الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
النظر في مواليد الرواة، ووفياتهم، وطبقات شيوخهم؛ للتعيين، والجمع والتفريق، وغير ذلك
وفيه مطالب:
المطلب الأول
النظر في تأخر تدوين الوفيات، واختلاف الروايات فما وفاة بعض الصحابة، وكيف الترجيح في ذلك
• تعرض الشيخ المعلمي في ترجمة: أحمد بن محمد بن الصلت الحماني -الكذاب- من "التنكيل" إلى تاريخ وفاة ابن جزء الصحابي، وذلك أن ابن الصلت روى ما فيه لقاء أبي حنيفة لابن جزء، ولأبي حنيفة 18 سنة، يعني سنة 96 أو 98 - على الخلاف في سنة ميلاد أبي حنيفة، فنظر المعلمي في تلك القضايا المذكورة.
ففي ترجمة ابن الصلت من "ميزان الاعتدال"(555):
"في تاريخ نيسابور للحاكم:
…
أحمد بن الصلت الحماني، حدثنا محمد بن سماعة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، قال: حججت مع أبي، ولي ثمان عشرة سنة، فمررنا بحلقة، فإذا رجل، فقلت: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي ت.
قلت: هذا كذب؛ فابن جزء مات بمصر، ولأبي حنيفة ست سنين". اهـ.
قال الشيخ المعلمي:
"قال الأستاذ -يعني الكوثري-:
"تغافل الذهبي عن أن في مواليد رجال الصدر الأول ووفياتهم اختلافًا كثيرًا؛ لتقدمهم على تدوين كتب الوفيات بمدة كبيرة، فلا يُبَتُّ في أغلب الوفيات برواية أحد النَّقَلَةِ.
وها هو أُبي بن كعب رضي الله عنه من أشهر الصحابة، اختلفوا في وفاته من سنة 18 إلى سنة 32، والذهبي يصر على أن وفاته سنة 22 في كتبه جميعًا، مع أنه عاش إلى سنة 32، وشارك جمع القرآن في عهد عثمان، كما يظهر من طبقات ابن سعد.
وأين منْزلة ابن جزء من منْزلة أُبي، حتى يُبَتُّ بوفاةٍ تُروى له عن ابن يونس وحده، وقد قال الحسن بن علي الغزنوي: إن وفاته سنة 96، كما في "شرح المسند" لعلي القاري، ولعل ذلك هو الصواب في وفاته".
أقول: الجواب من وجوه:
الأول:
وقوع الاختلاف في ذلك في الجملة إنما هو بمنزلة وقوعه في أدلة الأحكام، لا يُبيح إلغاءَ الجميع جملةً، بل يؤخذ بما لا مخالفَ له، ويُنظر في المتخالِفَيْنِ، فيؤخذ بأرجحها، فإن لم يظهر الرجحانُ، أُخذ بما اتفقا عليه.
مثال ذلك: ما قيل في وفاة سعد بن أبي وقاص: سنة 51، 54، 55، 56، 57، 58، فإن لم يترجح أحدها، أُخذ بما دل عليه مجموعها: أنه لم يعش بعد سنة 58.
فإن جاءت روايةٌ عن رجلٍ أنه لقي سعدا بمكة، سنة 65 مثلًا، استنكرها أهلُ العلم، ثم ينظرون في السند، فإذا وجدوا فيه من لم تثبت ثقته، حملوا عليه.
فابنُ جَزء قيل في وفاته: سنة 85، 86، 87، 88، وأرجحها الثاني؛ لأنه قول ابن يونس مؤرخ مصر، وهي مع ذلك مجتمعة على أنه لم يعش بعد سنة 88.
فلما جاءت تلك الرواية أنه لُقِيَ بمكة سنة 96 أو 98، استنكرها أهل العلم، ووجدوا أحقَّ مَنْ يُحمل عليه: ابنُ الصلت.
فأما قول الغزنوي المتأخر: إن ابن جزء توفي سنة 99، فهو من نمط ما في "المناقب" للموفق (1/ 26)، روى من طريق الجعابي القصةَ، وفيها أن اللقاء كان سنة 96، ثم حكى عن الجعابي أن ابن جزء مات سنة 97.
فهذان القولان مع تأخر قائليهما، إنما حاولا بهما تمشيةَ القصة، رأيا أن فيها أن اللقاء كان بالموسم، وأن المعروف في وفاة ابن جزء أنها بمصر بقرية يقال لها سفط القدور، كما جاء عن الطحاوي، وأن من شهد الموسم لا يمكن أن يصل إلى مصر إلا في السنة التالية، فبنيا على ذلك، ولم تمكنهما الزيادة على ذلك؛ لئلا تفحش المخالفة لما نُقل عن المؤرخن جدًّا.
الوجه الثاني:
ابنُ جزء أقرب إلى عصر تدوين الوفيات من أُبي بن كعب؛ ففي "فهرست ابن النديم"(ص 281) أن لليث بن سعد تاريخًا، وتواريخ المحدثين مدارها على بيان الوفيات، والليث ولد سنة 94، ومات سنة 175، ومن أشهر شيوخه يزيد بن أبي حبيب المتوفى سنة 128، وهو أشهر الرواة عن ابن جزء.
وفي "تدريب الراوي" في شرح النوع الستين: "وقال سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ".
والثوري ولد سنة 97، ومات سنة 161، فيظهر أن البحث والسؤال عن الوفيات قد شُرع فيه في حياة الرواة عن ابن جزء، وهكذا غيره ممن تأخرت وفاته، فلم يكن
بين الباحث وبين الصحابي إلا رجل واحد، فيخبره عما أدركه، بخلاف الحال في متقدمي الوفاة كأُبيّ بن كعب.
الوجه الثالث:
كان الصحابة في عهد أُبي بن كعب متوافرين، فلم يكن لطلبة العلم كبيرُ حرصٍ على لقائه؛ لأنهم يجدون غيره من الصحابة، ويرون أنه إن مات لم يَفُتْهُم شيءٌ؛ لبقاء كثير من الصحابة، وهو لعلمه بذلك لم يكن يبذل نفسه، حتى نُسب إلى شراسة الخلق، فلعله لم يكن يتجشم لقاءه إلا ذوو الأسنان، فإذا نظرنا في الرواة عنه فلم نجد فيهم إلا من كان رجلًا في عهد عمر، لم يكن في ذلك دلالة بينة على أنه توفي في عهد عمر.
فأما ابن جزء فكان آخر الصحابة بمصر، فطلبة العلم بغاية الحرص على السماع منه؛ لأنهم يرون أنه إن مات لم يجدوا صحابيًا آخر، ونزلوا طبقة عظيمة، وهو لعلمه بذلك يبذل نفسه لتحديث من يريد أن يسمع منه، صغيرًا كان أم كبيرًا، كما كان سهل بن سعد يقول:"لو مت لم تسمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" كما في ترجمته من "الاستيعاب"، يحرضهم بذلك والله أعلم على السماع منه.
ولما مات أنس قال مورق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم. قيل كيف ذاك؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث، قلنا: تعال إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
فالظن بمن كان من طلبة العلم بمصر أنه إذا بلغ سنَّ الطلب في حياة ابن جزء، كان أهم شيء عنده أن يلقاه ويسمع منه، فلو عاش ابن جزء إلى سنة 97 أو 99، لكان في الرواة عنه من لم يبلغ سن الطلب إلا قبل ذلك بقليل، ولو كان فيهم من هو كذلك لاشتهر أمره لعلو سنده، ولما خفي على مثل ابن يونس وغيره ممن ذكر وفاة ابن جزء.
وقد تتبعت الرواة عن ابن جزء، فإذا آخرهم وفاةً: عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، توفي سنة 131، وقد روى عبيد الله أيضًا عن ناعم مولى أم سلمة، ووفاة ناعم سنة 80 على ما قيل ولم يذكروا خلافه.
الوجه الرابع:
لو حج ابن جزء سنة ست وتسعين أو ثماني وتسعين، وحَدَّث في الموسم، واجتمع الناس حواليه، كما تزعمه تلك الرواية، لكان من حضر الموسم من أهل العلم وطلبة الحديث أحرص الناس على لقائه والسماع منه؛ لأنه لم يبق حينئذٍ على وجه الأرض صحابي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث عنه إلا هو، على فرض صحة الرواية، ثم لتناقلوا ما يسمعون منه وتنافسوا فيه لِعُلُوِّهِ، ولا سيما ذاك الحديث المذكور في تلك الرواية:"من تفقه في دين الله كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب"، فإن فيه بشارة عظيمة لهم، وفضيلة بينة، وترغيبًا في طلب العلم، ولا يعرفونه من رواية غيره، فما بالنا لا نجد لذلك أثرًا إلا ما تضمنته تلك القصة؟
الوجه الخامس:
لو لم يكن فيما يدل على تأخر وفاة أُبيّ بن كعب إلا ما أشار إليه الأستاذ من الرواية التي عند ابن سعد، لاستنكرها أهل العلم، لكن لذلك شواهد وعواضد، منها ما روي عن عبد الرحمن بن أبزى أنه قال: "قلت لأُبي: لما وقع الناس في أمر عثمان يا أبا المنذر
…
"، ومنها ما روي عن زر بن حبيش أنه لقي أُبيًا في خلافة عثمان، ومنها ما روي عن الحسن البصري في قصةٍ أن أُبيًا مات قبل مقتل عثمان بجمعة.
فأما الرواية في لُقِيِّ ابنِ جزء بمكة سنة ست وتسعن أو ثماني وتسعين، فلا شاهد لها ولا عاضد.
فإن قيل: أرأيت لو وُجد لها شواهد وعواضد قوية، أتقبلونها؟
قلت: إن صح سندها، فنعم، وأي شيء في هذا؟
أرأيت من قامت عليه البينة العادلة بما يوجب القتل، أيدرأ عنه القتل أن يقال: لو وُجدت بينة عادلة بجرح الشهود لما كان عليه قتل؟.
الوجه السادس:
متأخرو الوفاة من الصحابة قد يقع الاختلاف في تاريخ وفاتهم، لكنه لا يكاد يكون التفاوت شديدًا، فعبد الله بن أبي أوفى سنة 86، 87، 88، وسهل بن سعد الساعدي سنة 88، 91، وأنس سنة 91، 93، 95، وأشد ما رأيته من التفاوت ما قيل في وفاة السائب بن يزيد، وذلك نادر مع أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وللسائب نحو سبع سنين، وعامة روايته عن الصحابة، وقد يرسل.
أما ابن جزء فروى عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعًا، ولم يذكروا له رواية عن غيره، فالحرص على السماع من ابن جزء محقق بخلاف السائب.
ثم قال الأستاذ: "على أن النبي صلى الله عليه وسلم تُوفي عمن يزيد على مائة ألف من الصحابة، ولم تحتو الكتب المؤلفة في الصحابة عُشر معشار ذلك، ولا مانع من اتفاق كثير منهم في الاسم واسم الأب والنسب، لا سيما المقلين في الرواية".
أقول: حاصل هذا أنه يُحتمل أن يكون هناك صحابي آخر، وافق عبدَ الله بن الحارث بن جزء الزبيدي في الاسم واسم الأب والنسب، فيكون هو الذي جاء في تلك القصة أن أبا حنيفة لقيه بمكة سنة 97 أو 98، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال لا يكفي لدفع الحكم، مع أنه قد عُلم مما تقدم في الوجه الرابع وغيره ما يدفع هذا الاحتمال.
فإن كان الأستاذ يشير بقوله: "في الاسم واسم الأب والنسب" ولم يذكر اسم الجد - إلى عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب، فذاك تابعي معروف.
ثم ذكر الأستاذ أن ابن عبد البر "نص على أن أبا حنيفة رأى أنس بن مالك وعبد الله بن جزء الزبيدي روايةً عن ابن سعد".
أقول: يحكي الذهبي (1) عن ابن سعد أنه روى عن سيف بن جابر عن أبي حنيفة أنه رأى أنسًا، ولم أر في "الطبقات" المطبوع لا ذا ولا ذاك، فلا أدري أفي كتاب آخر لابن سعد؟ أم حكاية مفردة رويت بسند، فإن كان الثاني فلا أدري ما حال ذاك السند، وكيف وقعت لابن عبد البر زيادة "وعبد الله بن جزء الزبيدي"، مع أني لم أعرف سيف بن جابر (2)، وما دام الحال هكذا فلا تقوم بذلك حجة، مع أن صنيع ابن عبد البر في "الاستيعاب" يقتضي أنه لم يعتد بما حكاه في "كتاب العلم" من رؤية أبي حنيفة لابن جزء، فانه قال في ترجمة أنس بعد أن ذكر أنه توفي سنة 91 و 92 و 93:"ولا أعلم أحدًا مات بعده ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا الطفيل"، وقال في ترجمة ابن جزء:"كانت وفاته بعد الثمانين، وقد قيل سنة ثمان أو سبع وثمانين، وقيل سنة خمس وثمانين". اهـ.
* * *
(1) تذكرة الحفاظ (1/ 168).
(2)
لعله أبو الموفق سيف بن جابر الجهني الذي ولي قضاء واسط في خلافة المأمون، بعد عبد العزيز بن أبان القرشي، جاء ذكره في "أخبار القضاة" لوكيع (1/ 361)، ولم أقف له على ترجمة.