الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
اختبار الواقع العملي لحال الراوي، كاستقامة مروياته، ومدي حظوته بقبول معاصريه من المحدثين وأهل العلم؛ لتوجيه بعض ما يَحتاج إلى توجيه مما قيل فيه من جرح
• في ترجمة: إبراهيم بن سعيد الجوهري من "الطليعة"(ص 45) و"التنكيل"(5): قال الشيخ المعلمي:
"إبراهيم بن سعيد الجوهري، هو من شيوخ مسلم في (صحيحه) ومن كبار الحفاظ، قال فيه أحمد بن حنبل: "كثير الكتاب، كتب فأكثر" وقال الكوثري نفسه ص 151:"كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول: كل حديث لم يكن عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم".
وكان من عادةِ المكثرين أن يترددوا إلى كبار الشيوخ؛ ليسمعوا منهم، فربما جاء أحدهم إلى شيخٍ، قد سمع منه ما لم يسمعه مِنْ قَبل، فيتفق أن يشرعَ الشيخُ يحدثُ بجزءٍ، قد كان ذاك المكثر سمعه منه قيل ذلك، فلا يعتني باستماعه ثانيًا أو ثالثًا؛ لأنه يرى ذلك تحصيلَ حاصلٍ، فكأنه اتفق لإبراهيم هذا واقعة من هذا القبيل.
فحكى عبد الرحمن بن خراش قال: سمعت حجاج بن الشاعر يقول: رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم، وأبو نعيم يقرأ، وهو نائم - وكان الحجاج يقع فيه.
.. فعبارةُ حجاجٍ تحتمل ما قدمنا، ليس فيها ما يدل على أن إبراهيم صار بعد ذلك المجلس يروي عن أبي نعيم أحاديثَ، يزعم أنه تلقاها في ذاك الوقت الذي كان إبراهيم فيه نائما.
وكلمة حجاج لا تقتضي إلا مرة واحدة، وأما قول ابن خراش:"وكان حجاج يقع فيه" فإن عَني تلك الكلمة، بان حالُها، وإن عناها وغيرَها، فالوقيعة في الإنسان معناها مطلقُ الذمِّ، كأن يكون قال مرة تلك الكلمة، وقال مرة: لم يكن بالذكي، وقال أخرى: مغرمٌ بالكتابة عن كُلِّ أحدٍ لِيُقالَ: مكثر، ونحو ذلك من الكلمات التي لا توجب جرحا". اهـ.
• وفي ترجمة حاجب بن أحمد الطوسي من "التنكيل"(67):
(قال مسعود بن علي السجزي: سألت الحاكم عنه فقال)(1): "لم يسمع حديثا قط ، لكنه كان له عمٌّ قد سمع، فجاء البَلاذُري إليه فقال: هل كنت تحضر مع عمك في المجلس؟ قال: بلى، فانتخب له من كتب عمِّهِ تلك الأجزاء الخمسة.
وقال الحاكم في (تاريخه): بلغني أن شيخنا أبا محمد البلاذري كان يشهد له بِلُقِيّ هؤلاء، وكان يزعم أنه ابن مائة وثماني سنين، سمعت منه ولم يصل إلي ما سمعت منه
…
".
قال الشيخ المعلمي:
"فظهر بهذا أن قوله أولًا: "لم يسمع حديثا قط" إنما أراد به أنه لم يتصد للسماع بنفسه ، وإنما كان عمُّه يُحضره معه مجالس السماع (2)، والبَلاذُرى حافظٌ أثنى عليه الحاكم، انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص: 101)، ولم يغمزوا حاجبًا في عدالته، ولا أنكروا عليه شيئًا من مروياته، ويؤخذ مما تقدم أنه إنما كان يروي تلك الأجزاء التي انتخبها له البلاذري من أصول عمِّهِ لم يتعدها، وأحاديثه في (سنن البيهقي) أحاديث معروفة تدل على صدقه وأمانته، وقد روى عنه ابن منده ، والقاضي أحمد
(1) من كتب الذهبي.
(2)
وهذا واضح بحمد الله، لكن قال الذهبي في "سير النبلاء" (15/ 337): واتهمه الحاكم، وقال: لم يسمع شيئًا، وهذه كتب عمه. كذا قال الذهبي، وفيه نظر.
ابن الحسن الحرشي، وهما من الثقات الأثبات
…
" (1).
• وفي ترجمة: عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري من "التنكيل"(149):
قال ابن الجوزي في ترجمة أبي الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث:
"العكبري لم يكن من أهل الحديث والعلم، إنما كان يعرف شيئًا من الحديث
…
وكان معتزليًا يقول: إن الكفار لا يخلدون في النار
…
فمن كان اعتقاده يخالف إجماع المسلمين فهو خارج عن الإسلام، فكيف يُقبل جرحه؟. وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: كان ابن برهان يميل إلى المرد ويقبلهم".
وقال في ترجمة عبد الواحد من "المنتظم"(ج 8 ص 236):
"
…
وذكر محمد بن عبد الملك: كان ابن برهان يميل إلى المرد الصباح، ويُقَبِّلُهُم من غير ريبة. وقوله: من غير ريبة، أقبح من التقبيل، لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهوة، فهل يكون التقبيل بغير شهوة".
وفي "لسان الميزان"(4/ 82): "
…
وقد بالغ محمد بن عبد الملك الهمذاني في "تاريخه" فقال: كان يمشي مكشوف الرأس، وكان يميل إلى المردان من غير ريبة، ووقف مرة على مكتب عند خروجهم، فاستدعى واحدًا واحدًا فيقبله ويدعو له ويسبح الله، فرآه ابن الصباغ، فدَسَّ له واحدًا قبيح الوجه فأعرض عنه، وقال: يا أبا نصر، لو غيرك فعل بنا".
(1) وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" الطبقة (34): وقال أبو نصر بن ماشاذة: قلت للحافظ أبي عبد الله ابن مندة: ما تقول في حاجب بن أحمد؟ فقال: هو ثقة ثقة.
وقال ابن حجر في "اللسان"(1/ 146): وقد رأيت ابن طاهر روى حديثًا من طريقه، وقال عقبه:"رواته أثبات ثقات".
وفي ترجمة عبد الواحد من "تاريخ بغداد"(11/ 17):
"كان يُذكر أنه سمع من أبي عبد الله ابن بطة وغيره، إلا أنه لم يرو شيئًا، وكان مضطلعًا بعلوم كثيرة، منها: النحو، واللغة، ومعرفة النسب، والحفظ لأيام العرب، وأخبار المتقدمين، وله إنس شديد بعلم الحديث".
فقال الشيخ المعلمي:
"فقد كان ابن برهان على بدعته من أهل العلم والزهد والمنزلة بين العلماء، ومحمد ابن عبد الملك الهمذاني لا أعرف ما حاله؟ وقد ذكر ابن حجر أنه بالَغَ.
وقد تصرف ابن الجوزي في عبارة الهمذاني؛ ففي موضعٍ زاد فيها: "ويقبلهم"، وحذف:"من غير ريبة"، وفي موضعٍ زاد:"الصباح فيقبلهم"، وإنما أخذ الصباحة والتقبيل من قصة المكتب.
وقد كان ببغداد في ذاك العصر عددٌ كثيرٌ من مشاهير العلماء، ما منهم إلا من يُخالفُ عبدَ الواحد في العقيدة والمذهب أو أحدهما.
وكان عبدُ الواحد على غاية الصيانة؛ ذكروا أنه: "لما ورد الوزيرُ عميدُ الدين إلى بغداد، استحضره، فأعجبه كلامه، فعرض عليه مالًا، فلم يقبله، فأعطاه مصحفًا بخَطِّ ابنِ البواب وعكازةً حُملت إليه من الروم مليحة، فأخذهما، فقال له أبو علي ابن الوليد المتكلِّم: أنت تحفظ القرآن وبيدك عصا تتوكأ عليها، فلم تأخذ شيئًا فيه شبهة؟
فنهضَ ابنُ برهان في الحال إلى قاضي القضاة ابن الدامغاني، وقال له: لقد كدتُ أهلكُ، حتى نبهني أبو علي بن الوليد، وهو أصغر سنًا مني، وأريد أن تعيد هذه العكازة والمصحف على عميد الدين فما يصحباني، فأخذهما وأعادهما عليه".
أفما كان في ذاك الجمِّ الغفيرِ من أهل العلم مَنْ يُنكرُ على ابن برهان ما نَسبه ابنُ الجوزي إليه؟!
وما كان فيهم من يَعيبه بذلك على الأقل؟ مع مخالفتهم له كما سلف، فما بالنا لا نعرف عنهم كلمة واحدة في ذلك إلا تلك الشاذة من ذاك الهمذاني؟
وليس المقصودُ رَدَّ كلمةِ الهمذاني، وإنما المقصودُ تجريدُها عما فيها من المبالغة التي أشار إليها ابن حجر
…
". اهـ.
• وفي ترجمة: أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك أبي بكر القطيعي منه (12):
قال الكوثري: "مختلط فاحش الاختلاط .... ".
فقال الشيخ المعلمي:
"قضية الاختلاط ذكرها الخطيب في (التاريخ) ج 4 ص 73، قال: "حُدِّثْتُ عن أبي الحسن ابن الفرات .... ، وذكرها الذهبي في (الميزان) عن ابن الصلاح قال:"اختل في آخر عمره حتى كان لا يعرف شيئا مما يُقرأ عليه ، ذكر هذا أبو الحسن ابن الفرات".
والظاهر أن ابن الصلاح إنما اخذ ذلك مما ذكره الخطيب، ولا ندري مَن حدث الخطيب، ومع الجهالة به لا تثبت القصة، لكن ابن حجر شدها بأن الخطيب حكى في ترجمة أحمد بن أحمد السيبِي أنه قال:"قدمت بغداد وأبو بكر بن مالك حي .... فقال لنا ابن الفرضي: لا تذهبوا إلى ابن مالك، فإنه قد ضعف واختل ومنعت ابني السماع منه".
وهذه الحكاية في (التاريخ) ج 4 ص 4، لكن ليس فيها ما في تلك المنقطعة مما يقتضي فحش الاختلاط.
وقد قال الذهبي في (الميزان) بعد ذكر الحكاية الأولى: "فهذا القول غلو وإسراف".
أقول: ويدل على أنه غلو وإسراف أن المشاهير من أئمة النقد في ذلك العصر كالدارقطني والحاكم والبرقاني لم يذكروا اختلاطًا ولا تغيرًا.
وقد غمزه بعضهم بشيء آخر قال الخطيب: "كان بعض كتبه غرق، فاستحدث نسخها من كتابٍ لم يكن فيه سماعه، فغمزه الناس، إلا أنا لم نر أحدًا امتنع من الرواية عنه ولا ترك الاحتجاج به، وقد روى عنه من المتقدمين: الدارقطني وابن شاهين .... سمعت أبا بكر البرقاني سئل عن ابن مالك، فقال: كان شيخًا صالحًا .... ثم غرقت قطعة من كتبه بعد ذلك، فنسخها من كتابٍ ذكروا أنه لم يكن سماعه فيه، فغمزوه لأجل ذلك، وإلا فهو ثقة".
قال الخطيب: "وحدثني البرقاني قال؛ كنت شديد التنقير عن حال ابن مالك، حتى ثبت عندي أنه صدوق لا يُشك في سماعه، وإنما كان فيه بُلْه، فلما غرقت "القطيعة" بالماء الأسود، غرق شيء من كتبه، فنسخ بدل ما غرق من كتابٍ لم يكن فيه سماعه".
أقول؛ أجاب ابن الجوزي في (المنتظم) ج 7 ص 93 عن هذا بقوله: "مثل هذا لا يطعن به عليه؛ لأنه يجوز أن تكون الكتب قد قُرأت عليه، وعُورض بها أصلُه، وقد رَوى عنه الأئمة، كالدارقطني وابن شاهين والبرقاني وأبي نعيم والحاكم".
أقول: وقال الحاكم "ثقة مأمون"،
…
والذين ذكروا الاستنساخ لم يذكروا أنه رَوى مما استنسخه، ولو علموا ذلك لذكروه؛ لأنه أَبْيَنُ في التليين، وأبلغ في التحذير، وليس من لازم الاستنساخ أن يروي عما استنسخه، ولا أن يعزم على ذلك، وكأنهم إنما ذكروا ذلك في حياته لاحتمال أن يروي بعد ذلك عما استنسخه، وقد قال الخطيب في (الكفاية) ص 109: "ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة، وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وإن لم يكن الذي سمعه موجبًا لرد الحديث ولا مسقطًا للعدالة، ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حيًا أن يحمله على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتًا أن ينزله من ثقل عنه منزلته، فلا يلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز. ومنهم
من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده حتى ينظر هل من أخوات ونظائر
…
".
فلما ذكروا في حياة القطيعي أنه تغير، وأنه استنسخ من كتاب ليس عليه سماعه، كان هذا على وجه الاحتياط، ثم لما لم يذكروا في حياته ولا بعد موته أنه حدَّث بعد تغير شديد، أو حدَّث مما استنسخه من كتابٍ ليس عليه سماعه، ولا استنكروا له روايةً واحدةً، وأجمعوا على الاحتجاج به كما تقدم، تبين بيانًا واضحًا أنه لم يكن منه ما يخدش في الاحتجاج به.
هذا وكتب الإمام أحمد كـ "المسند" و"الزهد" كانت نُسَخُها مشهورة متداولة، قد رواها غير القطيعي، وإنما اعتنوا بالقطيعي واشتهرت رواية الكتب من طريقه لعلو السند، ويأتي لهذا مزيد في ترجمة الحسن بن علي بن المذهب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات". اهـ.
• وفي ترجمة: محمد بن العباس بن حيويه أبي عمر الخزاز من "التنكيل"(208):
قال الأزهري: "كان أبو عمر بن حيويه مكثرا، وكان فيه تسامح، لربما أراد أن يقرأ شيئا ولا يقرب أصله منه، فيقرؤه من كتاب أبي الحسن ابن الرزاز؛ لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، وكان مع ذلك ثقة".
فقال الشيخ المعلمي:
…
في عبارة الأزهري: "لثقته بذلك الكتاب"، وابن حيويه يصفه الأزهري في العبارة نفسها بأنه:"ثقة"، ويصفه العتيقي بأنه:"كان ثقة صالحا دينا"، وبأنه:"كان ثقة متيقظا"، ويصفه البرقاني بأنه:"ثقة ثبت حجة".
…
وإطلاق البرقاني مع إمامته وجلالته، والعتيقي مع ثقته وتيقظه ذاك الثناء البالغ على ابن حيويه، يدل على أنه لم يكن منه تساهل يخدش فيما أثنيا عليه به.
والأزهري وإن ذكر التساهل، فقد عقبه بقوله:"وكان مع ذلك ثقة"، فهذا يقضي أنه إن ساغ أن يسمي ما وقع منه تساهلا، فهو تساهل عرفي، لا يخدش في الثقة والتيقظ والحجة
…
".اهـ.
• وفي ترجمة: أحمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن دوست العلاف أبي عبد الله البزاز من "تاريخ بغداد"(4/ 125):
"سمعت أبا القاسم الأزهري يقول: ابن دوست ضعيف؛ رأيت كتبه كلها طرية، وكان يُذكر أن أصوله العتق غرقت، فاستدرك نَسْخَها.
سألتُ أبا بكر البرقاني عن ابن دوست، فقال: كان يسرد الحديث من حفظه، وتكلموا فيه، وقيل: إنه كان يكتب الأجزاء، ويتربها؛ ليظن أنها عتق"
فقال الشيخ المعملي في ترجمة ابن دوست من "التنكيل"(37):
"التضعيفُ مفسَّرٌ بما بعده، واعلم أن المتقدمين كان يعتمدون على الحفظ، فكان النقاد يعتمدون في النقد عدالةَ الراوي واستقامةَ حديثه، فمن ظهرت عدالته، وكان حديثه مستقيمًا، وثقوه.
ثم صاروا يعتمدون الكتابةَ عند السماع، فكان النقاد إذا استنكروا شيئًا من حديث الراوي، طالبوه بالأصل.
ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقييد السماع، فشدَّدَ النقادُ، فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم، الموثوق به، المقيد سماعه فيه.
فإذا لم يكن للشيخ أصلٌ، لم يعتمدوا عليه، وربما صرح بعضهم بتضعيفه، فإذا ادَّعَى السماعَ ممن يستبعدون سماعَهُ منه، كان الأمرُ أشدَّ.
ولا ريب أن في هذا الحالة الثالثة احتياطًا بالغا، ولكن إذا عُرفت عدالةُ الرجل وضبطُه وصدقُه في كلامه، وادَّعى سماعا محتملا ممكنا، ولم يُبرز به أصلًا، واعتذر بعذرٍ محتملٍ قريبٍ، ولم يأت بما يُنكر، فبأي حجة يُرد خبره؟
وأما قضية التتريب، فهي في عبارة للبرقاني، قال الخطيب:"سألت أبا بكر البرقاني عن ابن دوست؟ فقال: كان يسرد الحديث من حفظه، وتكلموا فيه، وقيل: إنه كان يكتب الأجزاء، ويتربها؛ لِيُظَنَّ أنها عتق".
فقوله: "قيل
…
" لا يُدرى من القائل؟ وعلى فرض صحة ذلك فهو تدليس خفيف، أراد به دفعَ تعنت بعض الطلبة، وكان إذا سُئل يبين الواقع كما في بقية عبارة الأزهري، وأما قول البرقاني: "تكلموا فيه"، وما في الترجمة أن الدارقطني تكلم فيه، فمحمول على ما صرحوا به مِمَّا مَرَّ، ومَرَّ ما فيه.
وبعد، فقد وصفوا ابنَ دوست بالحفظ والمعرفة، قال الخطيب: "كان مكثرًا من الحديث، عارفًا به، حافظًا له، مكث مُدَّةً يُملي في جامع المنصور بعد وفاة أبي طاهر المخلص، ثم انقطع عن الخروج، ولزم بيته، كتب عنه الحسن بن محمد الخلال، وحمزة بن محمد بن طاهر الدقاق، وأبو القاسم الأزهري، وهبة الله بن الحسن الطبري، وعامة أصحابنا، وسمعت منه جزءًا واحدا.
ولم يغمزوه في دينه بشيء، ولا استنكروا له حديثًا واحدًا، فلا أرى أمره إلا قويًا، والله أعلم". اهـ.
• وفي ترجمة: الحجاج بن محمد الأعور من "التنكيل"(71):
قال الشيخ المعلمي:
"مدار الكلام فيه على الاختلاط والتلقن، وهاهنا مباحث:
الأول: هل اختلط حجاج؟ وإن كان اختلط فهل حدث بعد اختلاطه؟
قال ابن سعد: "كان قد تغير في آخر عمره حين رجع إلى بغداد". وقال إبراهيم الحربي: أخبرني صديق لي قال: لما قدم حجاج الأعور آخر قدمة إلى بغداد، خَلَّطَ، فرأيت يحيى بن معين عنده، فرآه يحيى خَلَّطَ، فقال لابنه: لا تُدخل عليه أحدًا، قال:
فلما كان بالعشي دخل الناس، فأعطوه كتاب شعبة، فقال: حدثنا شعبة عن عمرو ابن مرة، عن عيسى بن مريم، عن خيثمة! فقال يحيى لابنه: قد قلتُ لك".
فكلمةُ ابنِ سعد ليست بصريحة في الاختلاط؛ لأن التغيير أعمُّ من الاختلاط، وحكاية إبراهيم الحربي صريحة في الاختلاط، لكن لا ندري من هو صديقه؟ وسكوت الحفاظ الأيقاظ، كابن معين وأحمد وأبي خيثمة -وكلهم بغداديون- عن نقل اختلاط حجاج، وبيان تاريخه، وبيان من سمع منه فيه، مع إطلاقهم توثيق حجاج، وتوثيق كثيرين ممن روى عن حجاج، يدل حتمًا على أحد أمرين:
إما أن لا يكون حجاج اختلط، وإنما تغير تغيرًا يسيرًا لا يضر.
وإما أن لا يكون سمع منه أحد في مدة اختلاطه.
والثاني أقرب؛ فكأن يحيى بن معين ذهب إلى حجاج عقب قدومه، فأحَسَّ بتغيره، فقال لابنه: لا تدخل عليه أحدا، ثم عاد يحيى عشي ذاك اليوم في الوقت الذي جرت العادة بالدخول فيه على القادم للسماع منه خشية أن لا يعمل ابن حجاج بما أمره به، فوجد الأمر كذلك: أَذِنَ لهم الابن، فدخلوا، ويحيى معهم، فسكت أولًا، فلما أخذ حجاج الكتاب فخلط، قال يحيى للابن: ألم أقل لك؟ فكأنهم قطعوا المجلس وحجبوا حجاجًا حتى مات فلم يسمع منه أحد في الاختلاط.
فلما وثق يحيى وبقية أهل العلم بذلك، لم يروا ضرورةً إلى أن يُشيعوا اختلاط حجاج وبيان تاريخه، بل كانوا يوثقونه ويوثقون كثيرًا من الذين سمعوا منه مطلقًا، لعلمهم أن ما بأيدي الناس من روايته كله كان في حال تمام ضبطه.
وفي ترجمة حجاج من "مقدمة الفتح": "أجمعوا على توثيقه، وذكره أبو العرب الصقلي في "الضعفاء" بسبب أنه تغير في آخر عمره واختلط، لكن ما ضره الاختلاط؛ فإن إبراهيم الحربي حكى أن يحيى بن معين منع ابنه أن يدخل عليه بعد اختلاطه أحدًا". اهـ.
• وقال الشيخ المعلمي في ترجمة: عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبي بكر بن أبي داود السجستاني من "التنكيل"(123) بعد أن ذكر أشياء مما يُطعن بها عليه، بعضها لا يثبت في حقه، وبعضها لا يقدح فيه، وبعضها رجع وتاب عنه:
"وبعد، فقد أطبق أهل العلم على السماع من ابن أبي داود، وتوثيقه، والاحتجاج به، فروى عنه الحاكم أبو أحمد والدارقطني وابن المظفر وابن شاهين وعبد الباقي بن قانع حافظ الحنفية وأبو بكر بن مجاهد المقري، وخلق لا يحصون.
وتقدم قول أبي الفضل صالح بن أحمد التميمي الهمذاني الحافظ فيه: "إمام العراق وعلم العلم في الأمصار
…
".
وتقدم أيضًا ثناء أبي الشيخ وأبي نعيم، وذكر السلمي أنه سأل الدارقطني عنه، فقال:"ثقة، إلا أنه كثير الخطأ في الكلام على الحديث".
وقال الخليلي: "حافظٌ، إمام وقته، عالمٌ، متفق عليه واحتج به من صنف الصحيح: أبو علي النيسابوري وابن حمزة الأصبهاني. وكان يقال: أئمة ثلاثة في زمن واحد: ابن أبي داود وابن خزيمة وابن أبي حاتم". اهـ.
• وفي ترجمة: أحمد بن سلمان النجاد منه (19):
قال الشيخ المعلمي بعد توجيهه لقول الدارقطني: "حدَّث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله".
"قال الخطيب: "كان صدوقًا عارفًا، صنف كتابا كبيرًا في السنن، وكان له بجامع المنصور حلقة قيل الجمعة للفتوى، وحلقة بعدها للإملاء" هكذا في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 80)، وقال الذهبي أول الترجمة: "النجاد الأمام الحافظ الفقيه شيخ العلماء ببغداد".
وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني وابن شاهين والحاكم -وأكثر عنه في المستدرك- وابن منده وابن مردوية وغيرهم، ولم يُنْكَرْ عليه حديثٌ واحدٌ.
الثقةُ تثبتُ بأقل من هذا، ومن ثبتت عدالته، لم يُقبل فيه الجرح إلا ببينة واضحة، لا احتمال فيها، كما تقدم في القواعد. والله الموفق". اهـ.
• وفي ترجمة: الوضاح بن عبد الله أبي عوانة اليشكري من "الطليعة"(ص 70):
قال الكوثري (ص 92): "
…
وما رواه في ست سنوات في آخر عمره، لا يعتد به لاختلاطه".
فقال الشيخ المعلمي:
"فتشت المظان، فلم أر أحدًا زعم أن أبا عوانة اختلط، وكأن الكوثري تشبث بما في (تاريخ بغداد) 13: 465: "
…
محمد بن غالب حدثنا أبو سلمة قال: قال لي أبو هشام المخزومي: من لم يكتب عن أبي عوانة قيل سنة سبعين ومائة فإنه لم يسمع منه" ثم عقب ذلك بذكر وفاة أبي عوانة سنة 175، أو سنة 176، وحمل الكوثري قوله "فلم يسمع منه" على المجاز، أي فلم يسمع منه سماعًا يعتد به، ثم تخرص أن ذلك لأجل اختلاطه.
ويدفع هذا أن مثل أبي عوانة في إمامته وجلالته وكثرة حديثه وكثرة الآخذين عنه لو اختلط لاشتهر بذلك وانتشر، فكيف لو دام ذلك سنوات؟ وقد اعتنى الأئمة بجمع أسماء الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عوانة، واعتنى المؤلفون في الضعفاء بذكر الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عوانة، ومن ذكره منهم لم يذكر أنه اختلط، وإنما ذكر أنه كان إذا حدث من حفظه يغلط، ومع ذلك فهذه الرواية لا وجود لها في (تهذيب التهذيب) مع حرصه على ذكر كل ما فيه مدح أو قدح، وظهر من ذلك أنها ليست في أصوله (1)، والذي يظهر أنهم حملوها على أن المقصود بها بيان
(1) يعني: "تهذيب الكمال" و"الكمال".
تاريخ الوفاة (1) لأن الخطيب عقبها بما هو صريح في ذلك، فإما أن يكونوا أعرضوا عنها لشذوذها وإجمالها، وإما أن يكون وقع في نسخة التاريخ المطبوع سقط والأصل: قيل سنة (ست) وسبعين، فرأوا أن مع إجمالها محتملة للوجهين المصرح بهما، فإن كان ولا بد فقد يكون المراد بها معنى ما رُوي عن الإمام أحمد أن أبا عوانة كان في آخر عمره يقرأ من كتب الناس، يعني اعتمادًا على حفظه، مع قول أحمد:"إذا حدث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدث من غير كتابه ربما وهم"، فيكون أبو هشام بالغ في قوله "فلم يسمع منه".
فأما الاختلاط فلا وجه له البتة". اهـ.
* * *
(1) هذا هو المتعين ولا حاجة لما بعده؛ فقد صرح الحافظان الجليلان أبو بكر الإسماعيلي وأبو أحمد بن عدي بأن أبا عوانة مات سنة سبعين ومائة، كما في "تاريخ جرجان"(ص 438). المعلمي