن أشياخهم قد أخذوا بما يخالفها، ولهذا يكثر تناقضهم، وفي مناظرات الشافعي لهم كثير من بيان تناقضهم.
بل من تدبر ما كتبوه في أصول الفقه، بانَ له كثيرٌ من التناقض، كما ترى المتأخرُ منهم يخالفُ المتقدمَ، حتى إن الأستاذ الكوثري ذكر في "التأنيب"(ص 152 - 153) عدةَ أصولٍ لمحاربة السنن الثابتة، ومنها ما خالفَ فيه من تقدمه منهم، ولمَّا تعقبتُه في "الطليعة" (ص 102) في قوله:"عنعنة قتادة متكلم فيها" بأن ذلك
الحديث في "صحيح البخاري" وفيه: "حدثنا قتادة حدثنا أنس
…
" وفي "مسند أحمد" وفيه: "أن قتادة أن أنسًا أخبره
…
" أجاب في "الترحيب" (ص 49) بقوله: "مِنْ مذهب أبي حنيفة أيضًا كما يقول ابن رجب في "شرح علل الترمذي" ردُّ الزائد إلى الناقص في الحديث متنًا وسندًا، وهذا احتياطٌ بالغٌ في دين الله
…
فهل عرفتَ الآن يا معلمي مذهبَ الإمام لتقلع عن نسج الأوهام".
هذا، والأستاذ يعلم:
أولًا: أن النسبة إلى أبي حنيفة لا يَكفي في إثباتها قولُ رجلٍ حنبلي بينه وبين أبي حنيفة عدةُ قرون!
ويعلم ثانيًا: ما في كتب مذهبه مما يخالف هذا.
ويعلم ثالثًا: أن قولَ الراوي: "قتادة عن أنس" وقوله مرة أخرى أو قول غيره: "قتادة حدثنا أنس" ومرة أخرى: "قتادة أن أنسًا أخبره" ليس من باب النقص والزيادة، وإنما هو من باب المحتمل والمعين أو المجمل والمبين.
ويعلم رابعًا: أن أصلَ الحنفية الاحتجاجُ بالمنقطع، فما لم يتبين انقطاعُه -بل هو متردد بين الاتصال والانقطاع- أَوْلَى، فإذا ثبت مع ذلك اتصالُه من وجهٍ آخر فآكدُ.
ويعلم خامسًا: أنه لا ينبغي له أن يدافع عن نفسه بإلقاء التُّهَمِ على إمامه.
فأما الاحتياط البالغ في دين الله الذي يُموه به الأستاذ: فالتحري البالغ الذي سبق ما فيه في الفصل الثالث، فلا نعيده.
والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادةٌ ودربةٌ في دفعِ الروايات الصحيحة، ومحاولةِ القدح في بعض الرواة حتى لم يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقرب منه، بل أَرْبَى عليهم جميعًا كما تراه في (الطليعة)، ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى.