الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
البحث في مقتضى كُلٍّ من الجرح والتعديل عند القائل بهما، خشيةَ أن تكون هناك مصطلحات خاصة بالقائل
• قال الشيخ المعلمي في الأمر التاسع من "كيف البحث عن أحوال الرواة":
"ليبحث عن رأي كُلِّ إمامٍ من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه، مستعينًا على ذلك بتتبع كلامه في الرواة، واختلاف الرواية عنه في بعضهم، مع مقارنة كلامه بكلام غيره.
فقد عرفنا في الأمر السابق رأي بعض من يوثق المجاهيل من القدماء إذا وجد حديث الراوي منهم مستقيمًا، ولو كان حديثًا واحدًا لم يروه عن ذاك المجهول إلا واحد.
فإن شئتَ فاجعل هذا رأيًا لأولئك الأئمة؛ كابن معين، وإن شئت فاجعله اصطلاحًا في كلمة "ثقة"، كأن يراد بها استقامة ما بلغ الموثِّق من حديث الراوي، لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة.
وقد اختلف كلام ابن معين في جماعةٍ، يوثق أحدهم تارة ويضعفه أخرى، منهم:
…
وجاء عنه توثيق جماعة، ضعفهم الأكثرون، منهم:
…
وهذا يُشعر بأن ابنَ معين كان ربما يطلق كلمة: "ثقة" لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب.
وقد يقول ابن معين في الراوي مرة: "ليس بثقة" ومرة: "ثقة" أو: "لا بأس به" أو نحو ذلك (راجع تراجم: جعفر بن ميمون التميمي، وزكريا بن منظور، ونوح بن جابر).
وربما يقول في الراوي: "ليس بثقة"، ويوثقه غيره (راجع تراجم: عاصم بن علي، وفليح بن سليمان، وابنه محمد بن فليح، ومحمد بن كثير العبدي).
وهذا قد يُشعر بأن ابن معين قد يطلق كلمة: "ليس بثقة" على معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه "ثقة" على المعنى المشهور لكلمة "ثقة".
فأما استعمال كلمة "ثقة" على ما هو دون معناها المشهور، فيدل عليه مع ما تقدم أن جماعة يجمعون بينها وبين التضعيف.
قال أبو زرعة في: عمر بن عطاء بن وراز: "ثقة ليِّن"، وقال الكعبي -كذا وصوابه: العجلي- في: القاسم أبي عبد الرحمن الشامي: "ثقة يكتب حديثه وليس بالقوي". وقال ابن سعد في: جعفر بن سليمان الضبْعِي: "ثقة، وبه ضعف".
وقال ابن معين في: عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم: "ليس به بأس، وهو ضعيف"، وقد ذكروا أن ابن معين يطلق كلمة "ليس به بأس" بمعنى "ثقة".
وقال يعقوب بن شيبة في: ابن أنْعُم هذا: "ضعيف الحديث، وهو ثقة صدوق، رجل صالح"، وفي: الربيع بن صبيح: "صالح صدوق ثقة، ضعيف جدًّا".
وراجع تراجم: إسحاق بن يحيى بن طلحة، وإسرائيل بن يونس، وسفيان بن حسين، وعبد الله بن عمر بن حفص (1) بن عاصم، وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وعبد السلام بن حرب، وعلي بن زيد بن جدعان، ومحمد بن مسلم بن تدرس، ومؤمل بن إسماعيل، ويحيى بن يمان.
وقال يعقوب بن سفيان في: أجلح: "ثقة، في حديثه لين"، وفي: محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى: "ثقة عدل، في حديثه بعض المقال، لين الحديث عندهم".
(1) في "التنكيل": "جعفر"، وهو خطأ.
وأما كلمة "ليس بثقة" فقد روى بشر بن عمر عن مالك إطلاقها في جماعةٍ، منهم: صالح مولى التَّوْءمَة، وشعبة مولى ابن عباس، وفي ترجمة مالك من "تقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم عن يحيى القطان، أنه سأل مالكًا عن صالح هذا؟ فقال:"لم يكن من القراء"(1)، وسأله عن شعبة هذا فقال:"لم يكن من القراء".
فأما صالح، فأثنى عليه أحمد وابن معين، وذكر أنه اختلط بأخرة، وأن مالكًا إنما أدركه بعد الاختلاط.
وأما شعبة مولى ابن عباس، فقال أحمد:"ما أرى به بأسًا"، وكذا قال ابن معين، وقال البخاري:"يتكلم فيه مالك، ويحتمل منه".
قال ابن حجر: "قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي: قوله "ويحتمل منه" يعني من شعبة، وليس هو ممن يترك حديثه، قال: ومالك لم يضعفه، وإنما شَحَّ عليه بلفظة ثقة - قلت: هذا التأويل غير شائع بل لفظة "ليس بثقة" في الاصطلاح توجب الضعف الشديد ..
وكلمة "ليس بثقة" حقيقتها اللغوية نفي أن يكون بحيث يقال له "ثقة"، ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى، وقد ذكرها الخطيب في "الكفاية" في أمثلة الجرح غير المفسر.
واقتصار مالك في رواية يحيى القطان على قوله: "لم يكن من القراء" يشعر بأنه أراد هذا المعنى.
نعم إذا قيل: "ليس بثقة ولا مأمون" تَعَيَّنَ الجرحُ الشديد، وإن اقتصر على "ليس بثقة" فالمتبادرُ جرحٌ شديدٌ، ولكن إذا كان هناك ما يُشعر بأنها استعملت في المعنى الآخر حُملت عليه وهكذا كلمة "ثقة" معناها المعروف: التوثيق التام، فلا تُصرف عنه إلا بدليل، إما قرينة لفظية؛ كقول يعقوب:"ضعيف الحديث، وهو ثقة صدوق"
(1) سبق التعليق على نسبة قول مالك هذا في صالح، فراجعه.
وبقية الأمثلة السابقة، وإما حالية منقولة، أو مستدل عليها بكلمة أخرى عن قائلها، كما مر في الأمر السابع عن "لسان الميزان" أو عن غيره، ولا سيما إذا كانوا هم الأكثر.
فتدبر ما تقدم، وقابِلْه بما قاله الكوثري في "الترحيب"(ص 15)، قال:
"وكم من راوٍ يُوثَّقْ ولا يُحتج به، كما في كلام يعقوب الفَسَوي، بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يعد ثقة، كما قال ابن مهدي: أبو خلدة صدوق مأمون، الثقة سفيان وشعبة".
وعلى الأستاذ مؤاخذات:
…
الثالثة: أن كلمة ابن مهدي تعطي بظاهرها أن كلمة "ثقة" إنما تطلق على أعلى الدرجات كشعبة وسفيان، ومع العلم بأن ابن مهدي وجميع الأئمة يحتجون برواية عدد لا يُحصون ممن هم دون شعبة وسفيان بكثير، فكلمته تلك تعطي بظاهرها أن من كان دون شعبة وسفيان فإنه وإن كان عدلا ضابطًا تقوم الحجة بروايته، فلا يقال له:"ثقة"، بل يقال:"صدوق" ونحوها.
الرابعة: أن كلمة ابن مهدي بظاهرها منتقدة من وجهين:
الأول: أنه وكافة الأئمة قبله وبعده يطلقون كلمة "ثقة" على العدل الضابط، وإن كان دون شعبة وسفيان بكثير.
الثاني: أن "أبا خلدة" قد قال فيه يزيد بن زريع، والنسائي، وابن سعد، والعجلي، والدارقطني:"ثقة"، وقال ابن عبد البر: "هو ثقة عند جميعهم، وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ.
وأصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث، فقال:"حدثنا أبو خلدة"، فقال له رجل:"كان ثقة؟ " فأجاب ابن مهدي بما مَرَّ.
فيظهر لي أن السائل فَخَّمَ كلمةَ "ثقة"، ورفع يده، وشدَّها بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات، فأجابه بحسب ذلك، فقوله:"الثقة شعبة وسفيان" أراد به الثقة الكامل الذي هو أعلى الدرجات، وذلك لا ينفي أن يُقال فيمن دون شعبة وسفيان:"ثقة" على المعنى المعروف، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر، وإن لم أر من نبَّه عليه.
وقريبٌ منه أن المروذي قال: "قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطان" وقد وثق أحمد مئات من الرواة يُعلم أنهم دون يحيى القطان بكثير.
الخامسة: أن قيام الدليل على إطلاق بعضهم في بعض المواضع كلمة "ثقة" كما قدمتُ أنا أمْثِلتَهُ، لا يُسَوِّغُ أن تحمل على ذلك المعنى حيث لا دليل". اهـ.
* * *