الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: قواعد النظر في كتب الفن لتعيين الرواة والبحث عن أحوالهم والحكم عليهم
.
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: منهج النظر في كتب تراجم الرجال
1 - قال الشيخ المعلمي في "القاعدة السادسة" من قسم القواعد من "التنكيل": "كيف البحث عن أحوال الرواة
؟
من أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل؛ للبحث عن حالِ رجلٍ وقع في سندٍ، فعليه أن يراعيَ أمورًا:
الأول:
إذا وجد ترجمةً بمثلِ ذاك الاسم، فليتثبت، حتى يتحققَ أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل؛ فإن الأسماء كثيرًا ما تشتبه، ويقع الغلط والمغالطة فيها، كما يأتي في الأمر الرابع. وراجع "الطليعة"(ص 11 - 43) ".
قال أبو أنس:
في الموضع المشار إليه من "الطليعة"، وهو النوع الأول: اثنا عشر مثالا على هذا الأمر، أكتفي هنا -لمناسبة المقام- بإيراد المثال الأول منها؛ لكونه مستوفيا لكثير من الفوائد المتعلقة بهذا المبحث، فأقول:
قال الشيخ المعلمي:
"صالح بن أحمد: قال الخطيب في "التاريخ" (13/ 394): "أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ حدثنا القاسم بن أبي صالح، حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا إبراهيم بن بشار، قال: سمعت سفيان بن عيينة
…
".
تكلم الأستاذ -يعني الكوثري- في هذه الرواية (ص 97) من "التأنيب" فقال:
"في سنده صالح بن أحمد التميمي، وهو ابن أبي مقاتل، القيراطي، هروي الأصل، ذكر الخطيب عن ابن حبان أنه كان يسرق الحديث
…
والقاسم بن أبي صالح الحذَّاء ذهبت كتبه بعد الفتنة، فكان يقرأ من كتب الناس، وكُفَّ بصرُه كما قاله العراقي، ونقله ابن حجر في "لسان الميزان"
…
".
أقول -المعلمي-:
أما صالح، فهو صالح بن أحمد، وهو موصوف في السند نفسه بأنه:
1 -
تميمي.
2 -
وحافظ.
3 -
ويظهر أنه همذاني؛ لأن شيخه والراوي عنه همذانيان.
4 -
ويروي عن القاسم بن أبي صالح.
5 -
ويروي عنه محمد بن عيسى بن عبد العزيز.
6 -
وينبغي بمقتضى العادة ألا (1) يكون توفي بعد القاسم بمدة.
(1) في المطبوع: "أن"، وصوبها الشيخ المعلمي في ترجمة: صالح بن أحمد من "التنكيل" رقم (109) إلى "ألا".
7 -
وينبغي بمقتضى العادة أن لا يكون بين وفاته ووفاة الراوي عنه مدة طويلة مما يندر مثله.
وهذه الأوجه كلها منتفية في حَقِّ القيراطي؛ فلم يُوصف بأنه تميمي، ولا بأنه حافظ -وإن قيل كان يُذكر بالحفظ، فإن هذا لا يستلزم أن يُطلَق عليه لقب "الحافظ"- ولم يُذكر أنه همذاني، بل ذكروا أنه هروي الأصل سكن بغداد (1)، ولم تُذكر له رواية عن القاسم (2).
ولا لمحمد بن عبد العزيز رواية عنه (3).
والظاهر أنه جيء به إلى بغداد طفلا، أو ولد بها؛ فإن في ترجمته من "تاريخ بغداد" ذكر جماعة من شيوخه، وكلهم عراقيون من أهل بغداد والبصرة ونواحيها، أو ممن ورد على بغداد، وسماعه منه قديم، فمن شيوخه البغدادين: يعقوب الدورقي المتوفى سنة 252، ويوسف بن موسى القطان المتوفى سنة 253، ومن البصريين: محمد بن يحيى بن أبي حزم القِطَعي المتوفى سنة 253.
وصرح الخطيب في ترجمة: فضلك الرازي بأن ابن أبي مقاتل بغدادي، فلا شأن له من جهة السماع بهمذان ولا بهراة، وكانت وفاته سنة 316 هـ، أي قبل وفاة
(1) عَلَّق المعلمي نفسه هنا، فقال: بل هو بغدادي، صرح به الخطيب (12/ 367)، وشيوخه عراقيون أو وافدون إلى العراق.
(2)
علق المعلمي هنا فقال: والقيراطي متهم بسرقة الحديث، وإنما يحمله على ذلك ترفعه أن يروي عن أقرانه فمن دونهم، وشيوخه توفوا سنة 252 أو نحوها، وأقدم شيخ سُمِّي للقاسم توفي سنة 277، وشيخه في هذه الحكاية توفي سنة 294، فكيف يروي سارق الحديث عن أصغر منه بنحو خمس عشر سنة عن أصغر من شيوخ السارق بنحو أربعين سنة؟!.
(3)
استدرك المعلمي هنا فقال: بل لم يدركه؛ فإن شيوخ محمد توفوا سنة 375 فما بعدها، إلا واحدًا منهم، يظهر أنه توفي قبلها بقليل، وذلك بعد وفاة القيراطي بنحو ستين سنة.
القاسم باثنين وعشرين سنة، وقبل وفاة محمد بن عيسى بن عبد العزيز بمائة وأربع عشرة سنة.
ومن اطَّلَعَ على "التأنيب" وغيره من مؤلفات الأستاذ -الكوثري- علم أنه لم يُؤْتَ من جهلٍ بطريق الكشف عن تراجم الرجال الواقعين في الأسانيد، ومعرفة كيف يعلم انطباق الزجمة على المذكور في السند من عدم انطباقها، ولا من بُخْلٍ بالوقت، ولا سآمة للتفتيش، فلابد أن يكون قد عرف أكثر هذه الوجوه -إن لم نقل جميعها- وبذلك عَلم لا محالة أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس بالقيراطي، فيحمله ذلك على مواصلة البحث، فيجد في "تاريخ بغداد" نفسه في الصفحة اليسرى التي تلت الصفحة التي فيها ترجمة القيراطي، وقد نقل الكوثري منها، سيجد ثمة رجلا آخر:
"صالح بن أحمد بن محمد أبو الفضل (1)، التميمي، الهمذاني، قدم بغداد، وحدث بها عن
…
والقاسم بن بندار (وهو القاسم بن أبي صالح كما في ترجمته من "لسان الميزان" وقد نقل الأستاذ عنها)
…
وكان حافظًا فهمًا ثقة ثبتًا
…
".
ولهذا الحافظ ترجمة في "تذكرة الحفاظ"(3/ 181) وفيها في أسماء شيوخه: "القاسم بن أبي صالح"، وفيها ثناء أهل العلم عليه، وفيها أن وفاته سنة 384، وذكره ابن السمعاني في "الأنساب" الورقة 592، وذكر في الرواة عنه:"أبا الفضل محمد بن عيسى البزاز"، وإذ كانت وفاة الحافظ سنة 384، فهي متأخرة عن وفاة القاسم بست وأربعين سنة، ومتقدمة على وفاة محمد بن عيسى بست وأربعين سنة، ومثل هذا يكثر في الفرق بين وفاة الرجل ووفاة شيخه ووفاة الراوي عنه.
فاتضح يقينًا أن هذا الحافظ الفهم الثقة الثبت هو الواقع في السند.
(1) في المطبوع من الطليعة: أبو الفاضل - كذا.
وقد عرف الكوثري هذا حق المعرفة، والدليل على ذلك:
أولًا: ما عرفناه من معرفته وتيقظه.
ثانيًا: أن ترجمة التميمي قريبة من ترجمة القيراطي التي طالعها الكوثري.
ثالثًا: أن من عادة الكوثري -كما يُعلم من "التأنيب"- أنه عندما يريد القدح في الراوي، يتتبع التراجم التي فيها ذلك الاسم واسم الأب فيما تصل إليه يده من الكتب، ولا يكاد يقنع بترجمة فيها قدح، لطمعه أن يجد أخرى فيها قدح أشفى لغيظه.
رابعًا: في عبارة الكوثري: "والقاسم بن أبي صالح الحذاء، ذهبت كتبه بعد الفتنة، وكان يقرأ من كتب الناس، وكُفَّ بصره، قاله العراقي، ونقله ابن حجر في "لسان الميزان".
والذي في "لسان الميزان"(4/ 460):
" (ز) - قاسم بن أبي صالح بندار الحذاء
…
روى عنه إبراهيم بن محمد بن يعقوب وصالح بن أحمد الحافظ
…
قال صالح: كان صدوقًا متقنًا، وكتبه صحاح بخطه، فلما وقعت الفتنة ذهبت عنه كتبه، فكان يقرأ من كتب الناس، وكُفَّ بصرُه، وسماع المتقدمين عنه أصح".
وحرف (ز) أول الترجمة إشارة إلى أنها من زيادة ابن حجر، كما نَبَّه عليه في خطبة "اللسان"، وذكر هناك أن لشيخه العراقي ذيلا على "الميزان"، وأنه إذا زاد ترجمة في "اللسان" فما كان من ذيل شيخه العراقي جعل في أول الترجمة حرف (ذ)، وما كان من غيره جعل حرف (ز)، فعلم من هذا أن ترجمة القاسم من زيادة ابن حجر نفسه، لا من ذيل العراقي.
وهَبْ أن الكوثري وهم في هذا، فالمقصود هنا أن الذي في الترجمة من الكلام في القاسم هو من كلام الراوي عنه: صالح بن أحمد الحافظ، فلماذا دَلَّس الكوثري النقل، وحرّفه، ونسبه إلى العراقي؟
الجواب واضح: وهو أن الكوثري خشي إن نسب الكلام إلى صالح بن أحمد الحافظ، أن يتنبه القارىء، فيفهم أن صالح بن أحمد الحافظ هذا هو الواقع في سند الخطيب، وليس هو القيراطي لوجهين:
الأول: أن القيراطي مطعون فيه، فلم يكن الحفاظ ليعتدوا بكلامه في القاسم، وكذلك الكوثري لم يكن ليعتد بكلام القيراطي.
الثاني: أن كلام صالح في الترجمة يدل أنه تأخر بعد القاسم، والقيراطي توفي قبل القاسم باثنتين وعشرين سنة، وبهذا يتبين أيضًا أن الكلام في القاسم لا يضره بالنسبة إلى رواية الخطيب، لأنها من رواية صالح بن أحمد الحافظ نفسه عنه، وهو المتكلم فيه، فلم يكن ليروي عنه إلا ما سمعه منه من أصوله قبل ذهابها.
فأعرض الكوثري لهذين الغرضين عن صالح بن أحمد الحافظ، ونسب كلامه إلى العراقي، وحذف من العبارة ما فيه ثناء القاسم (1)، وهذه عادة له ستأتي أمثلة منها إن شاء الله تعالى.
والمقصود هنا إثبات أن الكوثري قد عرف يقينًا أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس هو بالقيراطي، بل هو ذاك الحافظ الفهم الثبت، ولكن كان الكوثري مضطرًا إلى الطعن في تلك الرواية، ولم يجد في ذاك الحافظ مغمزًا، ووقعت بيده ترجمة القيراطي المطعون فيه، وعرف أن هذا الفن أصبح في غاية الغربة، فغلب على ظنه أنه إذا زعم أن الواقع في السند هو القيراطي، لا يرد ذلك عليه أحد، فأما الله تبارك وتعالى فله معه حساب آخر، والله المستعان". اهـ.
(1) كذا في المطبوع، وحق العبارة:"ثناء على القاسم".
ثم ترجم الشيخ المعلمي لـ "صالح بن أحمد" في "التنكيل" رقم (109) وفيها:
"لما كانت قضية صالح بن أحمد وما معها أول انتقاد أتى في "الطليعة"، رأى الأستاذ أنه لا يجدر به السكوت عليها مهما كَلَّفَهُ الكلام من التعسف والتعجرف
…
ذكر الأستاذ في "الترحيب"(ص 26) أنه قد سبقه إلى القول بأن صالح بن أحمد الواقع في السند هو القيراطي: الملك عيسى، واللجنة الأزهرية التي عَلَّقَتْ على الطبعة الثانية للمجلد الثالث عشر من "تاريخ بغداد".
فأقول: أما أنا فلم أكن وقفت على ذلك، وليس للأستاذ في ذلك عذر؛ إذ ليس هو ممن يقلد مثل من ذكره في هذه المواضع، وكلامه يدل على أنه لم يقلد، بل بحث ونظر، فغاية الأمر أن يكون جرَّأَهُ الغلط على التغالط
…
ثم قال الأستاذ في "الترحيب"(ص 28):
"ومع هذا لا مانع من قبول تحقيق الأستاذ اليماني في عدّ صالح بن أحمد في السند هو الموثَّق مُقَدِّرًا بحثه
…
".
ثم عاد فأقام الحجة على أن في نفسه مانعًا أيَّ مانع فقال:
"على أن صالح بن أحمد المضعَّف
…
"!!!
قال أبو أنس:
انتهى ما في المثال الأول من النوع الأول من الطليعة، ونعود إلى الأمر الثاني الذي ذكر الشيخ المعلمي أن يُراعَى لمن أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل للبحث عن أحوال الرجال.
قال المعلمي:
الثاني:
ليستوثق من صحة النسخة، وليراجع غيرها إذا تيسر له؛ ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب، راجع "الطليعة"(ص 55 - 59).
قال أبو أنس:
في النوع الثالث من مغالطات الكوثري ومجازفاته من الطليعة:
"اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضه".
ذكر الشيخ المعلمي لذلك أمثلةً منها مثال يتعلق بسنة ميلاد أبي عوانة الوضاح ابن عبد الله اليشكري، وإدراكه للحسن البصري ومحمد بن سيرين، ورؤيتهما، وحفظه بعض أحوالهما.
قال المعلمي:
"أبو عوانة الوضاح بن عبد الله، اتفق الأئمة على الثناء عليه، والاحتجاج بروايته، وأخرج له الشيخان في "الصحيحين" أحاديث كثيرة، ويأتي بعض ثناء الأئمة عليه في ترجمته من "التنكيل".
وصح أنه أدرك الحسن البصري وابن سيرين وحفظ بعض أحوالهما، قال البخاري في ترجمته من "التاريخ" (4 / ق 3/ 181): "سمع الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وقتادة
…
قال لنا عبد الله بن عثمان: أخبرنا يزيد بن زريع، قال: أخبرنا أبو عوانة، قال: رأيت محمد بن سيرين في أصحاب السكر، فكلما رآه قوم ذكروا الله. وقال لنا موسى بن إسماعيل: قال لي أبو عوانة: كل شيء حدثتك فقد سمعته" يعني أنه لا يدلس، ولا يروي عمن لم يسمع منه.
وقال ابن سعد في "الطبقات"(7 / ق 3/ 43): "أخبرنا هشام أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: رأيت الحسن بن أبي الحسن يوم عرفة خرج من المقصورة فجلس في صحن المسجد، وجمع الناس حوله".
وهذه الأسانيد بغاية الصحة، وفي "الصحيحين" من رواية أبي عوانة عن قتادة أحاديث، كحديث: "ما من مسلم يغرس غرسًا
…
" وحديث: "من نسي الصلاة
…
" وحديث: "تسحروا فإن في السحور بركة".
وأخرج له مسلم في "صحيحه" من حديثه عن الحكم بن عتيبة كما ذكره المزيّ في "تهذيبه".
ووفاة الحسن وابن سيرين سنة (110)، والحكم سنة (115)، وقتادة سنة (117)، وحماد سنة (120)، وقيل قبلها، وذكر ابن حبان في ترجمة قتادة من "الثقات" وفاته سنة (117)، وذكر في ترجمة أبي عوانة روايته عن قتادة ثم قال في أبي عوانة:"وكان مولده سنة اثنتين وتسعين، ومات في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعن ومائة".
هكذا في النسخة المحفوظة في المكتبة الآصفية في حيدرآباد الدكن تحت رقم (1 - 4) من فن الرجال، المجلد الثالث، الورقة (218)، الوجه الأول، ومثله في نسخة أخرى جيدة محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدرآباد.
وكانت عند الحافظ ابن حجر في "ثقات ابن حبان" نسخة يشكو في كتبه من سقمها، قال في "تهذيب التهذيب" (8/ 403): "
…
ذكره ابن حبان في "الثقات"
…
وقال: روى عنه حبيب، كذا في النسخة، وهي سقيمة". وقال في "لسان الميزان" (2/ 442) "رافع بن سلمان
…
ذكره ابن حبان في "الثقات"، لكن وقع في النسخة - وفيها سقم
…
رافع بن سنان".
فوقع في تلك النسخة السقيمة تخليط في ترجمة أبي عوانة، فذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" وبيّن أنه خطأ قطعًا، ومع ذلك ففي عبارة ابن حجر تخليط في النسخة من "تهذيب التهذيب" المطبوع، ففيه (11/ 118):
"وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان مولده سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقال: هو خطأ للشك فيه لأنه صح أنه رأى ابن سيرين
…
"، وقوله: "وقال هو خطأ
للشك فيه" صوابه والله أعلم: "كذا قال: وهو خطأ لا شك فيه"، وقد علمت أن البلاء من نسخة "الثقات" التي كانت عند ابن حجر.
وليس الكوثري ممن يخفى عليه هذا، ولا ما هو أخفى منه، لكنه كان محتاجًا إلى الطعن في أبي عوانة ظلمًا وعدوانًا، فقال (ص 118) في أبي عوانة: "فعلى تقدير ولادته سنة 122 كما هو المشهور -كذا- لا تصح رؤيته للحسن ولا لابن سيرين
…
"!!!. اهـ.
الثالث:
إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة، فلينظر: أثابتة هي عن ذاك الإمام أم لا؟ راجع "الطليعة"(ص 78 - 86)(1).
الرابع:
ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة؛ فإن الأسماء تتشابه، وقد يقول المحدث كلمة في راوٍ، فيظنها السامع في آخر، ويحكيها كذلك، وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه، ويخطىء بعض من بعده فيحملها على آخر.
ففي الرواة: "المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي" و"المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي" و"المغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي".
حكى عباس الدوري عن يحيى بن معين توثيق الأول، وتضعيف الثالث.
فحكى ابن أبي حاتم عن الدوري عن ابن معين توثيق الثاني، ووهَّمَهُ المزي، ووثق أبو داود الثالث، وضعف الأول، فذُكِرَت له حكاية الدوري عن ابن معين، فقال: غلط عباس.
(1) انظر: المبحث الخاص بـ "لزوم نقد أسانيد الجرح والتعديل" ففيه تطبيقات لهذا الأمر.
وفي الرواة: "محمد بن ثابت البناني" و"محمد بن ثابت العبدي" وغيرهما، فحكى ابن أبي حاتم عن ابن أبي خيثمة عن ابن معين أنه قال في الأول: "ليس بقوي
…
" وذى ابن حجر أن الذي في "تاريخ ابن أبي خيثمة" حكاية تلك المقالة في الثاني، وحكى عثمان الدارمي عن ابن معين في الثاني أنه ليس به بأس، وحكى معاوية بن صالح عن ابن معين أنه يُنكَر على الثاني حديث واحد، وحكى الدوري عن ابن معين أنه ضعف الثاني، قال الدوري: "فقلت له: أليس قد قلت مرة: ليس به بأس؟ قال: ما قلت هذا قط".
وفي الرواة: "عمر بن نافع مولى ابن عمر" و"عمر بن نافع الثقفي"، حكى ابن عدي في ترجمة الأول عن ابن معين أنه قال:"ليس حديثه بشيء"، فزعم ابن حجر أن ابن معين قالها في الثاني.
وفي الرواة: "عثمان البتي" و"عثمان البري"، حكى الدوري عن ابن معين في الأول:"ثقة"، وحكى معاوية بن صالح عنه فيه:"ضعيف"، قال النسائي:"وهذا عندي خطأ، ولعله أراد عثمان البري".
وفي الرواة: "أبو الأشهب جعفر بن حيان" و"أبو الأشهب جعفر بن الحارث"، وثق الإمام أحمد الأول، فحكى ابن شاهين ذلك في الثاني - كما في نبذة من كلامه طبعت مع "تاريخ جرجان"، وضعف جماعةٌ الثاني، فحكى ابن الجوزي كلماتهم في ترجمة الأول.
وفي الرواة: "أحمد بن صالح ابن الطبري الحافظ" و"أحمد بن صالح الشمومي"، حكى النسائي عن معاوية بن صالح عن ابن معين كلامًا، عده النسائي في الأول، فذكر ابن حبان: إنما قاله ابن معين في الثاني.
وفي الرواة: "معاذ بن رفاعة الأنصاري" و"معان بن رفاعة السلامي"، نقل الناس عن الدوري أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الثاني -وهو معان-:"ضعيف"،
ونقل أبو الفتح الأزدي، عن عباس، أنه حكى عن ابن معين، أنه قال في الأول -وهو معاذ-:"ضعيف"، فكأنه تصحف على الأزدي.
وفي الرواة: "القاسم العمري" وهو ابن عبد الله بن عمر بن حفص، و"القاسم المعمري" وهو ابن محمد، فحكى عثمان الدارمي عن ابن معين أنه قال:"قاسم المعمري كذاب خبيث"، قال الدارمي:"وليس كما قال يحيى".
والمعمري قد وثقه قتيبة أما العمري فكذبه الإمام أحمد، وقال الدوري عن ابن معين:"ضعيف ليس بشيء"، فيشبه أن يكون ابن معين إنما قال:"قاسم العمري كذاب خبيث"، فكتبها عثمان الدارمي، ثم بعد مدة راجعها في كتابه، فاشتبه عليه، فقرأها "قاسم المعمري
…
".
وفي الرواة: "إبراهيم بن أبي حرة" و"إبراهيم بن أبي حية"، روى ابن أبي حاتم من طريق عثمان الدارمي عن ابن معين توثيق الثاني، ومن تدبر الترجمتين كاد يجزم بأن هذا غلط على ابن معين، وأنه إنما وثق الأول.
وحكى أبو داود الطيالسي قصة لـ"أبي الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُسْ المكي" وحكى هو عن شعبة قصة نحو تلك لـ"محمد بن الزبير التميمي البصري".
وأخشى أن يكون الطيالسي وهم في أحدهما.
وذكر ابن أبي خيثمة في كلامه في "فطر بن خليفة" ما لفظه: "سمعت قطبة بن العلاء يقول: تركت فطرًا لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان".
وذكر هو في كلامه في: "فضيل بن عياض": "سمعت قطبة بن العلاء يقول: تركت حديث فضيل؛ لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان".
وأخشى أن تكون كلمة قطبة إنما هي في فطر فحكاها ابن أبي خيثمة مرة على الصواب، ثم تصحفت عليه "فطر" بفضيل، فحكاها في فضيل بن عياض.
وحكى محمد بن وضاح القرطبي، أنه سأل ابن معين عن "الشافعي" فقال:"ليس بثقة"، فحكاها ابن وضاح في الشافعي الإمام، فزعم بعض المغاربة أن ابن معين إنما قالها في:"أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الأعمى المشهور بالشافعي" فإنه كان ببغداد، وابن وضاح لقي ابن معين ببغداد، فكأنه سأل ابن معين عن الشافعي -يريد ابنُ وضاح الإمامَ- فظن ابنُ معين أنه يريد أبا عبد الرحمن؛ لأنه كان حيًا معهما في البلد.
وفي ترجمة: والد أبي عبد الرحمن من "التهذيب" أن ابن معين قال: "ما أعرفه، وهو والد الشافعي الأعمى".
الخامس:
إذا رأى في الترجمة: "وثقه فلان" أو"ضعفه فلان" أو"كذبه فلان"، فليبحث عن عبارة فلان، فقد لا يكون قال:"هو ثقه" أو "هو ضعيف" أو "هو كذاب".
ففي "مقدمة الفتح" في ترجمة: إبراهيم بن سويد بن حيان المدني: "وثقه ابن معين وأبو زرعة"، والذي في ترجمته من "التهذيب":"قال أبو زرعة: ليس به بأس"، وفي "المقدمة" في ترجمة: إبراهيم بن المنذر الحزامي: "وثقه ابن معين
…
والنسائي"، والذي في ترجمته من "التهذيب":
"قال عثمان الدارمي: رأيت ابن معين كتب عن إبراهيم بن المنذر أحاديث ابن وهب، ظننتها المغازى، وقال النسائي ليس به بأس".
وفي "الميزان" و"اللسان" في ترجمة: معبد بن جمعة: "كذبه أبو زرعة الكشي" وليس في عبارة أبي زرعة الكشي ما يعطي هذا، بل فيها أنه:"ثقة في الحديث" وقد شرحت ذلك في ترجمة معبد من قسم التراجم.
السادس:
أصحاب الكتب كثيرًا ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره، وربما يخل ذلك بالمعنى، فينبغي أن يراجع عدة كتب، فإذا وجد اختلافًا، بحث عن العبارة الأصلية ليبني عليها.
السابع:
قال ابن حجر في "لسان الميزان"(1/ 17):
"وينبغي أن يتأمل أيضًا أقوال المزكين ومخارجها
…
(1).
فمن ذلك أن الدوري قال [: سئل ابن معين عن محمد بن إسحاق، فقال: ثقة، فحكى غيره](2) عن ابن معين، أنه سئل عن إسحاق وموسى بن عبيدة الربذي: أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده، فقال: صدوق وليس بحجة.
ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيهما أحب إليك: يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضيله على يونس، وسئل عن عُقيل وزمعة بن صالح، فقال: عُقيل ثقة متقن، وهذا حكم على اختلاف السؤال، وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف أئمة الجرح والتعديل ممن وثق رجلا في وقت، وجرحه في وقت آخر
…
".
أقول: وكذلك ما حكوه من كلام مالك في ابن إسحاق، إذا حكيت القصة على وجهها، تبين أن كلمة مالك فلتة لسان عند سورة غضب، لا يقصد بها الحكم.
(1) في اللسان هاهنا زيادة كأن المعلمي حذفها اختصارا، ولفظها:"فقد يقول العدل: "فلان ثقة" ولا يريد أنه ممن يحتج بحديثه، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه ووجه السؤال له، فقد يُسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان وفلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بين حاله في التوسط".
(2)
سقطت هذه العبارة من اللسان الذي نقل منه المعلمي، وهي مثبتة في أصول خطية جيدة له.
وكذلك ما حكوه عن ابن معين أنه قال لشجاع بن الوليد: "يا كذاب"، فحملها ابن حجر على المزاح.
ومما يدخل في هذا أنهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه، أو إلى بعض الرواة عنه، أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه، أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه، وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك.
فإسماعيل بن عياش ضعفوه فيما روى عن غير الشاميين، وزهير بن محمد ضعفوه فيما رواه عنه الشاميون.
وجماعة آخرون ضعفوهم في بعض شيوخهم، أو فيما رووه بعد الاختلاط، ثم قد يُحْكَى التضعيف مطلقًا، فيتوهم أنهم ضعفوا ذلك الرجل في كل شيء.
ويقع نحو هذا في التوثيق، راجع ترجمة: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، قال أحمد مرة: ثقة، وكذا قال ابن معين، ثم بَيَّن كلٌ منهما مرة أنه اختلط، وزاد ابن معين، فَبَيَّنَ أنه كان كثير الغلط عن بعض شيوخه، غير صحيح الحديث عنهم.
ومن ذلك: أن المحدث قد يُسأل عن رجلٍ، فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله، ثم قد يَسمع له حديثًا، فيحكم عليه حكمًا يميل فيه إلى حاله في ذاك الحديث، ثم قد يسمع له حديثًا آخر، فيحكم عليه حكمًا يميل فيه إلى حاله في هذا الحديث الثاني، فيظهر بين كلامه في هذه المواضع بعض الاختلاف، وقع مثل هذا للدارقطني في "سننه" وغيرها -وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم- وقد يُنقل الحكم الثاني أو الثالث وحده، فيتوهم أنه حكم مطلق.
الثامن:
ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله، فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له، وتمكنت معرفتهم به.
بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة، وسمع منه مجلسًا واحدًا، أو حديثًا واحدًا، وفيمن عاصره ولم يلقه، ولكنه بلغه شيء من حديثه، وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه.
ومنهم من يجاوز ذلك.
فابن حبان قد يذكر في "الثقات" من يجد البخاري سماه في "تاريخه" من القدماء، وإن لم يعرف ما روى، وعمن روى، ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكره، وإن كان الرجل معروفًا مكثرًا.
والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد، وابن معين، والنسائي، وآخرون غيرهما، يوثقون من كان من التابعين أو اتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة، بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد، وإن لم يرو عنه إلا واحد، ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد.
فممن وثقه ابن معين من هذا الضرب:
الأسقع بن الأسلع، والحكم بن عبد الله البَلَوِي، ووهب بن جابر الخَيْواني وآخرون.
وممن وثقه النسائي:
رافع بن إسحاق، وزهير بن الأقمر، وسعد بن سمرة وآخرون.
وقد روى العوام بن حوشب، عن الأسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص حديثًا، ولا يُعرف الأسود وحنظلة إلا في تلك الرواية، فوثقهما ابن معين.
وروى همام، عن قتادة، عن قدامة بن وَبَرةَ، عن سمرة بن جندب حديثًا، ولا يُعرف قدامة إلا في هذه الرواية، فوثقه ابن معين، مع أن الحديث غريب، وله علل أخرى راجع "سنن البيهقي"(3/ 248).
ومن الأئمة من لا يُوَثِّقُ مَنْ تَقَدَّمَهُ حتى يطلع على عدة أحاديث له، تكون مستقيمة، وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي.
وهذا كله يدل على أن جُلَّ اعتمادِهم في التوثيق والجرح إنما هو على سَبْرِ حديث الراوي، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في "الثقات"، وذكره ابن حجر في "لسان الميزان"(1/ 14) واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيرًا من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي، فوجدها مستقيمة، تدل على صدقٍ وضبطٍ، ولم يبلغه ما يوجب طعنًا في دينه، وَثَّقَهُ، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف، وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره.
وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخًا، فسمع منه مجلسًا، أو ورد بغداد شيخٌ، فسمع منه مجلسًا، فرأى تلك الأحاديث مستقيمة، ثم سُئل عن الشيخ، وَثَّقَهُ، وقد يتفق أن يكون الشيخُ دجالا، استقبل ابن معين بأحاديث صحيحة، ويكون قد خلط قبل ذلك، أو يخلط بعد ذلك.
ذكر ابن الجنيد أنه سأل ابن معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال: "ما كان به بأس"، فَحُكِيَ له عنه أحاديثُ تُستنكر، فقال ابن معين:"فإن كان هذا الشيخ روى هذا فهو كذاب، وإلا فإني رأيت حديث الشيخ مستقيمًا".
وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: "ثقة وقد كتبت عنه"(1)، وقد كذبه أحمد، وقال:"أحاديثه موضوعة"، وقال أبو داود:"غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة".
(1) لكن ابن معين يظهر أنه قد غير رأيه بعد ذلك، فكذبه، كما في رواية ابن محرز عنه، ولم يرضه، كما في رواية الدوري عنه وقال: ليس بشيء، كما في رواية ابن الجنيد عنه.
وهكذا يقع في التضعيف، ربما يجرح أحدهم الراوي لحديثٍ واحدٍ استنكره، وقد يكون له عذر.
ورد ابنُ معين مصر، فدخل على عبد الله بن الحكم، فسمعه يقول: حدثني فلان وفلان وفلان، وعَدَّ جماعةً، روى عنهم قصة، فقال ابن معين:"حدثك بعض هؤلاء بجميعه وبعضهم ببعضه؟ " فقال: "لا، حدثني جميعهم بجميعه، فراجعه فأصر، فقام يحيى وقال للناس: يكذب ".
ويظهر لي أن عبد الله إنما أراد أن كلا منهم حدثه ببعض القصة، فجمع ألفاظهم، وهي قصة في شأن عمر بن عبد العزيز، ليست بحديث، فظن يحيى أن مراده أن كلا منهم حدثه بالقصة بتمامها على وجهها، فكذبه في ذلك، وقد أساء الساجي إذ اقتصر في ترجمة عبد الله على قوله:"كذبه ابن معين".
وبلغ ابنَ معين أن أحمد بن الأزهر النيسابوري يحدث عن عبد الرزاق بحديث استنكره يحيى، فقال:"من هذا الكذاب النيسابوري الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟! "، وكان أحمد بن الأزهر حاضرًا فقام، فقال:"هو ذا أنا"، فتبسم يحيى وقال: "أما إنَّك لست بكذاب
…
".
وقال ابن عمار في إبراهيم بن طهمان: "ضعيف مضطرب الحديث"، فبلغ ذلك صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة، فقال: "ابن عمار من أين يعرف إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة
…
والغلط فيه من غير إبراهيم".
التاسع:
ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه، مستعينًا على ذلك بتتبع كلامه في الرواة، واختلاف الرواية عنه في بعضهم، مع مقارنة كلامه بكلام غيره.
فقد عرفنا في الأمر السابق رأي بعض من يوثق المجاهيل من القدماء إذا وجد حديث الراوي منهم مستقيمًا، ولو كان حديثًا واحدًا لم يروه عن ذاك المجهول إلا واحد.
فإن شئت فاجعل هذا رأيًا لأولئك الأئمة؛ كابن معين، وإن شئت فاجعله اصطلاحًا في كلمة "ثقة"، كأن يراد بها استقامة ما بلغ الموثِّق من حديث الراوي، لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة.
وقد اختلف كلام ابن معين في جماعةٍ، يوثق أحدهم تارة ويضعفه أخرى، منهم: إسماعيل بن زكريا الخُلقاني، وأشعث بن سَوّار، والجراح بن مَليح الرؤاسي، و [حرب](1) ابن أبي العالية، والحسن بن يحيى الخُشَني، والزبير بن سعيد، وزهير بن محمد التميمي، وزيد بن حبان الرقي، وسَلْم العلوي، وعافية القاضي، وعبد الله [بن](2) الحسين أبو حريز، وعبد الله بن عقيل أبو عقيل، وعبد الله بن عمر بن حفص العمري، وعبد الله ابن واقد أبو قتادة الحراني، وعبد الواحد بن غياث، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، وعتبة بن أبي حكيم، وغيرهم.
وجاء عنه توثيق جماعة، ضعفهم الأكثرون، منهم: تمام بن نجيح، ودَرّاج بن سَمْعان، والربيع بن حبيب الملاح، وعباد بن كثير الرملي، ومسلم بن خالد الزنجي، ومسلمة بن علقمة، وموسى بن يعقوب الزمعي، ومُؤَمَّل بنُ إسماعيل، ويحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني.
وهذا يشعر بأن ابن معين كان ربما يطلق كلمة: "ثقة" لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب.
وقد يقول ابن معين في الراوي مرة: "ليس بثقة" ومرة: "ثقة" أو: "لا بأس به" أو نحو ذلك (راجع تراجم: جعفر بن ميمون التميمي، وزكريا بن منظور، ونوح بن جابر).
وربما يقول في الراوي: "ليس بثقة"، ويوثقه غيره (راجع تراجم: عاصم بن علي، وفليح بن سليمان، وابنه محمد بن فليح، ومحمد بن كثير العبدي).
(1) في المطبوع: "جرير" وهو خطأ.
(2)
سقط من المطبوع.
وهذا قد يُشعر بأن ابن معين قد يطلق كلمة: "ليس بثقة" على معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه "ثقة" على المعنى المشهور لكلمة "ثقة".
فأما استعمال كلمة "ثقة" على ما هو دون معناها المشهور، فيدل عليه مع ما تقدم أن جماعة يجمعون بينها وبين التضعيف.
قال أبو زرعة في: عمر بن عطاء بن وراز: "ثقة ليِّن"، وقال الكعبي (1) في: القاسم أبي عبد الرحمن الشامي: "ثقة يكتب حديثه وليس بالقوي". وقال ابن سعد في: جعفر بن سليمان الضُّبَعِي: "ثقة وبه ضعف".
وقال ابن معين في: عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم: "ليس به بأس، وهو ضعيف"، وقد ذكروا أن ابن معين يطلق كلمة "ليس به بأس" بمعنى "ثقة".
وقال يعقوب بن شيبة في: ابن أنْعُم هذا: "ضعيف الحديث، وهو ثقة صدوق، رجل صالح"، وفي: الربيع بن صبيح: "صالح صدوق ثقة، ضعيف جدًّا".
وراجع تراجم: إسحاق بن يحيى بن طلحة، وإسرائيل بن يونس، وسفيان بن حسين، وعبد الله بن عمر بن [حفص](2) بن عاصم، وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وعبد السلام بن حرب، وعلي بن زيد بن جدعان، ومحمد بن مسلم بن تدرس، ومؤمل بن إسماعيل، ويحيى بن يمان.
وقال يعقوب بن سفيان في: أجلح: "ثقة، في حديثه لين"، وفي: محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى: "ثقة عدل، في حديثه بعض المقال، لين الحديث عندهم".
(1) كذا، وصوابه:"العجلي"، وهو أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب كتاب "الثقات" وفيه هذا القول، نقله عنه ابن حجر في "التهذيب".
(2)
في المطبوع: "جعفر" وهو خطأ.
وأما كلمة "ليس بثقة" فقد روى بشر بن عمر عن مالك إطلاقها في جماعةٍ، منهم: صالح مولى التَّوْأمَة، وشعبة مولى ابن عباس، وفي ترجمة مالك من "تقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم عن يحيى القطان، أنه سأل مالكًا عن صالح هذا؟ فقال:"لم يكن من القراء"، وسأله عن شعبة هذا فقال:"لم يكن من القراء"(1).
فأما صالح، فأثنى عليه أحمد وابن معين، وذكر أنه اختلط بأخرة، وأن مالكًا إنما أدركه بعد الاختلاط.
وأما شعبة مولى ابن عباس، فقال أحمد:"ما أرى به بأسًا"، وكذا قال ابن معين، وقال البخاري:"يتكلم فيه مالك، ويحتمل منه".
قال ابن حجر: "قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي: قوله "ويحتمل منه" يعني من شعبة، وليس هو ممن يترك حديثه، قال: ومالك لم يضعفه، وإنما شَحَّ عليه بلفظة ثقة - قلت: هذا التأويل غير شائع، بل لفظة "ليس بثقة" في الاصطلاح توجب الضعف الشديد، وقد قال ابن حبان: روى عن ابن عباس ما لا أصل له، حتى كأنه ابن عباس آخر".
أقول: ابنُ حبان كثيرًا ما يُهَوِّلُ مثلَ هذا التهويل في غير محله، كما يأتي في ترجمته، وترجمةِ محمد بن الفضل من قسم التراجم.
وكلمة "ليس بثقة" حقيقتها اللغوية نفي أن يكون بحيث يقال له "ثقة"، ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى، وقد ذكرها الخطيب في "الكفاية" في أمثلة الجرح غير المفسر.
واقتصار مالك في رواية يحيى القطان على قوله: "لم يكن من القراء" يشعر بأنه أراد هذا المعنى.
(1) لم أر هذا في "التقدمة" وإنما الظاهر أن الشيخ المعلمي أخذه عن "تهذيب التهذيب"(4/ 303). وأصله في "العلل ومعرفة الرجال" لعبد الله بن أحمد (5056) وغيره، فوهم الشيخ رحمه الله في الإحالة.
نعم إذا قيل: "ليس بثقة ولا مأمون" تَعَيَّنَ الجرحُ الشديد، وإن اقتصر على "ليس بثقة" فالمتبادرُ جرحٌ شديدٌ، ولكن إذا كان هناك ما يُشعر بأنها استعملت في المعنى الآخر حُملت عليه، وهكذا كلمة "ثقة" معناها المعروف: التوثيق التام، فلا تُصرف عنه إلا بدليل، إما قرينة لفظية؛ كقول يعقوب:"ضعيف الحديث، وهو ثقة صدوق" وبقية الأمثلة السابقة، وإما حالية منقولة، أو مستدل عليها بكلمة أخرى عن قائلها، كما مر في الأمر السابع عن "لسان الميزان" أو عن غيره، ولا سيما إذا كانوا هم الأكثر.
فتدبر ما تقدم، وقابِلْه بما قاله الكوثري في "الترحيب"(ص 15)، قال:
"وكم من راوٍ يُوثَّقْ ولا يُحتج به، كما في كلام يعقوب الفَسَوي، بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يُعَدُّ ثقة، كما قال ابن مهدي: أبو خلدة صدوق مأمون، الثقة سفيان وشعبة".
وعلى الأستاذ مؤاخذات:
الأولى: أنه ذكر هذا في معرض الاعتذار، وأنا لم أناقشه فيما قام الدليل فيه.
الثانية: أن كلمة يعقوب التي أشار إليها هي قوله: "كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات (1)، ما أحدٌ منهم أَتَّخِذُه عند الله حجةً، إلا أحمد بن صالح بمصر وأحمد ابن حنبل بالعراق"، أوردتها في "الطليعة"(ص 21) إلى قوله "ثقات"، ذكرت ذلك من جملة الشواهد على أن شيخ يعقوب في ذاك السند هو أحمد بن الخليل الموثق، لا أحمد بن الخليل المجروح، فزعم الأستاذ في "الترحيب" أنني اقتصرت على أول العبارة لأُوهم أن شيخ يعقوب في ذاك السند ثقة يحتج به! وهذا كما ترى.
أولًا: لأن سياق كلامي هناك واضح في أني إنما أردت تعيين شيخ يعقوب، فأما الاحتجاج وعدمه فلا ذكر له هناك.
(1) اعترض الإمام الذهبي في "السير" ترجمة أحمد بن صالح على هذا الخبر، واستنكره، ولم يؤمن به.
ثانيًا: لأن بقية عبارة يعقوب لا تعطي أن شيوخه كلهم غير الأحمدين لا يحتج بأحد منهم في الرواية، كيف وفيهم أئمة أجلة قد احتج بروايتهم الأحمدان أنفسهما، بل قام الإجماع على ذلك، وإنما أراد يعقوب بالحجة عند الله من يؤخذ بروايته ورأيه وقوله وسيرته.
الثالثة: أن كلمة ابن مهدي لا توافق مقصود الأستاذ؛ فإنها تعطي بظاهرها أن كلمة "ثقة" إنما تطلق على أعلى الدرجات كشعبة وسفيان، ومع العلم بأن ابن مهدي وجميع الأئمة يحتجون برواية عدد لا يُحصون ممن هم دون شعبة وسفيان بكثير، فكلمته تلك تعطي بظاهرها أن من كان دون شعبة وسفيان فإنه وإن كان عدلًا، ضابطًا تقوم الحجة بروايته، فلا يقال له:"ثقة"، بل يقال:"صدوق" ونحوها، وأين هذا من مقصود الأستاذ؟
الرابعة: أن كلمة ابن مهدي بظاهرها منتقدة من وجهين:
الأول: أنه وكافة الأئمة قبله وبعده يطلقون كلمة "ثقة" على العدل الضابط، وإن كان دون شعبة وسفيان بكثير.
الثاني: أن "أبا خلدة" قد قال فيه يزيد بن زريع، والنسائي، وابن سعد، والعجلي، والدارقطني:"ثقة"، وقال ابن عبد البر:"هو ثقة عند جميعهم، وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ".
وأصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث، فقال:"حدثنا أبو خلدة"، فقال له رجل:"كان ثقة؟ " فأجاب ابن مهدي بما مر. فيظهر لي أن السائل فَخَّمَ كلمةَ "ثقة"، ورفع يده، وشدَّها بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات، فأجابه بحسب ذلك، فقوله:"الثقة شعبة وسفيان" أراد به الثقة الكامل الذي هو أعلى الدرجات، وذلك لا ينفي أن يُقال فيمن دون شعبة وسفيان:"ثقة" على المعنى المعروف، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر، وإن لم أر من نبَّه عليه.