الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجب أن تكون لنا شخصية
لم أستطع أن أشق طريقي في الزحام الشديد الصاخب حول باب المكتب الفرنسي الذي سد الطريق على المارة، والذي يتألف أكثره من العائلات الإسلامية، وخاصة من الأمهات الآخذات بأيدي أبنائهن وبناتهن ينتظرن فتح الباب والإذن بالدخول. ذلك لأن هذا اليوم يوم افتتاح السنة الدراسية، للمكاتب الفرنسية.
لم أنكر هذا المنظر فمد ألفته عيني وتعودته نفسي، منذ عرفت أن اللغة السائدة هي اللغة الطارئة على البلاد، لا لغة البلاد التي عوملت معاملة اللغة الأجنبية وحوكم معلمها محاكمة المجرمين المعتدين.
هي لغة الحاكم الذي يوزع الغذاء والكساء والمأوى، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي لغة ويميت أخرى، ويطلق لسانا ويعقل آخر.
لم أنكر هذا وشبهه فهو دستور الإستعمار، منذ عرف الإستعمار، وقانون القهر والغلبة منذ وجد في هذه الدنيا قوي وضعيف، وحق وباطل، وغالب ومغلوب.
إنما انكرت أن لا يكون مثل هذا الزحام على المدرسه التي تعلم العربية والإسلام، وهي الأولى بذلك لأنها الأصل والأساس، بالنسبة لأبناء العربية والإسلام، ولأنها - كذلك- المورد الذي لا يشوبه كدر ولا يغص شاربه، ولأن لغة الأمة هي رأس مال الأمة، فالإحتفاظ بها احتفاظ برأس مال الأمة.
أنكرت عليك- أيها المسلم- أن تعين على قتلك من يريد قتلك، وتساعده على وضع العراقيل والعواثير في طريق خلاصك وفوزك.
إني لا أنكر أن يكون لك عشر لغات، لا لغة واحده.
"فكل لسان في الحقيقة إنسان"
وكما يقول الشاعر، ولكنني أنكر أن تقطع لسانك وتضع مكانه لسان غيرك، فتبقى بدون لسان إذ لا يغنيك عن لسانك أي لسان.
إنك- يا أخي- إذا أضعت هذا اللسان تكون قد أضعت معه دستور القرآن الذي جعله الله مناط سعادتك، إذ قال:{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} وأضعت معه تراث نبيك الكريم وتاريخ أجدادك العظيم، وقطعت صلتك بكل ما يقوي كيانك ويقوم شخصيتك، لأن اللغة العربية هي مفتاح ذلك كله، وقد رأينا بأعيننا كيف أن من أضاعها فقد أضاع ذلك كله.
وإنما أسجل هذا كله وأضع نفسي تحت مسئوليته الثقيلة لأني- كما شاهدت افتتاح السنة الدراسية للمدارس الفرنسية- شاهدت كذلك افتتاح السنة الدراسية للمدارس العربية ورأيت الفرق الكبير، والبون البعيد، بين هذه وتلك، فبكيت على العربية التي كانت لغة العالم المتحضر، يوم كان هذا العالم لا يعرف من العلم والأدب والفلسفة والطب والحكمة إلا ما جاء من طريق هذه اللغة التي نقلت كل تراث اليونان الخالد وهذبته وأضافت إليه وحملت أشعته إلى أرجاء الدنيا كلها فوق ما حملت إليها من وحي السماء وحكمة إمام الأنبياء، ثم أصبحت غريبة في عقر دارها، تحارب من أبنائها كما تحارب من غير أبنائها، ورأيت ما يذيب لفائف القلوب حسرة، وينزف دموع العيون رثاء: رأيت المدرسه العربية ذات الثلاثة فصول، لا يؤمها من أبنائها - يوم افتتاحها- أكثر من عشرة متثاقلين متباطئين {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} بعضهم بدون كراس والآخر بدون قلم، وأكثرهم على حالة من التشعث والفوضى ورداءه الثياب، تعرب عن زهد آبائهم وأمهاتهم في هذا التعلم الذي يرونه تعلما لا يشبع ولا يروي ولا يكسو ولا يؤوي، والذي لا يضطرهم إليه إلا حماية أولادهم من طوارىء الشعوارع وحماية بيوتهم من سوء أخلاقهم في أيام عطلة
المدارس الفرنسية بينما شاهدتهم عند ذهابهم إلى المدارس التي تهوى إليها أفئدتهم على أتم استعداد وأجمل هندام، وأثمن لباس.
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على موت الشعور القومي، وانعدام الروح المعنوية للأمة، واندغام الشخصية الإسلامية، في شخصية غيرها، جد غريبة عنها، وهذا أخطر ما يصيب أمة تسعى للتخلص من عبوديتها والتحرر من قيودها.
فيا أيتها الأمة: حسبك هذا الهوان بعد العزة، وهذا الإنحطاط بعد الرفعة، وهذا الصغار بعد العظمة، وهذا الموت المعنوي بعد الحياة التي لم يستمد العالم الأرضي حياته الكاملة إلا منها. أيتها الأمة: إن الذي لا يحترم لغته لا يحترم نفسه وإن الذي لا يتعلم لغته لا يشرفه أن يتعلم لغة غيره، وإن الذي يكرم ضيفه بما يهدر كرامته ويرغم أنفه ليهين نفسه بمقدار ما يكرم ضيفه، وإن أرخص حياة لهي حياة المستعبدين العناة تحت وطأة المستبدين العتاة، وإن أول استقلال يجب أن تهدف إليه أمة مثلك هو استقلال الشخصية، فإذا أضاعت هذا الإستقلال، فلن يفيدها بعد أي استقلال، وإذا حصلت هذا الاستقلال فقد أصبح في متناولها كل استقلال.
فلا تأت البيت من غير بابه!. وفقك الله وجعلنا فداك.