الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجارة
من طبيعة الإنسان أنه طالب ربح، ومن هنا كانت آماله الواسعة ومطامعه البعيدة ومناوراته الكثيرة، ومن هنا كان شرهه العظيم، وحرصه الشديد، ولكنه- لجهله وغباوته وأثرته وأنانيته- كثيرا ما يؤدي به طلب الربح إلى خسارته، في دنياه وآخرته، ولنظره القصير كثيرا ما يؤثر التافه الحقير على الأهم الكثير، ويختار ما هو أدنى على ما هو خير، وما يفنى على ما يبقى لأن من طبيعة الإنسان- كذلك- أنه مولع بطلب العاجل، وإيثاره على الآجل ولو كان أعظم وأدوم، وذلك معنى قوله تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ولا عجب فالله- أيضا يقول: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فالإنسان- إذن- تاجر يطلب الفائدة المعجلة ولو كانت يسيرة، على الفائدة المؤجلة ولو كانت كثيرة، والإسلام لا يصادم الفطرة لأنه دين الفطرة، ولا يقف في طريق ربح الإنسان، لأنه لم يشرع إلا لسعاده الإنسان، بل يعينه على تحقيق ربحه ويمهد له السبيل إليه، بل يدعوه دعوة صريحة ويحثه عليه، إذ يقول تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} ويقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} بل إن الإسلام- في ذاته- متاجرة مع الله، نعم إن الإسلام تجارة لها ربح ورأس مال، كما لكل تجارة، بل إن هذه التجارة لها ربحان، ربح معجل وآخر مؤجل في مقابل رأس مال يسير المؤونة لا يشق على أحد، لأن الله أرحم بعباده الذين خلقهم، من أن يكلفهم بما لا تسعه طاقتهم، ولقد أجمل هذه التجاره في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}. فقوله {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} ؟ فيه تشويق إلى العمل الصالح المثمر، كما تثمر التجارة الرابحة التي اتبعت فيها طرق التجارة الصالحة ووسائلها الناجحة، وقوله:{تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فيه تخصيص لهذه التجارة وتمييز لها عن هذه التجارات التي تتغلب فيها الأنانية والشهوات الحيوانية فتهلك أصحابها بدل أن تنجيهم، وقوله:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} هذا هو رأس المال لهذه التجارة، وقوله:{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} هذا هو الربح المؤجل لها وهو الربح الأوفر، ولذلك عقب عليه بقوله:{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} هذا هو ربحها المعجل، وهو الذي تؤثره النفس وتتعلق به ولذا قال:{تُحِبُّونَهَا} لأن النفس مولعة بحب العاجل و {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} .
فيا طاليا للربح مولعا بالتجارة: ها هي تجارة مضمونة الربح مأمونة الخسارة، مربحة في العاجل والآجل وهي لا تكلفك إلا أن تتطهر من ذنبك وتتصل بربك بإيمانك به وطاعتك له، وجهادك في سبيله بنفسك ومالك فتتغلب على أهوائك وأعدائك، ومتى تغلبت على أهوائك وأعدائك فقد أصبحت سيد العالم وخليفة الله في الأرض كما أراد الله لهذا الكائن الممتاز أن يكون، لاسما وأنت من خير أمة أخرجت للناس، أما إذا كنت عبدا لأهوائك فإنك ستبقى عبدا لأعدائك، وستعيش مغلول اليدين لا تعرف الحرية معصوب العينين لا ترى النور، مختوما على فمك لا تترنم بأغانيك ولا تسمع الكون أناشيد الحرية والحق والجمال.
- إذن- فمدار الأمر على هذه التجارة، إذ فيها ربح الدنيا والآخرة، ورضى الله والناس والنصر القريب على العدو الداخلي وهو النفس، والعدو الخارجي، وهو المستعمر فانصر الله ينصرك وتاجر مع الله يربحك {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}