الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحسد
كتب إلي أحد القراء الأدباء يقترح علي أن أتناول هذا الداء من أدواء القلوب، بفصل من هذه الفصول، وكان ذلك منذ أيام
…
وبعد كتابة الفصل السابق في مرض القلب ودوائه، رأيت أن الفرصة قد سنحت لتلبية هذا الطلب، وتحقيق رغبة هذا الأخ.
قيل للحسن البصرى: أيحسد المؤمن أخاه؟ قال: لا أبا لك، أنسيت إخوة يوسف؟ يشير الحسن بذلك إلى حسد أبناء يعقوب ليوسف- أخيهم لأبيهم- وإلقائهم له في الجب، لما رأوه من إيثار أبيهم إياه ولاسيما بعد أن سمع منه رؤياه، التي يشير إليها قوله تعالى:{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ، وليس مبعث هذا الكيد من أبناء- يعقوب لأخيهم إلا الحسد.
- إذن- فالحسد، لا يكاد يسلم منه أحد، وهو داء قديم مزمن، رافق الخليقة منذ نشأتها، حتى قيل: (الحسد أول ذنب عصى الله به في السماء- يعني حسد إبليس- وأول ذنب عصى الله به في الأرض- يعني حسد أحد أبناء آدم لأخيه حتى قتله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، وليس مبعث قتل هذا الأخ لأخيه إلا
الحسد، ومن هنا قال حاتم الأصم:"أصل الطاعة ثلاثة أشياء: الخوف، والرجاء، والمحبة، وأصل المعصية ثلاثه أشياء: الكبر، والحرص، والحسد" نعم يبعث على الطاعة واحد من ثلاثة، أو ثلاثة مجتمعة: خوف عقاب، أو رجاء ثواب، أو محبة صادقة، كتلك المحبة التي تحدثت عنها رابعة العدوية عندما قال لها سفيان الثوري لكل عبد شريطة، ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قالت له: ما عبدت الله خوفا من النار، فأكون كالأمة السوء، إن خافت عملت، ولا حبا في الجنة، فأكون كالأمة السوء، إن أعطيت عملت، ولكني عبدته حبا له وشوقا إليه وأول ما دفع إلى المعصية ثلاثه أشياء: الكبر ويتمثل في تكبر إبليس عن السجود لآدم، والحرص، ويتمثل في حرص آدم وحواء على الأكل من الشجرة المحرمة، والحسد، ويتمثل في كيد إبليس لهما حتى أخرجهما من الجنة، وفي قتل قابيل لأخيه هابيل {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} .
وإذا كان الحسد قديما أصيلا، فهو داء عقام عياء، يعز دواؤه، ويتعذر شفاؤه، كالشجرة كلما غاصت أصولها في الأرض استعصى اقتلاعها:
[كل العداوات قد ترجى إماتتها
…
إلا عداوة من عاداك من حسد]
وقال معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها. ولكن الحاسد ينال- على ذلك- جزاءه العادل العاجل بما يعتلج في إحشائه، من نار الحسد القاتل، (ولله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله)، بل إن بلاء الحاسد ليتفاقم ويتزايد حتى يستلفت نظر المحسود ويسترعى انتباهه، فيستدر رحمته وعطفه بمثل قول القائل:
إني لأرحم حاسدي لحرما
…
ضمنت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم
…
في جنة وقلوبهم في نار
…
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي
…
فكأنني برقعت وجه نهار
…
وسترتها بتواضعي فتطلعت
…
أعناقها تعلو على الأستار
…
وقال ابن المقفع: (أقل ما لتارك الحسد في تركه أن يصرف عن نفسه عذابا ليس بمدرك به حظا، ولا غائظ به عدوا، فإنا لم نر ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، طول أسف،
ومحالفة كآبة، وشدة تحرق، ولا يبرح زاريا على نعمة الله ولا يجد لها مزالا، ويكدر على نفسه ما به من النعمة، فلا يجد لها طعما، ولا يزال ساخطا على من لا يترضاه، ومتسخطا لما لن ينال فوقه، فهو منغص المعيشه، دائم السخطة، محروم الطلبة، لا بما قسم له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسود يتقلب في فضل الله مباشرا للسرور، منتفعا به ممهلا فيه إلى مدة، ولا يقدر الناس لها على قطع وانتقاص. فإذا كان الحسد ينال من صاحبه هذا المنال، ويجر عليه هذا الوبال، دون أن يصل إلى غرضه السيء من أبطال تدبير الله وصرف نعمه عن خلقه فلم لا يريح نفسه من جهد بلا فائدة، وعناء بلا غناء، ويصنع ما يصنعه التاجر الكيس الذي لا يقدم على تجارة يتحقق فيها الخسارة، أو يفعل ما فعله ذلك الأعربي الفطن، الذي يروي لنا الأصمعي قصته اذ يقول: رأيت أعرابيا قد أتت له مائة وعشرون سنة، فقلت له: ما أطول عمرك! فقال: تركت الحسد فبقيت! ثم لماذا الحسد، كل ما يتكالب عليه الحساد، يؤول إلى زوال، ويصير إلى نفاد؟.
[لو فكر العاشق في منتهى
…
حسن الذي يسبيه لم يسبسه]
وإذا كان في هذه الحياة شيء يستحق أن يتحاسد الناس عليه، فهو ما أشار صلى الله عليه وسلم إليه إذ قال:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
على أن المراد بالحسد في الحديث هو التنافس أو الغبطة التي هى تمني مثل ما للنايس من نعمة، لا الحسد على بابه، وهو تمني زوال النعمة على الغير، أو أن المراد، أن الحسد إذا حسن في شيء ففي هذين، أي في أن تنفع المجتمع بأحد شيئين: وهما المال والعلم، وأي شيء أنفع من المال، الذي هو قوام الأعمال؟ ومن العلم الذي صلح عليه أمر الدنيا والدين، والذي لا يصلح عمل ولا عبادة بدونه، فكان- لذلك- أول ما نادى به هذا الدين، في أول آية نزلت من كتابه المبين؟ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ولكن يجب أن لا يغتر الأغنياء أو العلماء، فلا عبرة بمجرد الغنى أو العلم، وإنما العبرة بالنفع في الغنى والعلم، وهو ما يصرح به صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذ قال عن صاحب المال:(فسلطه على هلكته- إفنائه- في الحق) وإذ قال عن صاحب الحكمة- أي العلم-: (فهو يقضي بها ويعلمها).
أما الغني لحب التفوق والاستعلاء، والعلم لحب الظهور، وللجبروت والطغيان (وللعلم طغيان كطغيان المال) فلا يجلبان إلا الحقد والبغضاء من الناس، والسخط والمقت من الله، وتلك هي التبعة بلا ثمرة، والتجارة بلا ربح، وهو ما وقع فيه أكثر أغنيائنا، ومعظم علمائنا:(وما تصنع بالسيف إذا لم تك قتالا؟) وبعد، فإن الحسد آفة من آفات المجتمع التي تفتك بوحدته وتنخر في هيكل تضامنه، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الوحدة والتضامن ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى مقاومة هذه الآفة والتطهر منها، وقانا الله شر الحسده.