الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية
إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل
؟
قال: (ص 73):
"قد يُنقلُ في راوٍ جرحٌ وتعديلٌ، ولكننا إذا بحثنا بمقتضى القاعدة السابقة (1) سقط أحدُهما، أو تَبَيَّنَ أنه إنما أُريد به ما لا يُخالف الآخرَ، فهاتان الصورتان خارجتان عن هذه القاعدة، فأما إذا ثبتَ في الرجل جرحٌ وتعديلٌ متخالفان، فالمشهور في ذلك قضيتان:
الأولى: أن الجرحَ إذا لم يُبَيَّنْ سببُه، فالعمل على التعديل، وهذا إنما يَطَّرِدُ في الشاهد؛ لأن مُعَدِّلَهُ يَعرف أن القاضي إنما يسأله ليحكمَ بقوله، ولأن شرطَه معرفتُه بسيرةِ الشاهدِ معرفةَ خبرة، ولأن القاضي يستفسرُ الجارحَ كما يجب، فإذا أَبَى أن يُفسرَ، كان إِباؤُهُ مُوهنًا لجرحه.
فأما الراوي، فقد يكون المُثْنِي عليه لم يَقصد الحُكمَ بثقته، وقد يكون الجرحُ متعلقًا بالعدالة، مثل "هو فاسق"، والتعديلُ مطلقٌ، والمُعَدِّلُ غيرُ خبيرٍ بحالِ الراوي، وإنما اعتمد على سَبْرِ ما بلغه من أحاديثه؛ وذلك كما لو قال مالك في مدني:"هو فاسق"، ثم جاء ابن معين فقال:"هو ثقة".
وقد يكون المُعَدِّلُ إنما اجتمع بالراوي مدةً يسيرةً، فَعَدَّلَهُ، بناء على أنه رأى أحاديثه مستقيمة، والجارحُ من أهل بلدِ الراوي؛ وذلك كما لو حجَّ رازيٌّ، فاجتمع به ابن معين ببغداد، فسمع منه مجلسًا، فوثقه، ويكون أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان قد قالا فيه:"ليس بثقة ولا مأمون".
(1) هي قاعدة: "كيف البحث عن أحوال الرواة" وقد سبق نقلها في أول هذه المباحث.
ففي هذه الأمثلة لا يَخفى أن الجرحَ أَوْلَى أن يُؤخذَ به.
فالتحقيقُ أن كُلًّا من التعديل والجرح الذي لم يُبَيِّنْ سببُه يَحتملُ وقوعَ الخلل فيه، والذي ينبغي أن يُؤخذ به منها: هو ما كان احتمالُ الخللِ فيه أبعدَ من احتماله في الآخر، وهذا يختلفُ ويتفاوتُ باختلافِ الوقائع.
والناظرُ في زماننا لا يكادُ يتبينُ له الفَصْلُ في ذلك إلا بالاستدلال بصنيع الأئمة؛ كما إذا وجدنا البخاريَّ ومسلما قد احتجا أو أحدُهما براوٍ، سَبَقَ مِمَّنْ قَبلهما فيه جرحٌ غيرُ مُفَسَّرٍ، فإنه يَظهرُ لنا رُجحانُ التعديلِ غالبا، وقِسْ على ذلك، وهذا تفصيلُ ما تقدَّمَ في القاعدة الخامسة عن ابن الصلاح وغيره.
لكن ينبغي النظرُ في كيفية رواية الشيخين عن الرجل؛ فقد يَحْتَجَّانِ أو أحدُهما بالراوي في شيء دون شيء، وقد لا يَحْتَجَّانِ بن وإنما يُخرجان له ما تُوبع عليه، ومن تتبع ذلك، وَأنْعَمَ فيه النظرَ، عَلم أنهما في الغالب لا يُهملان الجرحَ البَتَّةَ، بل يحملانِه على أمرٍ خاصٍّ، أو على لِينٍ في الراوي، لا يَحُطُّهُ عن الصلاحية به فيما ليس مظنةَ الخطأ، أو فيما تُوبع عليه ونحو ذلك، راجع الفصل التّاسع من "مقدمة فتح الباري".
القضية الثانية: أن الجرح إذا كان مفسَّرا فالعملُ عليه، وهذه القضية يُعرف ما فيها بمعرفة دليلها، وهو ما ذكره الخطيب في "الكفاية" ص 105 قال:
"والعلة في ذلك أن الجارح يُخبر عن أمرٍ باطنٍ قد عَلمه، ويُصَدِّقُ المُعَدِّلَ، ويقول له: قد علمتُ من حاله الظاهرةِ ما علمتَها، وتفردتُّ بعلمٍ لم تعلمْه من اختبار أمره، اخبارُ المعدِّلِ عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدقَ قولِ الجارح.
ولأنَّ مَنْ عَمل بقول الجارح لم يَتَّهِمْ المُزَكِّي، ولم يُخْرِجْهُ بذلك عن كونه عدلًا، ومتى لم نَعملْ بقول الجارح كان في ذلك تكذيبٌ له ونقضٌ لعدالته، وقد عُلم أن حاله في الأمانة مخالفةٌ لذلك".
أقول: ظاهرُ كلام الخطيب أن الجرحَ المُبَيَّنَ السبب مقدمٌ على التعديل، بل يظهر مما تقدم عنه في القاعدة الخامسة من قبول الجرح المجمل إذا كان الجارح عارفًا بالأسباب واختلاف العلماء: أن الجارح إذا كان كذلك، قُدِّمَ جرحُه الذي لم يُبين سببه على التعديل.
لكنَّ جماعةً من أهل العلم قَيَّدُوا الجرحَ الذي يُقدم على التعديل بأن يكون مفسرًا، والدليل المذكور يُرشد إلى الصواب؛ فقولُ الجارح العارف بالأسباب والاختلاف:"ليس بعدل"، أو:"فاسق"، أو:"ضعيف" أو: "ليس بشيء"، أو:"ليس بثقة"، هل يجب أن لا يكونَ إلا عن علمٍ بسببٍ موجبٍ للجرح إجماعًا؟
أَوَ لا يحتمل أن يكون جَهِلَ أو غَفَلَ أو ترجح عنده مالا نوافقه عليه؟ أَوَليس في كل مذهبٍ اختلافٌ بين فقهائه فيما يوجب الفسق؟
فإن بَيَّنَ السببَ، فقال مثلًا:"قاذف"، أو قال المُحَدِّثُ:"كذاب"، أو:"يَدَّعِي السماعَ ممن لم يسمع منه"، أَفليس إذا كان المتكلَّمُ فيه راويًا، قد لا يكون المتكلِّمُ قصد الجرحَ، وإنما هي فلتةُ لسانٍ عند ثورةِ غضبٍ، أو كلمةٌ قصد بها غيرَ ظاهرها بقرينة الغضب؟
أوَ لم يختلف الناس في بعض الكلمات: أقذفٌ هي أم لا؟ حتى إن فقهاء المذهب الواحد قد يختلفون في بعضها.
أَوَليس قد يستندُ الجارح إلى شُيوع خبرٍ قد يكونُ أصلُه كذبةَ فاجرٍ، أو قرينةً واهيةً، كما في قصة الإفك؟
وقد يستند المحدث إلى خبرِ واحدٍ يراه ثقةً، وهو عند غيره غير ثقة.
أَوَليس قد يَبني المحدثُ كلمةَ "كذاب" أو "يضع الحديث" أو "يدعي السماع ممن لم يسمع منه" على اجتهادٍ يحتملُ الخطأ؟
فإن فَصَّلَ الجارحُ القذفَ، أفليس قد يكون القذفُ لمستحقه (1)؟
أَوَليس قد يكون فلتةَ لسانٍ عند سورةِ غضبٍ، كما وقع من محمد بن الزبير أو من أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، على ما رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة، وكما وقع من أبي حصين عثمان بن عاصم فيما ذكره وكيع، وإن كانت الحكاية منقطعة؟
إذا تدبرت هذا، علمتَ أنه لا يستقيم ما استدل به الخطيب إلا حيث يكون الجرحُ مبينًا مفسرًا مثبتا مشروحًا بحيث لا يظهر دفعه إلا بنسبة الجارح إلى تعمد الكذب، ويظهر أن المعدِّلَ لو وقف عليه لما عَدَّلَ، فما كان هكذا فلا ريب أن العمل فيه على الجرح، وإن أكثر المعدِّلُون، وأما ما دون ذلك، فعلى ما تقدم في القضية الأولى (2) ". اهـ.
* * *
(1) يعني أن يكون المقذوف قد أتى ما يستحق به القذف، إلا أن القاذف لم يستطع إقامة البينة المطلوبة على ذلك.
(2)
يعني أنه ينبغي أن يؤخذ بما كان احتمالُ الخللِ فيه أبعدَ من احتماله في الآخر.