الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: تصحيح الكتاب
يطلق التصحيح على عملين:
الأول: تصحيح الكتاب التصحيح العلمي بنفي ما في الأصل أو الأصول من الخطأ وترتيب مسودة صحيحة.
الثاني: تصحيح الطبع بنفي ما يقع في تركيب حروف الطبع من الخطأ المخالف لما في المسودة، وتطبيق المطبوع على المسودة المصححة، وقد يخلط هذان العملان بأن لا تكون هناك مسودة مصححة بل يحاول القائمان بتصحيح الطبع أن يقوما بالتصحيح العلمي حال تصحيح الطبع، وهذا تهويش لا يصلح لوجوه، منها:
أن التصحيح العلمي يستدعي التثبت والمراجعة، فمقدار العمل غير معين، فقد لا يمكن المصحح أن يصحح في اليوم إلا صفحة واحدة، ومثل هذا لا يتأتى وقت الطبع؛ لأنه لابد وقت الطبع من تقدير العمل بثماني صفحات في اليوم أو أكثر؛ لئلا يبقى عمال المطبعة بغير عمل.
ومنها: أنه كثيرا ما يمر المصحح بالخطأ ولا يتنبه له أو لا يهتدي لصوابه ثم يرد عليه في الكتابه نفسه أو فيما يراجعه بعد ذلك ما يرشده إلى الصواب، فالمصحح في المسودة إذا وقع لي مثل هذا عاد فأصلح ما تركه، ولا يمكن هذا في التصحيح وقت الطبع لأن الكراسة التي تقدم فيها الخطأ تكون قد طبعت وفرغ منها.
ومنها: أنه يكثر لأجل التصحيح التغيير والإصلاح وتعليق الحواشي، وهذا إذا تجدد وقت الطبع شق على مركبي الحروف واستدعى وقتا زائدا، فلا يمكن مع الوفاء به توفية المقدار المقرر للطبع، وربما يشتغل المصحح بالتصحيح ويشتغل
الطابعون بالطبع، فكلما فرغ من كراسة سلمها إليهم للطبع، وهذا أقرب من الذي قبله، ولكنه ليس بجيد؛ لأن فيه تضييق الوقت على المصحح إذ يلزمه أن يصحح كل يوم المقدار الذي يكفي للطبع في اليوم الثاني مثلًا، وهذا لا يتأتى له مع الوفاء بحق التصحيح إذ قد لا يمكنه أن يتقن في اليوم إلا تصحيح صفحة واحدة.
فالصواب أن لا يشرع في طبع الكتاب حتى يتم تصحيحه أو على الأقل تصحيح قطعة كبيرة منه يغلب على الظن أن الطابعين لا يفرغون من طبعها حتى يفرغ المصحح من بقية الكتاب أو قطعة أخرى كبيرة منه على الأقل.
هذا وقد اصطلح المصريون أخيرا على تسمية التصحيح العلمي "تحقيقا" تمييزًا له عن التصحيح الطباعي، وإلا وضح التمييز بالصفة كما ترى، وهذا الباب معقود للتصحيح العلمي كما علمت وفيه مباحث.
المبحث الأول: في الحاجة إليه:
هاهنا آراء، الأول:
يرى بعض الناس أن الكتب القديمة التي لم تطبع إذا وجدت منها نسخة قديمة جيدة في الجملة كفى في إحياء الكتاب ونشره أن يطبق المطبوع على تلك النسخة؛ لأن المهم إنما هو تدارك ذاك الكتاب، فإذا طبق المطبوع على تلك النسخة ثم طبع منه ألف نسخة فكأنه قد حصل من أمثال تلك النسخة ألف نسخة، وكل من وقع له نسخة من المطبوع كأنه وقعت له تلك النسخة القلمية نفسها.
وقد طبع المستشرقون أنساب السمعاني بالزنكوغراف ونشروه، فانتفع الناس به وراجت نسخه على غلاء ثمنها مع ما فيه من الأغلاط الكثيرة. وفي هذا الصنيع تقليل للعمل وتوفير للنفقات؛ وذلك مما يرغب ملتزمي الطبع في طبعها، فيسهل اقتناؤها على الراغبن مع الوفاء بالأمانة كما ينبغي، فإن كان هناك في الأصل أغلاط فكل عالم تقع له نسخة من المطبوع يصحح لنفسه.
أقول: أما إذا كان الطبع بالزنكوغراف كما طبع أنساب السمعاني فإن الأمر كما وصف؛ لأن في هذا الصنيع مفسدة؛ وهي أن الباعث على طبع الكتب القديمة أحد أمرين، إما طلب الربح وهو الغالب، وإما الرغبة في نشر ذاك الكتاب خدمة للعلم، أو إظهارا لفضل مؤلفه أو غير ذلك.
فإذا طبع الكتاب مرة ضعفت الرغبة في طبعة مرة أخرى. أما طالب الربح فإنه لا يرجو ربحا في الطبع مرة أخرى؛ لأنه يرى أن أكثر الراغبين في اقتناء الكتاب قد استغنوا بالطبعة الأولى. وأما الراغب في نشر الكتاب فإنه يرى أنه قد انتشر بالطبعة الأولى.
فطبع الكتاب من شأنه أن يحرم أهل العلم بقية نسخه الصحيحة إلى أمد طويل على الأقل كما هو الشأن في أنساب السمعاني، فإن نسخه القلمية موجودة في مكاتب العالم ولم تتجه الرغبات إلى طبعه بعد تلك الطبعة إلى الآن مع حاجة كثير من أهل العلم إلى ذلك لما يجدونه في تلك الطبعة من النقص والخلل.
نعم إذا كانت النسخة القلمية المطبوع عنها بغاية الجودة والصحة فالطبع عنها بالزنكوغراف وافٍ بالمقصود، بل هو أولي من الطبع عنها وعن غيرها بالحروف؛ لأن الطبع بالحروف لا تخلو من تصرف النساخ والمصححين والمركبين فلا يوثق كل الوثوق بمطابقته للأصل القلمي الموثوق به كما يوثق بمطابقة المطبوع بالزنكوغراف.
أما إذا كان الطبع بالحروف على هذا الرأي ففيه مع المفسدة المذكورة مفسدة أكبر؛ وهي أنه لا يمكن فيه تطبيق المطبوع على الأصل القلمي لوجوهٍ، منها:
أن من الحروف ما تتحد صورها وإنما يميز بينها النقط كما مر تفصيله في المقدمة، والأصول القلمية كثيرًا ما يهمل فيها النقط، ولا يمكن تطبيق ذلك في الطبع بالحروف كما إذا وقعت في الأصل كلمة "مفيد" بلا نقط، واحتملت أن يكون "مفيد" أو "مفند" أو "مفتد" أو "مقيد" أو "مقيد" أو غير ذلك، فكيف تطبع؟
ومنها: أنه قد يقع الاشتباه في النسخة في موضع النقط فيحتمل أن يكون على هذا الحرف أو الذي يليه في السطر الأسفل، وهذا لا يتأتى تصويره في الطبع بالحروف.
ومنها أنه قد تشتبه النقطتان بالفتحة أو الكسرة وتشتبه كل من (ب ت ث ن ي) في الابتداء بالميم، وأحدها يليه ميم في الابتداء بالعين والغين، وأحدها في الأثناء، وكذا العين والغين بالفاء والقاف، تشتبه الزاي بالنون، والدال بالراء والزاي، وتشتبه الفاء والقاف مفردتين أو في الأخير بالنون، إلى غير ذلك مما يكثر جدًّا، فلا يتأتى التطبيق في الطبع بالحروف.
فإن قيل يترك في المطبوع في مواضع الاشتباه بياض، أو يطبع كما اتفق وينبه في الحاشية على الواقع ويشرح فيه بالعبارة الصورة التي وقعت في الأصل حتى كأنها مشاهدة، فيدفعه أنه قد يكثر في النسخة الاشتباه فتكثر هذه الحواشي وتزيد نفقات الطبع، على أن بعض الكلمات المشتبهة تحتاج في شرح صورتها بالعبارة إلى أسطر، وقد يقع الاشتباه على وجه لا يمكن بيانه بالعبارة، وإن قيل أما هذه المواضع فيبحث فيها عن الصواب وتثبت في المطبوع على الصواب، فقد رجعتم إلى التصحيح العلمي.
والغالب أن ملتزم الطبع الذي عزم على طبع الكتاب بمجرد التطبيق على الأصل إنما يكل العمل إلى من تقل أجرته، والغالب أنه لا يكون أهلًا للتصحيح العلمي فيخبط خبط عشواء.
فإن كان أهلًا للتصحيح فلماذا لا يكلف التصحيح الكامل فتتم الفائدة وتحسن سمعة المطبعة ويوفي بحق العلم.
ومن المفاسد أن من عادة المطبوعات التصحيح في الجملة، فالعالم إذا رأى المطبوع ظن أنه مصحح فاعتمد عليه، ولا كذلك في النسخ، على أنه أنما اقتصر فيه على التطبيق على النسخة.
قلت: كفى بهذا حَطًّا لقيمة المطبوع وتزهيدا للناس فيه، ولهذا لا تجد مطبوعًا إلا ويدعي طابعه أنه اعتنى بتصحيحه وبالغ، رغما عن أن كثيرا منها مشحون بالأغلاط، وهذه الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير بمطبعة الميمنية بمصر، فتثبت في طرة كل من أجزائها الثلاثين بعد ذكر أن الكتاب طبع عن نسختين:(وقد بذلنا الطاقة في تصحيحها ومراجعة ما يحتاج إلى المراجعة من مظانه الموثوق بترجيحها مع عناية جمع من أفاضل علماء مصر بالتصحيح تذكر أسماؤهم في آخر الكتاب).
ولم أر في آخر الكتاب اسم أحد من العلماء إلا مصححه محمد الزهري الغمراوي. فكأن هذا الرجل هو القائل "قد بذلنا
…
" وهو نفسه الجمع من علماء مصر، وما زعمه من مراجعة المظان لا يكاد يظهر له أثر في الكتاب على طوله، وكذلك المقابلة على نسختين، فإن المطبوع مشحون بالأغلاط، وكثير منها جدًّا يبعد أن يتفق عليه أصلان، وكثير منها جدًّا يمكن تصحيحه بأدنى مراجعة للمظان والله المستعان.
بل إن في المطبوعات الحديثة بمصر ما يقارب هذا.
ومن المفاسد أن يكثر في الأصول القلمية الأغلاط الواضحة، فإن قيل: يطبع كذلك، كان ذلك مما يرغب الناس عن المطبوع وشيء سمعة المطبعة جدًّا، وإن قيل: أما هذا فيصحح، فقد رجعتم إلى التصحيح، ثم إن كان الموكول إليه ذلك أهلًا للتصحيح فلماذا لا يكلف التصحيح الكامل، وإن لم يكن أهلًا كان في ذلك مفسدة أعظم؛ فإن القاصر يحسب كثيرًا من الصواب خطأ واضحا كما يعرفه من ابتلي بالتصحيح من أهل العلم مع هذا الضرب، فالإذن للقاصر بتصحيح ما يراه خطأ واضحًا نتيجته أن يضاف في المطبوع أغلاط كثيرة إلى أكثر أغلاط الأصل القلمي مع إيهام أنها فيه.
الرأي الثاني:
يظهر من تصفح كثير من الكتب المطبوعة أن طابعيها يرون قريبًا من الرأي الأول، إلا أنهم لا يقدمون على طبع كتاب حتى تحصل لهم نسختان فأكثر، فتجعل واحدة أصلًا، وينبه في الحواشي على مخالفات الأخرى.
وهذا الرأي في معنى الأول، إلا أنه يخف فساده إذا كانت النسختان أو النسخ كلها واضحة الخط جيدة الصحة، وجعلت الأجود أصلًا، لكن الجودة الموثوق بها في النسخ القلمية عزيزة، ومع ذلك فعند الاختلاف قد يتفق أن يثبت الخطأ في المتن والصواب في الحاشية وهو خلاف ما ينبغي، وقد يسأم المصحح من كثرة الاختلاف فيغفل كثيرًا منه، وملتزم الطبع قد يحض على تقليل الحواشي لتخف النفقات، والغالب أن يوكل إلى المصحح أن يقتصر على إثبات الاختلافات المهمة، فإن لم يكن أهلًا للتصحيح العلمي خبط خبط عشواء فكثيرا ما يثبت في المطبوع الأغلاط الفاحشة ويكون الصواب في بعض النسخ القلمية ولكنه أغفله لتوهمه أنه هو الخطأ.
الرأي الثالث:
كالذي قبله، إلا أنه يزيد بمراجعة كثير من المظان من الكتب الأخرى، وينبه على الاختلافات، والحال في هذا كالذي قبله.
الرأي الرابع:
يظهر من تصفح كثير من المطبوعات أنه اعتمد فيها التصحيح العلمي إلا أن مصححيها أغفلوا التنبيه على ما خالفوا فيه الأصل أو بعض الأصول واقتصروا على إثبات ما رأوه الصواب، وفي هذا خلل من جهات:
الأولى:
أننا نقطع أن مصححي تلك الكتب لم يكن عندهم دليل على صحة جميع ما أثبتوه في المطبوع، بل لا بد أن يكونوا أثبتوا كثيرًا لأنه كذلك في الأصل أو الأصلين فأكثر ولم يقم عندهم دليل على خطأه، فعلى هذا لا يتميز للناظر في المطبوع ما كان ثابتًا في الأصول مما كان الثابت فيها خلافه، ولكن المصحح قضى عليه بأنه خطأ، وإذا لم يتميز ذا من ذاك ضعفت الثقة بالمطبوع، فإنها إذا اختلفت الكتب القلمية في كلمة مثلًا ولم نظفر بدليل كان الراجح ما في الأكثر، والنسخة القلمية أرجح عند العالم من مطبوعة هذا الطبع؛ لأن من شأن النساخ اتباع الأصول، ومن شأن المصححين التصرف، وإذا لم يشتهر المصحح بسعة العلم والضبط والتثبت لم يوثق برأيه.
ويزيد الاعتماد على ما طبع هذا الطبع ضعفا أن العالم يجد فيه غير قليل من الأغلاط، وبعضها مما يبعد توارد النسخ عليه، بل لقد يظهر في بعضها أنه لم يكن في أصل قلمي قديم، وهذا يدل على أن المصحح ليس بالصفة التي تسوغ أن يعتمد عليه.
الجهة الثانية:
أنه يمتنع عادة أن لا تختلف النسخ، وإذا اختلفت فيمتنع عادة أن يتبين الصواب للمصحح في جميع المواضع بيانًا واضحًا يسوغ له أن يهمل معه التنبيه على الخلاف، بل لا بد أن يتردد في مواضع ويترجح لديه أحد الوجهين أو الأوجه في بعض المواضع رجحانا ضعيفًا، وفي هذين يجب التنبيه على الخلاف، فإذا لم يوجد بهامش المطبوع عن أصلين فأكثر شيء من التنبيه على اختلاف النسخ، أو وجد قليلًا جدًّا ظهر أن مصححيه أهملوا هذا الواجب.
الجهة الثالثة:
أن في طبع الكتاب ونشره إتلافا لأكثر نسخة القلمية؛ لأن الناس يستغنون بالمطبوع، فتنزل قيمة النسخ القلمية جدًّا، فيضعف الاعتناء بحفظها، فيسرع إليها التلف، ويتلف معها كثير من الفوائد التي أهملت في المطبوع، فمن الحق على من يتعاطى طبع كتاب أن يحرص على جميع نسخه الجيدة واستيفاء ما فيها مما يحتمل أن يكون له فائدة، من ذلك أكثر الاختلافات بينها.
* * *