الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المكافح الأول
نفضنا أيدينا من تراب القبر، ثم التفت إلى شاب بجانبي أسأله عن هذه النفس المؤمنة - التي فارقت دنيا الشر والإثم وعالم البغي والعدوان، واختار الله لها ما عنده-: فقال لي: إنها امرأة نفساء، تركت ستة أولاد صغار، وماتت وهي تكافخ آلام الوضع لتلفظ بالسابع إلى ساحل الحياة.
فالتفت إلى الوالد الشقي الذي أصبح أما وأبا لستة كزغب القطا، ليكافح- هو الآخر- ولكن بمفرده، في سبيل إعداد النسل للحياه، وحييته بدمعة حرى، حيا- هو- بأحسن منها، وأوصيته بالصبر ودعوت الله له.
وفي صباح أمس لقيني صديقي السيد محمد بن كانون فقال لي- بعد التحية -: ألم يبلغك أن صديقنا السيد علي قادري قد ولد له ثلاثة أبناء توائم؟ فقلت له مدهوشا: كلا، وهل وصل الوفد الكريم كله إلى دنيانا بخير؟ قال: كلهم- والحمد لله- قد وصلوا بخير، فقلت له: وكيف حال أمهم؟ قال: هي في قيد الحياة- على كل حال- وإن لقيت في سبيل ذلك الشدائد والأهوال، إذ تعسر عليها الوضع، ولم تتخلص من هذا الحمل الثقيل إلا بعملية جراحية في البطن رغم ضعفها، وهي الآن تقاسي ألمين مرهقين: ألم الوضع، وألم العملية، فقلت له: وكيف حال الصديق الوالد؟ قال: هو -كما تعهده- يحمد الله على كل حال.
فكرت- بعد ذلك- طويلا في هذه المهمة الشاقة التي أعد الله لها المرأة على ضعفها ورقتها، وقلت: لك الله أيتها الأم، فإنك إن عشت، عشت من أجل النسل وإن مت، مت في سبيل النسل، ولك الله، فأنت المكافح الأول لعمارة هذه الحياة،
وهل الحياة إلا مزرعة، نباتها النسل؟ وأنت إن عشت، عشت مكافحة لتنمية هذا النبات، وتوفير الراحة للبنين والبنات، وإن مت، مت شهيدة هذا الكفاح، مرة أثناء خروج النبات، ومرة قبله، ومرة بعده، ولها الله هذه الأم التي تلد ثلاثة أبناء في وقت واحد، إنني لأتصورها ترى الموت شاخصا يتراءى لنا ظرها في كل لحظة، وتود لو يريحها الموت مما تعاني من آلام تذيب الصخر، ولكنها تعيش لتكون وقاء وغذاء وفداء لأطفالها الثلاثة، ثم أتصورها بعد ذلك تسهر الليل كله ولا تذوق للنوم طعما، وأنى لها بالنوم وكلما أمسك طفل عن البكاء أو الرضاع قام مقامه اثنان في مرة واحدة؟ وأتصورها في النهار تنفق بياضه في غسل ثياب أبنائها وتجفيفها، وفي إسكاتهم إذا بكوا وفي تغذيتهم إذا جاعوا، زيادة على عملها الراتب في البيت.
فأي كفاح في معترك الحياة كهذا الكفاع، الذي أناطه الله بالأم؟ فلا عجب أن يخولها الإسلام، حق حضانة الولد، اعترافا بمجهوداتها واطمئنانا إلى كفاءتها، وثقة بصدق عاطفتها، ولله ما أقوى ذلك الدفاع الذي دافعت به أم عن حقها في الحضانة فيما وعى لنا التاريخ من قصة النزاع الذي وقع بين أبي الأسود الدؤلي وبين زوجته على ابن منهما كل منهما يدعيه، فقالت المرأة: أنا أحق به لأني حملته تسعة أشهر ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني كما ترى مراهقا، فقال أبو الأسود: حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه فإن كان لك بعض الحق، فلي الحق كله أو جله، فقال القاضي: أجيبي أيتها المرأة عن دفاع زوجك فقالت لئن حملته خفا لقد حملته ثقلا، ولئن وضعته شهوة، فقد وضعته كرها، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: أدفع إلى المرأة غلامها ودعني من سجعك.
ولا غضاضة فإذا كان الجزاء على حسب الجهد فالإسلام قد رعى للأم جهودها العظيمة في دنيا البيت والأسرة وجازاها بحسبها، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أبيوك).
والحديث يوافق في الدعوة إلى حسن مصاحبة الأم قول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا
كَثِيرًا}، وليتأمل القاريء جيدا قوله:{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} الآية، فإن فيه قطع الطريق عن أعذار المعتذرين لهضم حقوق المرأة وإساءة عشرتها، بدافع نفور الطبع، فربما جعل الله فيما نكره ما نحب ونحن لا نعلم، فلا نغتر بتمويه الطبع.
بل الأعجب من ذلك أن يجعل النبي صلى الله عليه يصلم: مقياس خير الرجل أن يكون برا بهذه القديسة المجاهدة، مديرة البيت، ومنجبة الأولاد، ومنشئة الأجيال، إذ يقول:"خيركم خيركم لأهله" وأن يجعل الجنة تحت أقدامها إذ قول: "الجنة تحت أقدام الأمهات"، وخير من ذلك كله أن يطبق المسلمون هذه التعاليم وأن يبلغوا من حرصهم على برهم بأمهاتهم أن يقول أحدهم:- وهو الإمام الشعبي-: ما أدركت أمي فأبرها، ولكنني لا أسب أحدا فيسبها!. وذلك ما كانت به الأسر الإسلامية وثيقة البناء، متلاحمة الأجزاء.
أما اليوم فالأسر الإسلامية- مع الأسف- في تفكك وأنحلال، مما يشهد لتعاليم الإسلام التي نبذها المسلمون بأنها الدواء الناجع والوسيلة الفعالة لإنقاذ البشرية من شقوتها، ورفعها من كبوتها.