الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الرابع من المرتبة الثالثة من مراتب نقد الخبر
4 - نقد المتن أو النقد الداخلي
1 - تحقيق المقال في عناية الأئمة بنقد المتن:
• ناقش الشيخ المعلمي هذه القضية في جوابه على مزاعم أبي رية، ففي "الأنوار الكاشفة" (ص 5):
أن أبا رية ذكر علو قدر الحديث النبوي، ثم قال:
"وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يُسَمَّوْن رجال الحديث، يتداولونه فيما بينهم، ويدرسونه على طريقتهم.
وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة، لا تتغير ولا تتبدل، فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحًا في نفسه أو غير صحيح، معقولًا أو غير معقول، إذ وقفوا بعلمهم عندما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء
…
". اهـ.
فقال الشيخ المعلمي:
"مراده بقوله "العلماء": المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة، ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم والذين يلونهم، هؤلاء كلهم ممن سماهم: "رجال الحديث"، ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف.
أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية علماء، لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرون منها وينهون عنها، ويعدونها زيفًا وضلالًا وخروجًا عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة!
وأقول: مهما تكن حالهم، فقد كانوا عقلاء: العقل الذي ارتضاه الله عز وجل لأصحاب رسوله، ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضي ذلك منهم، وشهد لهم بأنهم {الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} ، {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقال لهم في أواخر حياة رسوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} .
فمن زعم أن عقولهم لم تكن مع تسديد الشرع لها كافيةً وافيةً بمعرفة الله تعالى، وفهم كتابه، ومعرفة ما لا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته؛ فإنما طعن في الدين نفسه.
وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقربَ الخلق إليهم عقلًا وعلمًا وهديًا، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم، وهؤلاء هم الذين سماهم أبو رية "رجال الحديث".
قد يقال: أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟
أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن:
عند السماع (1)، وعند التحديث (2)، وعند الحكم على الرواة (3)، وعند الحكم على الأحاديث (4).
فالمتثبتون إذا سمعوا خبرا تمتنعُ صحتُه، أو تبعدُ، لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرتْ مصلحةٌ لِذِكْرهِ ذكروه، مع القدح فيه، وفي الراوي الذي عليه تبعته.
قال الإمام الشافعي في "الرسالة"(ص 399):
"وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحدث المحدثُ ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه".
وقال الخطيب في "الكفاية في علم الرواية"(ص 429): "باب وجوب إخراج المنكر والمستحيل من الأحاديث".
وفي الرواة جماعةٌ يتسامحون عند السماع، وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثًا بَيِّنَ البطلان إلا وجدت في سنده واحدًا أو اثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة.
والأئمةُ كثيرًا ما يجرحون الراوي بخبرٍ واحدٍ منكرٍ جاء به، فضلًا عن خبرين أو أكثر.
ويقولون للخبر الذي تمتنعُ صحتُه أو تبعدُ: "منكر" أو"باطل"، وتجد ذلك كثيرًا في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات.
والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا حديثا.
فأما تصحيحُ الأحاديث فَهُم به أَعْنَى وأشدُّ احتياطا.
نعم، ليس كُلُّ من حُكي عنه توثيقٌ أو تصحيحٌ متثبتًا، ولكن العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك.
هذا وقد عَرف الأئمةُ الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقل على بعض المتكلمن ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقةً للعقل المعتدِّ به في الدين، مستكملةً شرائط الصحة الأخرى، وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثقلت هي أيضًا على المتكلمين، وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جدًّا أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات.
من الحقائق التي يجب أن لا يُغفل عنها أن الفريق الأول، وهم: الصحابة ومن اهتدى بهديهم من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم عاشوا مع الله ورسوله، فالصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ومع القرآن، والتابعون مع القرآن والصحابة والسنة وهلم جرا.
وإن الفريق الثاني، وهم: المتكلمون والمتفلسفون ونحوهم عاشوا مع النظريات والشبهات والأغلوطات والمخاصمات.
والمؤمن يعلم أن الهدى بيد الله، وأنه سبحانه إذا شَرع إلى الهدى سبيلًا، فالعدول إلى غيره لن يكون إلا تباعدًا عنه، وتعرضًا للحرمان منه. وبهذا جاء القرآن، وعليه تدل أحوالُ السلف، واعترافُ بعض أكابرهم في أواخر أعمارهم.
والدقائقُ الطبيعية شيء، والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظَنَّ الطريقَ إلى تلك طريقًا إلى هذه، فقد ضل ضلالًا بعيدًا.
واعلم أن أكثر المتكلمين لا يَرُدُّون الأحاديث التي صححها أئمة الحديث، ولكنهم يتأولونها، كما يتأولون الآيات التي يخالفون معانيها الظاهرة.
لكن بعضهم رأى أن تأويل تلك الآيات والأحاديث تَعَسُّفٌ ينكره العارف باللسان وبقانون الكلام وبطبيعة العصر النبوي، والذي يخشونه من تكذيب القرآن لا يخشونه من تكذيب الأحاديث، فأقدموا عليه وفي نفوسهم ما فيها، ولهم عدة مؤلفات في تأويل الأحاديث أو ردّها -قد طبع بعضها- فلم يهملوا الأحاديث كما زعم أبو رية.
(و) قول أبي رية: "والأدباء" يعني بهم: علماء البلاغة، يريد أنهم لم يتصدوا لنقد الأحاديث بمقتضى البلاغة.
قال في (ص 6): ولما وصلت من دراستي إلى كتب الحديث، ألفيت فيها من الأحاديث ما يبعد أن يكون في ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه من محكم قوله وبارع منطقه صلوات الله عليه
…
ومما كان يثير عجبي أني إذا قرأتُ كلمةً لأحدِ أجلاف
العرب أهتز لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت لبعض ما يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ لا أجد له هذه الأريحية ولا ذاك الاهتزاز، وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة، والعاري عن الفصاحة، وهو أبلغ مَنْ نَطق بالضاد، أو يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة، وهو أحكم من دعا إلى رشاد.
أقول: أما الأحاديث الصحيحة، فليست هي بهذه المثابة، والاهتزاز والأريحية مما يختلف باختلاف الفهم والذوق والهوى، ولئن كان صادقًا في أن هذه حاله مع الأحاديث الصحيحة، فلن يكون حاله مع كثير من آيات القرآن وسوره إلا قريبًا من ذلك.
هذا، والبلاغةُ مطابقةُ الكلام لمقتضى الحال، والنبي صلى الله عليه وسلم كان همُّه إفهامَ الناس وتعليمَهم على اختلاف طبقاتهم، وقد أمره الله تعالى أن يقول:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
والكلماتُ المنقولةُ عن العرب ليست بشيء يُذكر بالنسبة إلى كلامهم كله، وإنما نُقلت لطرافتها، ومقتضى ذلك أنه لم يُستطرف من كلامهم غيرها.
وكذلك المنقول من شِعْرهم قليل، وإنما نُقل ما استُجيد، والشِّعْر مظنةُ التصنع البالغ، ومع ذلك قد تَقرأُ القصيدةَ فلا تهتز إلا للبيت والبيتين.
ثم إن كثيرًا مما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم روي بالمعنى كما يأتي.
فأما سقم المعنى فقد ذكر علماء الحديث أنه من علامات الموضوع، كما نقله أبو رية نفسه (ص 104).
وذكر ابن أبي حاتم في تقدمة "الجرح والتعديل"(ص 351) في علامات الصحيح: "أن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة"، فإن كان أبو رية يستسقم معاني الأحاديث الصحيحة، فَمِنْ نفسِه أُتي.
ومن يكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مريض
…
يجد مُرًّا به العَذْبَ الزُّلالا
قوله: "أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء".
كذا قال، وقد أسلفتُ أن رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي، ثم يراعونه عند التصحيح، ومنهم من يتسامح في بعض ذلك، وهم معروفون كما تقدم.
وقد قال أبو رية (ص 104): "ذكر المحققون أمورًا كُلِّيَّةً يُعرف بها أن الحديث موضوع
…
" فذكر جميع ما يتعلق بالمعنى - نقلًا عنهم.
فإن قال: ولكن مصححي الأحاديث لم يراعوا ذلك.
قلت: أما المتثبتون كالبخاري ومسلم، فقد راعوا ذلك، بلى في كل منهما أحاديثُ يسيرة انتقدها بعض الحفاظ أو ينتقدها بعض الناس، ومرجع ذلك إما إلى اختلافِ النظر، وإما إلى اصطلاحٍ لهما يغفل عنه المنتقد، وإما إلى الخطأ الذي لا ينجو منه بشر، وقد انتُقدت عليهما أحاديثُ من جهة السند، فهل يقال لأجل ذلك إنهما لم يراعيا هذا أيضًا؟
…
وقال (ص 6): "أسباب تصنيف هذا الكتاب
…
" الخ، إلى أن قال: "ومما راعني أنى أجد في معاني كثير من الأحاديث ما لا يقبله عقل صريح".
أقول: لا ريب أن في ما يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار ما يرده العقل الصريح، وقد جمع المحدثون ذلك وما يقرب منه في كتب الموضوعات، وما لم يذكر فيها منه فلن تجد له إسنادًا متصلًا إلا وفي رجاله ممن جرحه أئمة الحديث رجل أو أكثر، وزَعْمُ أن في الصحيحين شيئًا من ذلك سيأتي النظر فيه، وقد تقدمت قضية العقل.
قال: "ولا يثبته علم صحيح ولا يؤيده حس ظاهر أو كتاب متواتر".
أقول: لا أدري ما فائدة هذا، مع العلم بأن ما يثبته العلم الصحيح أو يؤيده الحس الظاهر لابد أن يقبله العقل الصريح، وأن القرآن لا يؤيد ما لا يقبله العقل الصريح". اهـ.
• وفي "الأنوار" أيضا (ص 262):
قال أبو رية (ص 300): "المحدثون لا يعنون بغلط المتون، والمحدثون قلما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه واقعًا في نفس المتن، لأن ذلك ليس من شأنهم من جهة كونهم محدثين، وإنما هو من شأن المجتهدين، وإنما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه في نفس الإسناد؛ لأنه من شأنهم".
فقال الشيخ المعلمي:
"الاختلاف في المتن على أضرب:
الأول: ما لا يختلف به المعنى، وهذا ليس باضطراب.
الثاني: ما يختلف به معنى غير المعنى المقصود، وهذا قريبٌ من سابقه، ومنه القضيةُ التي استدل بها أبو رية في عِدَّةِ مواضع، يحسب أنه قد ظفر بقاصمة (1) الظهر للحديث النبوي! وهي الاختلاف والشك في الصلاة الرباعية التي سها فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم من ركعتين، فنبهه ذو اليدين، فوقع في رواية:"إحدى صلاتي العشي"، وفي رواية:"الظهر"، وفي أخرى:"العصر"، فالأخريان مختلفتان، لكن ذلك لا يوجب اختلافًا في المعنى المقصود؛ فإن حكم الصلوات في السهو واحد.
الثالث: ما يختلف به معنى مقصود، لكن في الحديث معنى آخر مقصود، لا يختلف، كقصة المرأة التي زوجها النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا بأن يعلمها ما معه من القرآن، وقد تقدمت (ص 59).
الرابع: ما يختلف به المعنى المقصود كله، فهذا إن صح السند بالوجهين، وأمكن الترجيح، فالراجح هو الصحيح، وإلا فالوقف، والغالب أن البخاري ومسلمًا ينبهان على الترجيح بطرق يعرفها من مارس الصحيحين، وكذلك كتب السنن
(1) في المطبوع بالسين، وهو تحريف.
يكثر فيها بيان الراجح، لكن قد لا يتبين لأحدهم، فيرى أن عليه إثبات الوجهين يحفظهما لمن بعده، فَرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع.
…
وقال: "لو انتُقدت الرواية من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض". اهـ.
أقول:
هذه دعوى إجمالية، والعبرة بالنظر في الجزئيات، فقد عرفنا من محاولي النقد أنهم كثيرًا ما يدَّعُون القطع حيث لا قطع، ويدَّعُون قطعًا يكذبه القرآن، ويقيمون الاستبعاد مقام القطع، مع أن الاستبعاد كثيرًا ما ينشأ عن جهلٍ بالدين، وجهل بطبيعته، وجهلٍ بما كان عليه الحال في العهد النبوي، وكثيرًا ما يسيئون فهم النصوص.
وقال (ص 303): "وقد تعرض كثير من أئمة الحديث للنقد من جهة المتن، إلا أن ذلك قليل جدًّا بالنسبة لما تعرضوا له من النقد من جهة الإسناد". اهـ.
أقول:
من تَتَّبعَ كتبَ تواريخ رجال الحديث وتراجمهم وكتب العلل، وجد كثيرًا من الأحاديث يُطلق الأئمة عليها:"حديث منكر". "باطل". "شبه الموضوع". "موضوع"، وكثيرًا ما يقولون في الراوي:"يحدث بالمناكير". "صاحب مناكير". "عنده مناكير". "منكر الحديث"، ومن أَنْعَمَ النظرَ وجد أكثر ذلك من جهة المعنى.
ولما كان الأئمة قد راعوا في توثيق الرواة النظر في أحاديثهم والطعن فيمن جاء بمنكر، صار الغالب أن لا يوجد حديثٌ منكرٌ إلا وفي سنده مجروح، أو خلل.
فلذلك صاروا إذا استنكروا الحديثَ نظروا في سنده، فوجدوا ما يُبين وهنَهُ فيذكرونه، وكثيرًا ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن، انظر موضوعات ابن الجوزي وتدبر، تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره، ولكنه قلَّما يصرح