الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فروق
…
كتب إلي أحد الموظفين يثني على هذه الفصول ويلاحظ علي أنني أقحمته- أو أدمجته- في الموظفين ولم أستثنه من بينهم- في فصل (حسن التوجيه) إذ يرى أنه- وإن كان موظفا بالاسم والشكل- متميز عن الموظفين بيقظة الشعور وسلامة الطوية وحسن السيرة.
وجوابي إليك وإلى أمثالك ممن امتازوا امتيازك- أيها الموظف الممتاز- أنني- أولا- تحريت الدقة في هذا الموضوع ولم أعمم، بل التزمت القصد إذ قلت- عن الفقيد الرئيس-: لو كان موظفا لربما كان (كأكثر) هؤلاء الموظفين
…
فكلمة (أكثر) تخرجك وتحرج أمثالك من هؤلاء الذين لا يهمهم إلا ما يتقاضونه- في نهاية كل شهر- على وظيفة لم يرشحم لها أنهم أحق بها وأهلها، بل لم يرشحم لها إلا عكس ذلك تماما وهو ما يجرح ويقدح فيها، ويعين على القضاء عليها والتخلص منها، هذا إذا كنت كما ذكرت لا ينطبق عليك ما عليه زملاؤك الموظفون، أما إذا كنت عبد الوظيف وعبد الدينار والدرهم، فمكانك من هذه (الأكثرية) لا أستطيع أن أزحزحك عنه لا أنا ولا أي شخص آخر، وإنما أنت وحدك الذي تستطيع أن تفعل ذلك.
ثانيا- إن الوظيف- من أصله طوق من ذهب، يغري بلمعانه البسطاء الأغرار ولكنه يستعبد الأحرار، فمنذ كان الوظيف وقبل أن تعرف الدنيا بلاء الاستعمار، وهو ذلك المخدر القوي الذي يشل الأعصاب عن الحركة، ويكم الأفواه عن النطق، ويحرم صاحبه نعمة حرية الرأي والعقيدة، وفضيلة مقاومة المنكر ومحارلة البغي والعدوان وهذا ما جعل أحرار الفكر، وأحياء القلوب، يعافونه ويتحامون الوقوع في شركه،
ويربأون بأفكارهم أن تقيد، وبضمائرهم أن تخدر، وبدينهم تعبث به الأهواء، ويتعرضون في امتناعهم من قبول الوظيف لألوان من البلاء: من سجن وضرب بالسياط، وإحراق للمنازل:
عرض أبو جعفر المنصور القضاء على أبي حنيفة الإمام، فلم يقبل، فضرب مائة سوط حتى تفصد دمه وسال على عقبيه، فقال للمنصور، عمه عبد الرحمن علي بن عباس: سللت على نفسك مائة ألف سيف، هذا فقيه أهل العراق، فقيه أهل المشرق، فأمر له أبوجعفر بثلاثين ألف درهم- كالتعويض عن إساءته إليه- فلم يقبلها، فقيل له: لو تصدقت بها، فقال: أيوجد عندهم الحلال؟ ذلك لأنه يذكر قوله في هذا الباب: (من جعل قاضيا فهو كالغريق إلى متى يسبح وإن كان سابحا؟).
واستقضى عبد الله بن وهب، فدخل داره وأغلق بابه فهدم عليه بعض داره، فبصر به أسد بن سعد- وهو يتوضأ في صحن الدار- فقال له: ألا تخرج إلى الناس فتقضي بكتاب الله، وسنة رسوله؟ فرفع رأسه وقال: إلى هنا انتهى عقلك؟ أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء، وأن القضاة يحشرون مع السلاطين؟
وقال الإمام سحنون: (ما أشقى المفتي والحاكم
…
ها أنا ذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب، وتوطأ به الفروج، وتؤخذ به الحقوق، أما كنت عن هذا غنيا؟).
وفرق كبير بين من يعرض عليه الوظيف، وبين من يعرض نفسه على الوظيف، ويتوسل إليه بعمل غير شريف، بل إن الإسلام لا يخول الوظيف من يطلبه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما: "يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر، مثل ذلك، فقال: إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا حرص عليه" وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها".
وهل موظفوا اليوم قائمون بحق هذه الأمانة مؤدون لما عليهم فيها؟ أم أن الأمر من مضحكات المتنبي إذ يقول في مصر عندما رآى ملكها عبدا (على عهد كافور الإخشيدي)
وكم ذا بمصر من المضحكات
…
ولكنه ضحك كالبكاء
حقا، فشر المصائب ما يضحك كما يقول من قصيدة أخرى.
ثالثا، نحن لا يهمنا هؤلاء الموظفون الذين بادروا بوضع هذا الغل في أعناقهم، ولم يفكروا في عاقبة أمرهم، فإن الكلام معهم لا يجدي ولا يأتي بفائدة، بل هو مضيعة للوقت الثمين، إذ لا يستطيعون اليوم أن يتخلوا عما ألفوه من هذه العيشة الناعمة الخاملة والمبالغ المالية الطائلة، وإنما يهمنا من بقي بعد لم يوضع الطوق الدهبي في عنقه، يهمنا الجيل الجديد الذي تنتظره أمته بفارغ الصبر، والذي رأيناه أخذ يتهافت على هذا الباب تهافت العصافير على حبة القمح التي تخفى تحتها الموت الزؤام في الفخ الذي أعد لاصطيادها، ولعل هذا ما حدا بالفقيد عبد الحميد أن يورد كلمة أستاذه:(يا عبد الحميد إياك والوظيف).