الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حول سفر الحجاج
كنت قريبا من شابين مثقفين يتحدثان بإزاء إحدى السيارات التي تنقل وفود الحجاج إلى البقاع المقدسة- عندما جئت لتوديع صديق من بينهم- وكان حديث الشابين يتناول موضوع هؤلاء الحجاج وتهافت أكثرهم على فريضة الحج دون غيرها مما قد يكون أوكد منها وأحق بالأداء فقلت: هذا موضوع طريف لا أبخل به على القراء الكرام.
قال أحد الشابين: ألا ترى- ياصاحبي- إلى هذه القطعان البلهاء من أبناء
وطنك كيف يتدافعون تدافع أمواج اليم حول هذه السيارة التي وقفت تنتظرهم لتحملهم كما تحمل البضاعة الرخيصه إلى أراضي الحجاز النائية؟ فأجابه الشاب الثانى مؤنبا: دع عنك هذا الكلام وطهر لسانك من الوقوع في أعراض ضيوف الله ووفود البيت الحرام، وماذا عليهم في القيام بشعيرة من شعائر الإسلام؟
- الأول: لا يا سيدى إن أكثر هؤلاء لا يفقهون معنى لشعائر الإسلام، وهب
أنهم على أتم علم بها أليس في شعائر الإسلام ما هو أحق بالتقديم وأولى بالعناية ولاسيما في بلد كهذا لم يزل في بداية الطريق ولم يزل يعيش بمعزل عما تتمتع به سائر الأمم من حياة العزة والكرامة، وهذه الأموال الطائلة التي يبعثرها هؤلاء السذج البسطاء لو جمعت في كل عام لأنقذت هذه المشاريع الضرورية من الموت الزؤام؛ وإنك لو سألت واحدا من هؤلاء المغفلين مائة فرانك لبناء مدرسة حرة يتعلم فيها أبناؤه لما أجابك إلا بالرفض المشفوع بالآنتهار أو بالشكوى من الافتقار.
- الثاني: ولكن لا تنس أن أهل تلك البقاع قد جعل الله أقواتهم من أموال
هؤلاء البسطاء الأغرار، لأن جيران البيت الحرام يقيمون بواد غير ذي زرع وإن في
تدفق المسلمين عليهم من كافه بقاع العالم الإسلامى لاستجابة لدعوة جدهم إبراهيم عليه السلام إذ قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}
- الأول: كيف بك لو علمت أن كثيرا من هؤلاء لم يكن حجه واجبا لأنه قد حج الواجب والسنة والمستحب، ولم يبق له إلا المكرره أو الحرام، نعم الحرام. لأن السنة إذا عاقت عن أداء الواجب كانت حراما، وهؤلاء الذين يحجون للسنة بعد أداء الحج الواجب ألا نحتاج أموالهم لأمور أخرى واجبة وجوبا تتوقف عليه حياة الأمة وتتكون منه الخطوط الأولية لسعادة البلاد، كالتعليم بكافة فروعه ومراحله وكيف وهؤلاء- إلا القليل منهم - لا ينتفعون بحجهم لأنهم لا يعرفون من الحج إلا مظاهره وشكلياته التي لا توقظ شعورهم ولا تهذب سلوكهم ولا تغير من نفوسهم شيئا- بل على العكس- رأينا الكثير ممن عاد من حجه أحرص ما كان على الدنيا وأزهد ما كان في نفع أمته.
أما أن يذكروا بالحج ما كان لهم من مجد في هذه الدنيا نبتت أصوله في
تلك التربة الكريمة، وأشرقت شمسه من ذلك الأفق الحبيب، كيف سعدت تلك البقاع الطاهرة بمولد الإسلام في رحابها كيف كانت موطئا لأقدام نبي الإسلام وأصحابه الأعلام الذين حملوا مشعل الهداية إلى سائر الأنام، وركزوا في كل موضع من العالم راية الإسلام، وأن هذا كله لم يبق منه للمسلمين إلا لهفة الذكرى في كل عام، وإنه يجب التفكير في عودته، وأن المسلمين- لذلك- يجب أن يتصل بعضهم ببعض من مختلف الجهات والبقاع ويتفاوضوا فيما بينهم ويتدارسوا مشكلاتهم، ويعودوا إلى بلدانهم لتحقيق ما أجمعوا عليه، فهذه كلها أمور لا تخطر لهم على بال.
وطال الجدال بين الشابين بحيث لم يسعني وقتي لسماع بقية الحديث.
والعبرة التي نستخلصها من موقف الشابين هي أن المسلمين أصبحوا يشعرون بحالهم ويهتمون بمشاكلهم، وأن هؤلاء الحجاج يجب عليهم أن يعرفوا الواجبات الأخرى ولا يقتصروا على الحج وحده، ومن أدى الحج الوجب فالأولى له أن لا يحج
مرة أخرى، وإنما يجب أن يقوم بالمساهمة في الواجبات الأخرى التي تنتظره في بلاده، ومن ذهب منهم إلى الحج فيجب أن يذهب بقلبه ليعود بروح جديدة وفكرة جديدة واستعداد للخير جديد.
أيقظ الله شعور المسلمين.