الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثالثة
قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا
…
قال: (ص 75):
قال البخاري في "جزء القراءة":
"والذي يُذكر عن مالكٍ في ابن إسحاق لا يكاد يبين .. ولو صح
…
فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبَه بشيء واحدٍ ولا يتهمه في الأمور كلها، وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريشٍ وقد أكثر عنهما في "الموطأ"، وهما مما يحتج بحديثهما، ولم يَنْجُ كثيرٌ من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما يُذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم، وتأويل بعضهم في العرض والنفس، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم يسقط عدالتهم إلا ببرهان وحجة .... وقال بعض أهل المدينة: إن الذي يُذكر عن هشام بن عروة قال: كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي؟ لو صح عن هشام، جائز أن تكتب إليه
…
وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب وهشام لم يشهد". اهـ.
وفي "فتح المغيث" للسخاوي (ص 130) عن محمد بن نصر المروزي:
"كُلُّ رجلٍ ثبتتْ عدالتُه، لم يُقبل فيه تجريحُ أحدٍ، حتى يُبَيِّنَ ذلك بأمرٍ لا يحتملُ أن يكونَ غيرَ جُرحة".
وفي ترجمة عكرمة من "مقدمة فتح الباري" عن ابن جرير:
"من ثبتت عدالتُه لم يُقبل فيه الجرحُ، وما تَسقطُ العدالةُ بالظنِّ، وبقول فلان لمولاه: لا تكذب عليَّ، وما أشبهه من القول الذي له وجوهٌ وتصاريفُ ومعانٍ غير الذي وَجَّهَهُ إليه أهلُ الغباوة". اهـ.
وقال ابن عبد البر:
"الصحيحُ في هذا الباب أنَّ مَنْ صَحَّتْ عدالتُه، وثبتت في العلم أمانتُه، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يُلتفت فيه إلى قولِ أحدٍ، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهاداتِ والعملِ فيها من المشاهدة والمعاينة". اهـ.
قال السخاوي في "فتح المغيث":
"ليس المرادُ إقامةَ بينةٍ على جرحه، بل المعنى أنه يَستند في جَرحه على ما يَستند إليه الشاهدُ في شهادته، وهو المشاهدةُ ونحوها". اهـ.
قد يُقالُ: إن كان المرادُ بثبوتِ العدالةِ أن يتقدمَ التعديلُ والحكمُ به والعملُ بحسبه على الجرحِ (1)، فهذا إنما يكثرُ في الشهود.
وإن كان المرادُ بثبوتها حصولَ تعديل على أي حالٍ كان، فهذا لا وجهَ له؛ فقد تقدم في القاعدة السادسة ما يُعلم منه أن التعديلَ يتفاوتُ، ويحتملُ كثيرٌ منه الخللَ كما يحتملُهُ الجرحُ الذي لم يُشْرَحْ كُلَّ الشَّرْحِ، أو أشد.
ومن تَتَّبَعَ صنيعَ أهل العلم تبَيَّنَ له أنهم كثيرًا ما يُقدمون الجرحَ الذي لم يُشْرَحْ كُلَّ الشَّرْحِ على التوثيق، كما في حالِ إبراهيم بن أبي يحيى والواقدي وغيرهما.
وكثيرًا ما يقع للبخاري وغيره القدحُ فيمن لم يُدركوه، وقد سبقَ أن عدَّلَهُ معدِّلٌ أو أكثر، ولم يَسبق أن جرحه أحدٌ.
فأقول: الذي يتحررُ أن للعدالة جهتين:
الأولى: استقامة السيرة، وثبوت هذا بالنظر إلى هذه القاعدة تظهر فيمن تظهر عدالته ويُعدل تعديلًا معتمدًا، وتمضي مدة، ثم يجرح. فأما ما عدا ذلك، فالمدار على الترجيح، وقد مَرَّ في القاعدة السابقة.
(1) يعني تَقَدُّمًا زمانيا.
الجهة الثانية: استقامة الرواية، وهذا يَثبتُ عند المحدث بتتبعه أحاديث الراوي، واعتبارها، وتبين أنها كلها تدل على أن الراوي كان من أهل الصدق والأمانة، وهذا لا يتيسر لأهل عصرنا، لكن إذا كان القادحون في الراوي قد نَصُّوا على ما أنكروه من حديثه، بحيث ظهر أن ما عدا ذلك من حديثه مستقيم، فقد يتيسر لنا أن ننظر في تلك الأحاديث، فإذا تبين أن لها مخارج قوية تدفع التهمة عن الراوي، فقد ثبتت استقامة روايته.
وقد حاولتُ العمل بهذا في بعض الآتين في قسم التراجم، كالحارث بن عمير، والهيثم بن جميل.
فأما ما عدا هذا، فإننا نحتاج إلى الترجيح، فقد يترجح عندنا استقامةُ رواية الرجل باحتجاج البخاري به في "صحيحه"؛ لظهور أن البخاري إنما احتج به بعد أن تتبع أحاديثه، وسبرها، وتبين له استقامتها، وقد علمنا مكانة البخاري، وسعة اطلاعه ونفوذ نظره، وشدة احتياطه في "صحيحه"، وقِسْ على ذلك، وراجع ما تقدم في القواعد السابقة. والله الموفق.
هذا، وقد تعرض ابنُ السبكي في ترجمة أحمد بن صالح من "طبقات الشافعية" لهذه القاعدة، وزاد فيها فقال:
"فنقول مثلًا: لا يُلتفتُ إلى كلام ابنِ أبي ذئب في مالك، وابنِ معين في الشافعي، والنسائيِّ في أحمد بن صالح؛ لأن هؤلاءِ أئمةٌ مشهورون، صار الجارحُ لهم كالآتي بخبرٍ غريبٍ، لو صَحَّ لتوفرتِ الدواعي على نقله، وكان القاطع قائمًا على كذبه
…
ومعنا أصلان نستصحبهما إلى أن نتيقن خلافهما: أصلُ عدالة الإمام المجروح
…
وأصلُ عدالة الجارح
…
فلا نلتف إلى جرحه، ولا نجرحه بجرحه، فاحفظ هذا المكان، فهو من المهمات
…
فنحن نقبل قولَ ابن معين
…
ولا نقبل قوله في الشافعي، ولو فَسَّرَ، وأَتَى بِأَلفِ إيضاحٍ؛ لقيامِ القاطعِ على أنه غيرُ محُقٍّ بالنسبة إليه".
أقول: هَوَّلَ على عادته، والإنصافُ أن الشافعيَّ لم يكن معصومًا، ولم يَقُمِ القاطعُ اليقيني على أنه لم يقع منه ما إذا وقع من الرجل صَحَّ أن يُجرح به، ولم يكن الشافعي طول عمره في جميع أحواله لا يزال بحضرته جَمٌّ غفيرٌ تقضى العادة حتمًا بأنه لو وقع منه شيء مما ذُكر لتوفرتِ الدواعي على نقله.
نعم، لو فرضنا أن الجارح ذكر أمرًا يصح أن يقال فيه: لو وقع لتوفرت الدواعي على نقله تواترًا، ولم يكن ذلك، فإنه لا يقبل منه.
ولو أن السبكي ترك أن يفرض ما لم يقع، واعتنى بما وقع في الأمثلة التي ذكرها وبَيَّن وجوهَها، لأجاد وأفاد، وقد تعرضتُّ لما وقفتُ عليه من ذلك في تراجم أولئك الثلاثة من قسم التراجم، ولله الحمد". اهـ.
• وقال الشيخ المعلمي في أثناء القاعدة الثانية من مقدمة "التنكيل"(ص 39):
"كُلُّ من ثبتت عدالتُه، لا يَتَّهِمُهُ عارفوه الذين يعدلونه، ولا الواثقون بتعديل المعدِّلِين، فإن اتَّهَمَهُ غيرهم، كان معنى ذلك أنه غيرُ واثقٍ بتعديل المعدِّليِن، ومتى ثبت التعديل الشرعي لم يُلتفت إلى من لا يثق به، ولو كان لك أن تُعدل الرجل وأنت لا تأمن أن يدعي الباطل ويشهد لنفسه زورًا بخمسة دراهم مثلًا، لكان لك أن تعدل من تتهمه بأنه لو رشاه رجل عشرة دراهم أو أكثر لشهدوا له زورًا، وهذا باطل قطعًا؛ فإن تعديلك للرجل إنما هو شهادة منك له بالعدالة، والعدالة "ملكة تمنع صاحبها من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة
…
" فكيف يسوغ لك أن تشهد بهذه الملكة لمن تتهمه بما ذُكر؟، ولو كان كُلُّ عدلٍ حقيقًا بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذُكر، لما كان في الناس عدل
…
". اهـ.
• وفي ترجمة: زكريا بن يحيى الساجي من "التنكيل"(94):
قال الكوثري ص 18: شيخ المتعصبين
…
فقال الشيخ المعلمي:
"أما التعصب، فقد مَرَّ حكمُه في القواعد، وبَيَّنَا أنه إذا ثبتت ثقةُ الرجل وأمانتُه، لم يقدحْ ما يسميه الأستاذ تعصبًا في روايته، ولكن ينبغي التروي فيما يقوله برأيه، لا اتهامًا له بتعمد الكذب والحكم بالباطل، بل لاحتمال أن الحنق حال بينه وبين التثبت
…
". اهـ.
• وفي ترجمة: عبد المؤمن بن خلف أبي يعلى التميمي النسفى الحافظ من "التنكيل"(148):
قال الكوثري: عبد المؤمن ليس ممن يُصدَّقُ فيه (يعني في الحسن بن زياد اللؤلؤى) لأنه كان ظاهريًا طويل اللسان على أهل القياس.
فقال الشيخ المعلمي:
"قد سلف في القواعد أن المخالفة في المذهب لا تُرد بها الرواية: كالشهادة، وهذا ما لا أرى عالمًا يشك فيه.
ومن حَكم له أهلُ العلم بالصدق والأمانة والثقة، فقد اندفع عنه أن يقال: لا يصدَّق في كذا، اللهم إلا أن تقام الحجةُ الواضحةُ على أنه تعمد كذبًا صريحًا، فيزول عنه اسم الصدق والأمانة البتة.
والأستاذ -الكوثري- يمرُّ بالجبال الرواسي، فينفخُ، ويخيّل لنفسه وللجهال أنه قد أزالها أو جعلها هباء، والذي جرأه على ذلك كثرةُ الأتباع، وغربة العلم، وما لا أحب ذكره، والله المستعان". اهـ.
• وفي ترجمة ابن المذهب من "التنكيل"(78):
"من تثبت عدالته وأمانته ثم ادعى سماعًا، ولا معارضَ له، أو يعارضه .. ولكن له عذرٌ قريبٌ، كأن يقول: فاتني أولًا ذلك المجلس، وكان الشيخُ يعتني بي، فأعاده لي وحدي، ولم يحضر كاتب التسميع، فإنه يقبل منه". اهـ.
نماذج من رد الجرح المُجْمل إذا عارضه توثيق:
• في ترجمة: محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي من "التنكيل"(214):
قال ابن عدي: "رأيت أبا يعلي سيء القول فيه، ويقول: شهد على خالي بالزور. ثم قال ابن عدي: وابن عمار ثقة، حسن الحديث عن أهل الموصل: معافى بن عمران وغيره، وعنده عنهم أفراد وغرائب، وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان، ولم أر أحدا من مشايخنا يذكره بغير الجميل، وهو عندهم ثقة".
فقال الشيخ المعلمي:
"ووثقه وأثنى عليه جماعةٌ كثيرة، فأما أبو يعلى فكانت بينه وبين ابن عمار مباعدةٌ ما في المذهب، كما يدلُّ عليه عكوفُ أبي يعلي على سماع كتب أهلِ الرأي من بشر بن الوليد، وردفتها كُدورةٌ عائليةٌ، كما يدل عليه قول أبي يعلي: شهد على خالي بالزور.
وهذه كلمةٌ مرسلةٌ، لم يُبين ما هو الزور؟ ومن أين عرف أبو يعلي أنه زور؟ وعلى فرض تحققه ذلك، فهل تعمَّدَ ابنُ عمار الشهادةَ بالباطل أو أخطأ؟.
وإعراض الناس -ومنهم ابن عدي حاكي الكلمة عن أبي يعلي- عن كلمته، يُبين أنها كلمة طائشة، لا تستحق أن يُلتفت إليها.
وابن عمار أكبر من أبي يعلي بنحو خمسين سنة، فلعل أبا يعلي سمع خاله -ومَنْ خالُه؟ - يقول: شهد عليَّ ابنُ عمار بالزور، فأخذها أبو يعلى، ولم يحققها، وقدمنا في القواعد أنه إذا ظهر أن بين الرجلين ثغرة (1)، لم يُقبل ما يقوله أحدهما في الآخر إلا مفسَّرا محققا مثبتا، ويتأكد ذلك بإعراض الناس عن كلمة أبي يعلي وإجماعهم على توثيق ابن عمار". اهـ.
(1) كذا، ولعل الصواب:"نُفْرَة".
• وفي ترجمة: محمد بن عثمان بن أبي شيبة منه (219):
قال الخطيب: سألتُ البرقاني عن ابن أبي شيبة، فقال: لم أزل أسمع الشيوخ يذكرون أنه مقدوح فيه.
فقال المعلمي:
"ليس في هذا ما يوجب الجرح، إذ لم يُبين من هو القادح، وما هو قدحه؟ ". اهـ.
• وفي ترجمة: زكريا بن يحيى الساجي (94):
قال أبو الحسن ابن القطان: مختلف فيه في الحديث، وثقه قوم، وضعفه آخرون.
فقال الشيخ المعلمي:
"أما كلمة ابن قطان، فلم يُبَيِّنْ مَنْ هُم الذين ضعفوه، وما هو التضعيف، وما وجهه، ومثل هذا النقل المرسل على عواهنه لا يُلتفتُ إليه أمام التوثيق المُحَقَّق، وأخشى أن يكون اشتبه على ابن قطان بغيره ممن يقال له: "زكريا بن يحيى"، وهم جماعة، وابن القطان ربما يأخذ من الصحف فيصحف، فقد وقع له في موضع تصحيفٌ في ثلاثة أسماء متوالية. راجع "لسان الميزان" (ج 2 ص 201 - 202) قد قال ابن حجر في "اللسان" متعقبًا كلمة ابن القطان: "ولا يغتر أحدٌ بقول ابن القطان، وقد جازف بهذه المقالة، وما ضعف زكريا الساجي هذا أحدٌ قَطُّ
…
وذكره ابن أبي حاتم فقال: كان ثقة، يَعرفُ الحديثَ والفقهَ، وله مؤلفاتٌ حسانٌ في الرجال واختلافِ الفقهاء وأحكام القرآن
…
وقال مَسْلمة بن القاسم: بصري ثقة". اهـ.
• وفي ترجمة: جرير بن عبد الحميد (63):
قال قتيبة: "ثنا جرير الحافظ المقدم لكني سمعته يشتم معاوية علانية".
فقال الشيخ المعلمي:
"لم يُبَيِّنْ ما هو الشتم؟ ولم يضره ذلك في روايته، بل أجمعوا على توثيقه كما رأيتَ، واحتج به صاحبا "الصحيحين"، وبقية الستة، والناس". اهـ.
• وفي ترجمة: محمد بن كثير العبدي (230):
قال الكوثري ص 161: "فيه يقول ابن معين: لا تكتبوا عنه، لم يكن بالثقة".
فقال الشيخ المعلمي:
"قال الإمام أحمد: "ثقة، لقد مات على سُنَّة"، وقال أبو حاتم مع تشدده: "صدوق"، وأخرج له الشيخان في "الصحيحين"، وبقية الستة، روى عنه أبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة، كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم، وروى عنه أبو زرعة، ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (2/ 416)، وقال ابن حبان في "الثقات": "كان تقيا فاضلا".
وهذا كله يدل أن ابن معين إنما أراد بقوله: "ليس بثقة" أنه ليس بالكامل في الثقة، فأما كلمة:"لا تكتبوا عنه" فلم أجدها، نعم قال ابن الجنيد عن ابن معين:"كان في حديثه ألفاظ، كأنه ضعفه" قال: "ثم سألته عنه، فقال: لم يكن لسائل أن يكتب عنه".
وابن معين كغيره؛ إذا لم يفسر الجرحَ، وخالفه الأكثرون، يرجح قولهم". اهـ.
• وفي ترجمة: محمد بن أبي عتاب أبي بكر الأعين (218):
قال ابن معين: لم يكن من أهل الحديث (1).
(1) هكذا ذكره الكوثري، ومشى عليه المعلمي، والذي في "تاريخ بغداد" (2/ 183) من رواية بكر بن سهل قال: نبأنا عبد الخالق بن منصور، قال: سئل يحيى بن معين عن أبي بكر الأعين، فقال: ليس هو من أصحاب الحديث" اهـ.
وهذا اللفظ هو الذي يتمشى مع تفسير الخطيب، أما:"لم يكن من أهل الحديث" فظاهرها أنهم يريدون بها أنه لم يكن مشتغلا بالحديث وسماعه وروايته، وقد يكون من أهل الفقه أو اللغة أو القراءة ونحو ذلك، ولعل الكوثري لحظ هذا الفرق، فغَيَّر عبارة ابن معين إلى ما يفي بغرضه، والله تعالى أعلم. وقد سبق تعليقي هذا في: "ألفاظ ظاهرها الجرح
…
"، لكن تكرر الاحتياج إليه هنا فأوردته، والله الموفق.
قال المعلمي:
"هذه كلمة مُجْمَلة، وقد فَسَّرها الخطيب بقوله: "يعني لم يكن بالحافظ للطرق والعلل (1)، وأما الصدق والضبط فلم يكن مدفوعًا عنه".
وقال الإمام أحمد: "رحمه الله تعالى، مات ولا يعرف إلا الحديث، ولم يكن صاحب كلام، وإني لأغبطه".
وذكره ابن حبان في "الثقات"(2).
وأخرج له مسلم في مقدمة "صحيحه"(3) ". اهـ.
• وفي ترجمة: علي بن زيد بن عبد الله أبي الحسن الفرائضي من "التنكيل"(160).
قال ابن يونس: "تكلموا فيه".
فقال الشيخ المعلمي:
"لم يبين من المتكلم، ولا ما هو الكلام، وقد قال مسلمة بن قاسم: "ثقة"، والتوثيق مقدم على مثل هذا الجرح كما لا يخفى". اهـ.
قال أبو أنس:
علقت على هذه الترجمة في القسم الأول رقم (528) بقولي:
مَسلمة بن قاسم ترجمه ابن الفرضي في "تاريخ علماء الأندلس"(2/ 130)، وقال: سمعت من ينسبه إلى الكذب، وسألت محمد بن أحمد بن يحيى القاضي عنه فقال لي: لم يكن كذابًا، ولكن كان ضعيف العقل.
(1) لفظه في "تاريخ بغداد": "لم يكن من الحفاظ لعلله، والنقاد لطرقه مثل علي بن المديني ونحوه".
(2)
ووثقه الخطيب (2/ 183).
(3)
وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة، وأبو داود في غير "السنن"، وجماعة، كما في:"الجرح والتعديل"(7/ 229)، و"تهذيب الكمال"(26/ 78).
وزاد الذهبي في "تاريخ الإسلام" و"سير النبلاء"، وابن حجر في "اللسان" عن ابن الفرضي قوله:"حُفظ عليه كلام سوء في التشبيه".
ونقل ابن حجر في "اللسان" عن أبي جعفر المالقي في "تاريخه" قوله: "فيه نظر".
وقال الذهبي في "السير"(16/ 110): "لم يكن بثقة". وقال في "الميزان": "ضعيف".
فمثل هذا ليس بعمدة أصلًا، ولا يُعتد بقوله في الجرح والتعديل، لاسيما إذا انفرد أو خالف.
وقد قال الشيخ المعلمي نفسه في ترجمة: "محمد بن سعد العوفي" من "التنكيل"(205):
"أما مَسلمة بن قاسم فقد جعل الله لكل شيء قدرًا، حَدُّه أن يُقبل منه توثيقُ مَنْ لم يجرحه مَنْ هو أجلُّ منه ونحو ذلك، فأما أن يُعَارضَ بقوله نصوصُ جمهور الأئمة فهذا لا يقوله عاقل". اهـ.
وقول ابن يونس: "تكلموا فيه" ظاهره الجرح بلا شك، لكن إذا ثبت توثيق من قيل فيه هذا توثيقًا معتبرًا تطمئن النفس إليه، فيقال حينئذٍ: التوثيق مقدم، والجرح غير مفسَّر، فلعله تُكُلِّمَ فيه بكلام لا يضرُّ.
أما إذا لم يُوثق توثيقًا يعتد به -كما في هذه الحالة- صار الجرحُ وإن كان غيرَ مفسَّرٍ، محلًا للاعتبار والقبول - والله تعالى أعلم". اهـ.
• وفي ترجمة: محمد بن جعفر الأدمي (197):
قال عنه محمد بن أبي الفوارس: كان قد خلط فيما حدث.
فقال الشيخ المعلمي:
"ذكروا أنه كان شاهدًا، فقد كان معدلا عند القضاة، لكن لم أر من وثقه، فأما التخليط فلم يُبين ما هو". اهـ.
• وفي ترجمة الحسن بن الفضل البوصرائي منه (79):
قال ابن المنادي: أَكْثَرَ الناسُ عنه، ثم انكشفَ أمرُه، فتركوه، وخرقوا حديثه.
فقال الشيخ المعلمي:
"قد روى عن البوصرائي جماعةٌ من الأكابر، كابنِ صاعد والصفار، وكلامُ ابن المنادي غيرُ مُفَسَّرٍ، وقد كانوا ربما يغضبون على المحدث، ويخرقون حديثه لغير موجبٍ، كما مر في "الطليعة" (ص 49) (1)، وكما تراه في ترجمة محمد بن بشر الزنبري من "لسان الميزان" (2). اهـ.
• وفي ترجمة: محمد بن عمر بن محمد بن بهتة (225):
قال الخطيب: "سألتُ البرقاني عن ابن بهتة، فقال: لا بأس به، إلا أنه كان يُذكر أن في مذهبه شيئا، ويقولون: هو طالبي. قلت للبرقاني: تعني بذلك أنه شيعي، قال نعم. أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، قال: سنة 274، فيها توفي أبو الحسن محمد بن عمر بهتة في رجب، وكان ثقة".
فقال الشيخ المعلمي:
"فقد ثبت التوثيق، ولم يثبت ما ينافيه". اهـ.
(1) في المثال الرابع من النوع الثاني، وفيه قول خميس الحوزي في ابن السقاء:"من وجوه الواسطيين، وذوي الثروة والحفظ، وبارك الله في سنه وعلمه، واتفق أنه أملى حديث: الطير، فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا به، وأقاموه، وغسلوا موضعه، فمضى، ولزم بيته".
فقال الشيخ المعلمي: "
…
هذه حماقة من العامة وجهل، لا يلحق ابن السقاء بها عيب ولا ذم ولا ما يشبه ذلك، وحديث: الطير مشهور، روي من طرق كثيرة، ولم ينكر أهل السنة مجيئه من طرق كثيرة، وإنما ينكرون صحته
…
". اهـ.
(2)
(5/ 93).
نماذج من رَدِّ الجرحِ المُفَسَّر، إذا قامت القرائن على ذلك:
• في ترجمة: عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري من "التنكيل"(149):
قال ابن الجوزي في ترجمة أبي الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث:
"العكبري لم يكن من أهل الحديث والعبم، إنما كان يعرف شيئًا من الحديث
…
وكان معتزليًا يقول: إن الكفار لا يخلدون في النار
…
فمن كان اعتقاده يخالف إجماع المسلمن فهو خارج عن الإسلام، فكيف يُقبل جرحه؟. وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: كان ابن برهان يميل إلى المُرْد ويُقَبِّلُهُم".
وقال في ترجمة عبد الواحد من "المنتظم"(ج 8 ص 236):
"كان مجودا في النحو، وكان له أخلاق شرسة، ولم يلبس سراويل قط، ولا قَبِلَ عطاءَ أحدٍ، وكان لا يُغطي رأسه. وذكر محمد بن عبد الملك: كان ابن برهان يميل إلى المُرْد الصباح، ويُقَبِّلُهُم من غير ريبة. وقوله: من غير ريبة، أقبح من التقبيل، لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهوة، فهل يكون التقبيل بغير شهوة".
وفي "لسان الميزان"(4/ 82): "قال ابن ماكولا: كان فقيها حنفيا، قرأ اللغة، وأخذ الكلام من أبي الحسين البصري. قلت -ابن حجر-: وقد بالغ محمد بن عبد الملك الهمذاني في "تاريخه" فقال: كان يمشي مكشوف الرأس، وكان يميل إلى المردان من غير ريبة، ووقف مرة على مكتب عند خروجهم، فاستدعى واحدًا واحدًا فيقبله ويدعو له ويسبح الله، فرآه ابن الصباغ، فدَسَّ له واحدًا قبيح الوجه فأعرض عنه، وقال: يا أبا نصر، لو غيرك فعل بنا".
وفي ترجمة عبد الواحد من "تاريخ بغداد"(11/ 17): "كان يُذكر أنه سمع من أبي عبد الله ابن بطة وغيره، إلا أنه لم يرو شيئًا، وكان مضطلعًا بعلوم كثيرة، منها: النحو، واللغة، ومعرفة النسب، والحفظ لأيام العرب، وأخبار المتقدمين، وله إنس شديد بعلم الحديث".
قال الشيخ المعلمي:
"فقد كان ابن برهان على بدعته من أهل العلم والزهد والمنزلة بين العلماء، ومحمد بن عبد الملك الهمذاني لا أعرف ما حاله؟ وقد ذكر ابن حجر أنه بالغ.
وقد تصرف ابن الجوزي في عبارة الهمذاني؛ ففي موضعٍ زاد فيها: "ويقبلهم"، وحذف:"من غير ريبة"، وفي موضع زاد:"الصباح فيقبلهم"، وإنما أخذ الصباحة والتقبيل من قصة المكتب.
وقد كان ببغداد في ذاك العصر عددٌ كثيرٌ من مشاهير العلماء، ما منهم إلا من يُخالفُ عبدَ الواحد في العقيدة والمذهب أو أحدهما.
وكان عبدُ الواحد على غاية الصيانة؛ ذكروا أنه: "لما ورد الوزيرُ عميدُ الدين إلى بغداد، استحضره، فأعجبه كلامه، فعرض عليه مالًا، فلم يقبله، فأعطاه مصحفًا بخَطِّ ابنِ البواب وعكازةً حُملت إليه من الروم مليحة، فأخذهما، فقال له أبو علي بن الوليد المتكلِّم: أنت تحفظ القرآن وبيدك عصا تتوكأ عليها، فلم تأخذ شيئًا فيه شبهة؟
فنهضَ ابنُ برهان في الحال إلى قاضي القضاة ابن الدامغاني، وقال له: لقد كدتُ أهلكُ، حهتى نبهني أبو علي بن الوليد، وهو أصغر سنًا مني، وأريد أن تعيد هذه العكازة والمصحف على عميد الدين فما يصحباني، فأخذهما وأعادهما عليه".
أفما كان في ذاك الجمِّ الغفيرِ من أهل العلم مَنْ يُنكرُ على ابن برهان ما نَسبه ابنُ الجوزي إليه؟!
وما كان فيهم من يَعيبه بذلك على الأقل؟ مع مخالفتهم له كما سلف، فما بالنا لا نعرف عنهم كلمة واحدة في ذلك إلا تلك الشاذة من ذاك الهمذاني؟
وليس المقصودُ رَدَّ كلمةِ الهمذاني، وإنما المقصودُ تجريدُها عما فيها من المبالغة التي أشار إليها ابن حجر.
فأقول: كانت المكاتب في ذاك العصر خاصةً بالأطفال، إنما هي لتعليم القراءة والكتابة، فأما ما زاد عن ذلك من العلم فكان محله الجوامع والمساجد ومجالس العلماء في بيوتهم والمدارس الكبيرة، فَمَرَّ -على ما يقول الهمذاني- ابنُ برهان مع جماعة من أهل العلم وغيرهم -فيهم الإمام أبو نصر ابن الصباغ الشافعي- بمكتبٍ من مكاتب الأطفال، فصادفَ وقتَ خروجهم، فأخذ ابنُ برهان يُقبلهم ويدعو لهم؛ تنشيطًا لهم، ورجاءَ أن يصيروا رجالًا صالحين، فمازحه ابنُ الصباغ بأن قَدَّمَ إليه واحدا منهم قبيحَ الصورة، فأعرض عنه ابنُ برهان، علمًا بأنه لا مجالَ هناك لأدنى ريبةٍ، ولو كان هناك مجالٌ لريبةٍ لكان الظاهرُ أن يُقبلَ ذاك القبيحَ كغيره.
وأي عقلٍ يميزُ أن يكونَ فيما جرى شيءٌ من الريبة، ويقرُّه الحاضرون من أهل العلم وغيرهم، ويقتصر ابن الصباغ على تلك الملاطفة؟
فأما أهل بغداد المخالفون لابن برهان في العقيدة أو المذهب أو كليهما، فلم يروا فيما جرى ما يُسَوِّغُ أن يُعابَ به ابنُ برهان.
وأما ذلك الهمذاني فدعته نفرته عن ابن برهان -لمخالفته في العقيدة والمذهب- إلى أن عَبَّرَ بقوله: "يميل إلى المردان"، فنازعه واعظُ الله تعالى في قلبه، فدافعه بقوله:"من غير ريبة"، وذكروا قصة المكتب، فجاء ابنُ الجوزي فصنع ما تقدم، ولا أدري ما صنع سبطه، فإنه كثير التصرف في مثل هذا، فوقع التزيد في الحكاية كما تراه في "بغية الوعاة" وغيرها.
أما العقيدة فذكروا أن ابن برهان كان معتزليًا، ولا أدري ما الذي كان يوافق فيه المعتزلة، فأما قوله بأن الكفار لا يخلدون في العذاب، فهي مسألة مشهورة، ولو رأى علماء بغداد أن قول ابن برهان فيها مخُرجٌ عن الإسلام، لَسَعَوْا في إقامة الحَدِّ عليه، فما بالُهم أعرضوا عن ذلك، وكانوا يُجِلُّون ابنَ برهان ويحترمونه؟
نعم، ابنُ برهان لم يوثقه أحدٌ فيما نعلم، ومن المحتمل أنه كان يَهِمُ فيما يرويه من الحكايات أو يبني على الظن، فَحَقُّه أن لا تقومَ الحجة بما ينفرد به، ولكنه يُذكر في المتابعات والشواهد كما صنع الخطيب. والله الموفق". اهـ.
• وفي ترجمة: محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الأدمي منه (188):
قال الكوثري ص 127: ترى البرقاني يَصُفُّ نفسَه في صَفِّ هؤلاء، فيروي عن مثل الأدمي
…
راوي "العلل" للساجي، وهو لم يكن صدوقا، يُسمع لنفسه في كتب لم يسمعها (1)، وكان بذيء اللسان ....
فقال الشيخ المعلمي:
"لفظ الخطيب في ترجمة الأدمي (1/ 349): قال لي أبو طاهر حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق: لم يكن الأدمي هذا صدوقا في الحديث، كان يُسمع لنفسه في كتبٍ لم يسمعْها. فسألت البرقاني عن الأدمي فقال لي: ما علمت إلا خيرا، وكان شيخًا قديما .... غير أنه كان يُطلق لسانه في الناس، ويتكلم في ابن مظفر والدارقطني".
فعدمُ التفاتِ البرقاني إلى كلام حمزة يدل على أنه لم يَعْتَدَّ به، لأن حمزة لم يُبين أيَّ كتابٍ أَلْحَقَ الأدمي سماعه فيه ولم يسمعه، ومن أين علم حمزة أنه لم يسمعه؟ وقول البرقاني: غير أنه كان يطلق لسانه
…
، فإنه قصد بها أن الأدمي كان يتكلم في الناس، فتكلم بعضهم فيه، ومثل هذا يقع فيه التجوز والتسامح، فلا يُعتد به إلا مفسرا محققا مثبتا.
…
وقد كان يكفي الأستاذ أن يقول: شيخ الساجي لا يدرى من هو.
ولكنه يأبى إلا التطويل والتهويل". اهـ.
(1) هذا كلام مفسر، إلا أنه يحتاج إلى أن يقيم عليه برهانا؛ لقيام القرائن على عدم الاعتداد به، كما سيأتي.
موقف الشيخ المعلمي من تعارض الجرح والتعديل، وطريقته في التعامل مع الرواة المختلف فيهم:
• في ترجمة الحارث بن عمير البصري من "التنكيل"(68):
قال الكوثري ص 36: مختلف فيه، والجرح مقدم، قال الذهبي "الميزان": وما أُراه إلا بَيِّنَ الضعف، فإن ابن حبان قال في "الضعفاء": روى عن الأثبات الموضوعات. وقال الحاكم: روى عن حميد وجعفر الصادق أحاديث موضوعة. وفي "تهذيب التهذيب": قال الأزدي: "منكر الحديث". ونقل ابن الجوزي عن ابن خزيمة أنه قال: "الحارث بن عمير كذاب".
فقال الشيخ المعلمي:
"الحارث بن عمير وَثَّقَهُ أهلُ عصره والكبار.
قال أبو حاتم عن سليمان بن حرب: "كان حماد بن زيد يُقَدِّمُ الحارثَ بن عُمير ويُثني عليه"، زاد غيره:"ونظر إليه مرة فقال: هذا من ثقات أصحاب أَيوب". وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وقد قال الأثرم عن أحمد:"إذا حدث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة".
وقال ابن معين، والعجلي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، والدارقطني:"ثقة"، زاد أبو زرعة:"رجل صالح".
وفي "اللآلي المصنوعة"(ص 118 - 119) عن الحافظ ابن حجر في ذكر الحارث: "استشهد به البخاري في "صحيحه" وروى عنه من الأئمة: عبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينة، واحتج به أصحاب السنن".
وفيها بعد ذلك: "قال الحافظ ابن حجر في "أماليه": "
…
أثنى عليه حماد بن زيد
…
وأخرج له البخاري تعليقًا
…
".
ولم يتكلم فيه أحدٌ من المتقدمين، والعدالةُ تثبتُ بأقلِّ من هذا، ومن ثَبتتْ عدالتُه لم يُقبل فيه الجرحُ إلا بِحُجَّةٍ وبَيِّنَةٍ واضحةٍ، كما سلف في القواعد.
فلننظر في المتكلمين فيه وكلامهم:
أما الأزدي: فقد تكلموا فيه، حتى اتهموه بالوضع (1)،
…
على أن الأزدي استند إلى ما استند إليه ابن حبان، وسيأتي ما فيه.
وأما ابن خزيمة فلا تثبت تلك الكلمة عنه بحكاية ابن الجوزي المُعْضلة، ولا نَعلمُ ابنَ الجوزي التزم الصحة فيما يحكيه بغير سند، ولو التزم لكان في صحة الاعتماد على نقله نظر؛ لأنه كثير الأوهام،
…
(2).
وأما الحاكم، فأحسبه تبعَ ابن حبان، فإن ابن حبان ذكر الحارث في "الضعفاء"، وذكر ما أنكره من حديثه.
والذي يُستنكرُ من حديثِ الحارث حديثان:
الأول: رواه محمد بن زنبور المكي عن الحارث عن حميد.
والثاني: رواه ابنُ زنبور أيضًا عن الحارث عن جعفر بن محمد، فاستنكرها ابن حبان، وكان عنده أن ابن زنبور ثقة، فجعلَ الحَمْلَ على الحارث، وخالفه آخرون فجعلوا الحَمْلَ على ابن زنبور.
قال مَسْلمة في ابن زنبور: "تُكلم فيه؛ لأنه روى عن الحارث بن عمير مناكير، لا أُصولَ لها، وهو ثقة".
وقال الحاكم أبو أحمد في ابن زنبور: "ليس بالمتين عندهم، تركه محمد بن إسحاق ابن خزيمة"، وهذا مما يدل على وهم ابن الجوزي.
(1) انظر ترجمة الأزدي في القسم الثاني من هذا الكتاب.
(2)
انظر ترجمة ابن الجوزي أيضًا في القسم الثاني.
وساق الخطيب في "الموضح" فصلًا في ابن زنبور، فذكر أن الرواة عنه غَيَّرُوا اسمَه على سبعة أوجهٍ، وهذا يُشعر بأن الناس كانوا يستضعفونه، لذلك كان الرواة عنه يدلسونه.
وقال ابن حجر في ترجمة الحارث من "التهذيب": "قال ابن حبان: كان ممن يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعات، وساق له عن جعفر بن محمد
…
" فذكر الحديث الثاني، وقول ابن حبان: "هذ موضوع، لا أصل له"، ثم ساقه ابنُ حجر بسنده إلى محمد بن أبي أبي الأزهر هو عن الحارث، وكذلك ذكره السيوطي في "اللآلي المصنوعة" (1/ 118)، وابن أبي الأزهر هو ابن زنبور، وأسند الخطيب في "الموضح" هذا الحديث في ترجمة ابن زنبور.
ثم قال ابن حجر: "والذي يظهر لي أن العلة فيه ممن دون الحارث" يعني من ابن زنبور، وخالفهم جميعًا النسائي، فوثَّقَ الحارثَ، ووثَّقَ ابنَ زنبور أيضًا، وقال مرة:"ليس به بأس".
قال المعلمي:
"لو كان لا بد من جرح أحد الرجلين، لكان ابنُ زنبور أحقَّ بالجرح؛ لأن عدالةَ الحارث أثبتُ جدًّا وأقدم، ولكن التحقيق ما اقتضاه صنيع النسائي من توثيق الرجلين، ويُحمل الإنكار في بعض حديث ابن زنبور عن الحارث على خطأ ابن زنبور، وقد قال فيه ابن حبان نفسه في "الثقات": "ربما أخطأ".
والظاهر أنه كان صغيرًا عند سماعه من الحارث، كما يُعلم من تَأمُّلِ ترجمتهما، وقد تقدم في ترجمة جرير بن عبد الحميد أنه اختلط عليه حديث أشعث بحديث عاصم الأحول، فكأنه اختلط على ابن زنبور بما سمعه من الحارث أحاديث سمعها من بعض الضعفاء، ولم ينتبه لذلك، كما تنبه جرير، فكأن ابن زنبور في أوائل طلبه كتب أحاديثَ عن الحارث، ثم سمع من رجلٍ آخر أحاديثَ كتبها في تلك الورقة، ولم
يُسَمِّ الشيخَ، ثقةً بأنه لن يلتبس عليه، ثم غفل عن ذاك الكتاب مدةً، ثم نظر فيه فظن أن تلك الأحاديث كلها مما سمعه من الحارث.
وقد وَثَّقَ الأئمةُ جماعةً من الرواة، ومع ذلك ضعفوهم فيما يروونه عن شيوخٍ معينين، منهم: عبد الكريم الجزري فيما يرويه عن عطاء، ومنهم: عثمان بن غياث، وعمرو بن أبي عمرو، وداود بن الحصين فيما يروونه عن عكرمة، ومنهم: عمرو بن أبي سلمة فيما يرويه عن زهير بن محمد، ومنهم: هشيم فيما يرويه عن الزهري، ومنهم: ورقاء فيما يرويه عن منصور بن المعتمر، ومنهم: الوليد بن مسلم فيما يرويه عن مالك.
فهكذا ينبغي مع توثيق ابن زنبور تضعيفه فيما يرويه عن الحارث بن عمير.
فإن قيل: فأين أنت عما في "الميزان": "ابن حبان ثنا الحسن بن سفيان ثنا محمود بن غيلان أنبأنا أبو أسامة ثنا الحارث بن عمير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال العباس: لأعلمنَّ ما بقاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فينا، فأتاه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذنا لك مكانًا تكلم الناس منه، قال: بل أصبر عليهم، ينازعوني ردائي، ويطأون عقبي، ويصيبني غبارهم، حتى يكون الله هو يريحني منهم".
رواه حماد بن زيد عن أيوب، فأرسله، أو أن ابن عباس قاله - شك".
فهذا الحديث لا شأن لابن زنبور فيه، وليس في سنده من يتجه الحمل عليه غير الحارث.
قلت: ليس في هذا الحديث ما يُنكر، وقد رواه حماد بن زيد، غير أنه شك في إسناده، وقد قال يعقوب بن شيبة:"حماد بن زيد أثبت من ابن سلمة، وكُلٌّ ثقةٌ، غير أن ابن زيد معروفٌ بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع، كثيرُ الشك بتوقيه، وكان جليلًا، لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحيانًا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانًا يهاب الحديث ولا يرفعه"، فأي مانع من أن يكون هذا مما قصر فيه حماد، حفظه الحارث، وقد كان حماد نفسه يثني على الحارث ويقدمه كما مَرَّ.
فإن شدد مشدد، فغاية الأمر أن يكون الخطأ في وصله، وهل الخطأ من الحارث أو ممن بعده؟
وعلى فرض أنه من الحارث، فليس ذلك مما يوجب الجرح، ومثل هذا الخطأ وأظهر منه قد يقع للأكابر كمالك والثوري، والحُكم المجمع عليه في ذلك أن مَن وقع منه ذلك قليلًا لم يضره، بل يحتج به مطلقًا، إلا فيما قامت الحجة على أنه أخطأ فيه، فالحارث بن عمير ثقة حتمًا، والحمد لله رب العالمين". اهـ.
• وفي "الفوائد المجموعة"(ص: 297):
حديث: "إن فاتحة الكتاب وآية الكرسيّ، والآيتين من آل عمران {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ} و {قُلِ اللهم مَالِكَ الْمُلْكِ} -الآيتين، معلقات بالعرش، وما بينهن وبين الله حجاب- إلخ.
قال الشوكاني: رواه الديلمي عن عليّ رضي الله عنه مرفوعًا. وفي إسناده الحارث بن عمير.
قال ابن حبان: تفرد به، وكان يروي الموضوعات عن الأثبات.
وتعقبه العراقي: بأنه قد وثقه حماد بن زيد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن معين، والنسائي، واستشهد به البخاري في صحيحه، واحتج به أهل السنن.
وفي إسناده أيضًا: محمد بن زنبور، وهو مختلف فيه، وفي سند الحديث انقطاع كما أشار إليه ابن حجر، وفي المتن نكارة شديدة.
وقد صرح بأنه موضوع: ابنُ حبان، وابنُ الجوزي، وليس ذلك ببعيدٍ عندي، وإن خالفهما الحافظان العراقي وابن حجر. انتهى كلام الشوكاني.
فقال الشيخ المعلمي:
"فيما يرويه ابن زنبور عن الحارث مناكير، منها هذا، فَمِنَ الحُفَّاظ من حَمل على ابن زنبور؛ لأن الحارث وثقه الأكابر، وحديثه الذي يرويه غير ابن زنبور مستقيم، سوى حديثٍ واحدٍ خُولف في رفعه، ومثل هذا لا يضره.
ومن المتأخرين مَنْ حمل على الحارث؛ لأنهم وجدوا حديثَ ابن زنبور عن غيره مستقيمًا.
ووثَّقَ النسائيُّ الرجلين، والتحقيق معه؛ فهما ثقتان، لكن ما رواه ابن زنبور عن الحارث فضعيف، وفيه المنكرات، ولهذا نظائر عندهم في تضعيف رواية رجل عن شيخٍ خاص، مع توثيق كل منهما في نفسه.
وكأن ابن زنبور لم يضبط ما سمعه من الحارث، لأنه كان صغيرًا أو نحو ذلك، فاختلطت عليه أحاديثه بأحاديث غيره.
فالحق مع النسائي، ثم العراقي، وابن حجر في توثيق الرجلين، والحق مع الحاكم وابن حبان وابن الجوزي في استنكار هذا الحديث والله أعلم .. اهـ.
• وفي ترجمة: عبد الملك بن محمد أبي قلابة الرقاشي من "التنكيل"(147):
قال الكوثري: أبو قلابة الرقاشي كثير الخطأ في الأسانيد والمتون على ما نقله الخطيب عن الدارقطني.
فقال الشيخ المعلمي:
"قال الدارقطني: لا يُحتج بما تفرد به، بلغني (1) عن شيخنا أبي القاسم ابن بنت منيع (هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي تقدمت ترجمته) أنه قال: عندي عن أبي قلابة عشرةُ أجزاءٍ، ما منها حديثٌ مُسَلَّم، إما في الإسناد وإما في المتن، كان يحدث من حفظه، فكثرت الأوهام فيه (2).
(1) فات المعلمي التنبيه على هذا الانقطاع، فلا يُدْرَى من الذي بلَّغَ الدارقطني؟.
(2)
علقت على هذا الموضع في ترجمة أبي قلابة من القسم الأول (473) بقولي: "قال الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 425): "وقال الدارقطني: هو صدوق، كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه، فكثرت الأوهام منه".
هكذا نقله الخطيب عن الدارقطني بلا واسطة وفي سؤلات الحاكم للدارقطني رقم (150): قال الدارقطني: "قيل لنا: إنه كان مجاب الدعوة، صدوق، كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، لا يحتج بما ينفرد به، بلغني عن شيخنا أبي القاسم بن منيع أنه قال: عندي عن أبي قلابة عشرة أجزاء
…
".
ولا حاجة بنا ولله الحمد إلى مضايقة الأستاذ -الكوثري- بأن نقول: أنت لا تثق بالبغوي فليس لك أن تعول عليه هنا، بل نقول: قال ابن جرير: "ما رأيت أحفظ منه"، وقال مَسْلمة بن قاسم عن ابن الأعرابي: "
…
ما رأيت أحفظ منه، وكان من الثقات
…
"، قال مَسْلمة: "وكان راويةً للحديث، متقنًا ثقة
…
" وقال أبو داود: "رجل صدق أمين مأمون كتبت عنه بالبصرة"، وقال ابن خزيمة: "ثنا أبو قلابة بالبصرة قبل أن يختلط ويخرج إلى بغداد".
فاتضح أن أبا قلابة كان ثقة متقنا، إلا أنه تغير بعد أن تحول إلى بغداد، وفيها سمع منه البغوي
…
". اهـ.
• وفي "الفوائد"(ص 30):
قال أحمد: "أحاديث محمد بن القاسم (1) موضوعة، ليس بشيء، رَمَيْنَا بحديثه".
فقال السيوطي في اللآليء: "وقد وثقه ابن معين".
فقال الشيخ المعلمي: تعالى:
"ثبت تكذيبه من أوجهٍ عن أحمد، وتابعه البخاري وغيره، وكذبه أيضًا أبو داود وغيره.
وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: "ثقة، وقد كتبت عنه".
= فالذي جزم به الخطيب -ولم يسنده- هو نحو ما قال فيه الدارقطني: قيل لنا، وما قال فيه أيضًا: بلغني عن البغوي.
وبمقتضى قواعد النقد، فإن في نسبة هذا القول للدارقطني -كما جزم به الخطيب- ونسبته للبغوي -كما حكاه الدارقطني- نظرا؛ لأننا لا ندري من القائل للدارقطني، ولا المبلغ له عن البغوي. وقد حمل عن أبي قلابة الأئمة: أبو داود، والطبري، وابن خزيمة، وغيرهم، وأثنوا على حفظه، ولم يذكروا له شيئا من هذه الأوهام، فإن كان شيء من هذا فهو مما حدث به أبو قلابة بعد تحوله إلى بغداد كما حققه الشيخ المعلمي رحمه الله، والله تعالى أعلم.
(1)
هو أبو القاسم الأسدي الكوفي الشامي الأصل لقبه: "كاو".
وعادة ابن معين في الرواة الذين أدركهم أنه إذا أعجبته هيئة الشيخ يسمع منه جملة من أحاديثه، فإذا رأى أحاديث مستقيمة ظن أن ذلك شأنه فوثقه، وقد كانوا يتقونه ويخافونه.
فقد يكون أحدُهم ممن يخلط عمدًا، ولكنه استقبل ابنَ معين بأحاديث مستقيمة، ولما بَعُدَ عنه خَلَّطَ، فإذا وجدنا مِمَّن أدركه ابنُ معين من الرواة مَنْ وثقه ابنُ معين وكذبه الأكثرون أو طعنوا فيه طعنًا شديدًا، فالظاهر أنه من هذا الضرب، فإنما يزيده توثيقُ ابن معين وَهَنا؛ لدلالته على أنه كان يتعمد". اهـ.
• وفي ترجمة: عنبسة بن خالد من "التنكيل"(176):
"في كتاب ابن أبي حاتم (3/ 402): "سألت أبي عن عنبسة بن خالد، فقال: كان على خراج مصر، وكان يعلق النساء بثديهن".
وقال ابن القطان: كفى بهذا في تجريحه، وكان أحمد يقول: ما لنا ولعنبسة
…
هل روى عنه غير أحمد بن صالح؟ وقال يحيى بن بكير: إنما يحدث عن عنبسة مجنون أحمق، لم يكن بموضع للكتابة عنه".
فقال الشيخ المعلمي:
"أبو حاتم ولد سنة 195، وأول طلبه الحديث سنة 209، وإنما دخل مصر بعد ذلك بمدة، فلم يدرك عنبسة، ولا ولايته الخراج؛ لأن عنبسة توفي سنة 198، ولا يُدْرَى مَنْ أخبر أبا حاتم بذلك؟ فلا يثبت ذلك، ولا ما يترتب عليه من الجرح (1).
(1) لكن قال البرذعي: سمعت أبا زرعة يقول: سمعت يحيى بن عبد الله بن بكير يقول: "كان عنبسة الذي يروي عن يونس يُقيم الناسَ في الشمسِ وَيصبُّ عليهم الزيت في أداء الخراج". (أبو زرعة الرازي ص 341 - 342).
وقال أبو زرعة: "كنا نعتبر به" راجع كتاب "علل الحديث" لابن أبي حاتم، رقم (1383).
وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن مسلم (ابن وارة) يقول: روى ابن وهب عن عنبسة بن خالد. قلت لمحمد بن مسلم: فعنبسة بن خالد أحب إليك أو وهب الله بن راشد؟ فقال: سبحان الله، ومن يقرن عنبسة إلى وهب الله؟ ما سمعت بوهب الله إلا الآن منكم.
فقد روى عن عنبسة: أحمد بن صالح على إتقاف وعبد الله بن وهب على جلالته وتقدمه، وكل منهما أعقل وأفضل من مائة مثل يحيى بن بكير، وروى عنه محمد بن مهدي الإخميمي وغيرهم كما في "التهذيب".
فأما الإمام أحمد، فكأنه سمع بأن عنبسة كان يجبي الخراج، فكرهه لذلك، وليس في ذلك ما يثبت به الجرح، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخرج له البخاري في "الصحيح" مقرونًا بغيره (1)، وأخرج له أبو داود في "السنن"
…
فعنبسة يروي عنه ابن وهب، ويصدقه أحمد بن صالح، ويثني عليه ابن وارة، ويثبته أبو داود، ويستشهد به البخاري، ويوثقه ابن حبان". اهـ.
• وفي "التنكيل"(2/ 15):
قال ابن التركماني -في: المغيرة بن سقلاب الحراني أبي بشر قاضي حران-: "ضعفه ابن عدي، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه صالح (2)، وعن أبي زرعة: جزري لا بأس به".
فقال الشيخ المعلمي:
"الراوي الذي يطعن فيه محدثو بلده طعنًا شديدًا، لا يزيده ثناءُ بعض الغرباء عليه إلا وهنًا؛ لأن ذلك يُشْعر بأنه كان يتعمد التخليس فتزيَّنَ لبعض الغرباء،
(1) قال الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري"(ص 433): "له عند البخاري أربعة أحاديث، قرنه فيها بعبد الله بن وهب عن يونس". اهـ.
(2)
في الجرح (8 / ت 1004): "صالح الحديث".
واستقبله بأحاديث مستقيمة، فظن أن ذلك شانه مطلقًا فأثنى عليه، وعرف أهلُ بلده حقيقةَ حاله.
وهذه حالُ المغيرة هذا، فإنه جزري، أسقطه محدثو الجزيرة، فقال أبو جعفر النفيلي:"لم يكن مؤتمنًا".
وقال علي بن ميمون الرقي: "كان لا يسوي بَعْرة".
وأبو حاتم وأبو زرعة رازيان، كأنهما لقياه في رحلتهما، فسمعا منه، فتزيَّن لهما كما تقدم، فأحسنا به الظن.
وقد ضَعَّفَهُ ممن جاء بعد ذلك: الدارقطني، وابنُ عدي؛ لأنهما اعتبرا أحاديثه
…
وهو تالف على كل حال". اهـ.
* * *