الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توجيهات قرآنية في التربية والسلوك
أي شيء يحسم الشر من أساسه كهذه الخطة التي يدعو إليها القرآن، التي تجعل العدو صديقا- وصديقا حميما- بهذه السهولة وبهذه البساطة، والتي لا تكلف صاحبها إلا أن يأخذ بالجانب الذي يأخذ به الأكياس العقلاء، وهو الجانب المضيء لا المظلم، والجانب الحسن لا السيء، جانب الخير والفضيلة والآنتصار على النفس والهوى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وما أيشرق هذا الأفق وما أكرم هذه الخطة التي يدعو إليها كتاب الله، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} هذه الخطة التي تجعل كلا من الوسيلة والغاية حسنا، وتجعل الإنسان لا يخسر شيئا ويربح شيئين وهما: أن ينقلب عدوه صديقا، وأن يتمسك هو بالجانب الخير الذي يجعله سيد نفسه وسيد الآخرين، وما أقربه أسلوبا إلى المنطق والبداهه، هكذا:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، وأي عاقل لا يسلم بهذا الحكم والمنطق البديهي، فينكر أن الخير والشر ليسا سواء؟
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} س: (القصص) إنها لفتة عجيبة أن يختار موسى هذا النوع من شكر النعمة وهو أن لا يعين مجرما على إجرامه ولا ظالما على ظلمه، وهو توجيه قرآني عظيم في قطع دابر الشر، واستئصال جذور الفساد، وخنق أنفاس الظلم، وقطع التعاون على العدوان والإثم، فما كان للشر
أن يعيش لو لم يجد أعوانا عليه، وما كان للظلمة من قدرة على الظلم لو لم يجدوا أذنابا يزينون لهم أعمالهم العدوانية وأغتصابهم لحقوق شعوبهم والعبث بمقدراتهم ومقدساتهم، وإن التعاون الذي جعله الله إحدى قواعد العمران، إنما يكون على الخير لا على الشر، وعلى الحق لا على الباطل، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
ومن التعاون على الشر، السكوت عنه والرضى به، وترك الأشرار يعيثون في الأرض فسادا وهذا مثل فعل الشر نفسه مستوجب لسخط الله وغضبه وعقابه قال تعالى. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} .
وأوحى الله إلى يوشع بن نون أني مهلك من أمتك ستين ألفا من شرارهم، وأربعين ألفا من خيارهم، قال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: لأنهم لم يغضبوا لغضبي وآكلوهم وشاربوهم.
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} س: (البقرة) هكذا يحارب القرآن شح الأنفس ويدعو إلى البذل الذي هو أحد شقي سيادة الإنسان، وهما: البذل والحلم:
ببذل وحلم ساد في قومه الفتى
…
وكونك إياه عليك يسير
فإذا كانت الكلمة الطيبة تجعل العدو صديقا كما تقدم عند قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، فإن البذل في سبيل الله يخلفه الله على صاحبه مضاعفا إلى سبعمائة ضعف كما قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، ومن ثم فهو بذل أشبه بالأخذ، لأن الباذل بهذا الاعتبار لم ينقص من ماله ولكن زاد فيه، ومن ثم سماه الله قرضا أي سلفا، ولما كانت النفوس مطبوعة على الشح وهي لا تدفع شيئا إلا رغبت في أن تأخذ عليه فائضا كما يطلب التاجر وكما يطلب المرابي، فإن الله أغرى هذه النفوس بهذه الزيادة والفائض على ما بذلت في سبيل الله، وهو نوع من المتاجرة مع الله، التي دعت إليه الآيات القرآنية الكريمة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ومثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فأي عاقل يحب الخير لنفسه يري مثل هذه الصفقة الرابحة ويعرض عنها، وتتاح له مثل هذه الفرصة الكريمة ويدعها تفلت من يديه؟ ولهذا كان أصحاب رسول الله الذين جعلهم الله خير قدوة لهذه الأمة عندما نزلت هذه الآية:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (يتسابقون) إلى البذل. كما روى الطبراني وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله! إن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي وله فيه ستمائة نخلة.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (سورة فصلت)
إن القرآن يولى الناحية الأخلاقية عناية كبرى، بل إن هذا الكتاب العظيم هو الينبوع الثر، والمدرسه الأخلاقيه العليا، التي تخرج منها رسول الإنسانية وتلقى عنها أخلاقه السامية، كما تشير إلى ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عندما سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:"كان خلقه القرآن" وكما تحدث بذلك هو نفسه- شاكرا فضلا الله عليه- فقال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي"، أي بما أوحى إليه من مثل هذه الآية:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
بل إن هذه الآية وحدها لتعدل دستورا من الأخلاق كاملا، حتى إنه روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال:(ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية).
ويبين سمو ما تهدف إليه هذه الآية، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن معناها فقال:(يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك).
والعفو (أو الحلم) هو سيد الأخلاق، ومن ثم يجب أن يتحلى به السادة لأن العفو سيادة على النفس وارتفاع وسمو على مطالبها ورغباتها، ولا سبيل إلى السيادة قبل هذه السيادة على النفس إن العدل حسن ولكن العفو أحسن لأنه بدل أن تأخذ حقك بمقتضى العدل تتخلى عنه وتتفضل به بمقتضى الإحسان والعفو، ولذا قال تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ومما يوضح ذلك ما يروي من أن حربا حاطمة وقعت بين حيين من العرب كادت تبيدهما معا فأفزع هذا المصير بعض سادة العرب المحنكين، فوقف بين الصفين وقال: ما تريدون؟ أتريدون الحق أو ما هو خير من الحق؟ قالوا: وما هو خير من الحق؟ قال: العفو! فما كان من الفريقين إلا أن أعادوا السيوف في الأغماد، وتبادروا إلى التسليم على بعضهم بعضا. وإن الفرق بين العدل والعفو- بعبارة أخرى- أن العدل أخذ والعفو عطاء، وشتان ما بينهما، ومن هنا سمى الله الزائد على العدل إحسانا، في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} ، ومن شرف الإسلام وسمو مبادئه، أنه يأمر بهما معا، كما تشير إليه الآية المتقدمة، ولكن ما حال شعب أفلس منهما معا؟ أما الشعب الذي يتفيأ ظلي العدل والإحسان ويتغذى بثمارهما الشهية، فهو بمنجاة من هجير الحياة، وفي بحبوحة من رغد العيش، وذلك من حظ الشعوب التي تجعل من الإسلام دستورها ومن تعاليمه السامية منهجها في الحياة.
وهذا الخلق العظيم- خلق العفو والحلم- ينبع من خلق آخر، وهو الرحمة، التي تنبع هي الأخرى من المعرفة بالضعف الإنساني، الذي يستوجب الرحمة، وعظمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومفتاح شخصيته، تقوم على هذا الخلق الذي وصفه الله به في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وفي قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ووصف هو نفسه، إذ قال:" أنا رحمة مهداة" وحسب هذا الخلق مكانة وركانة أن الله يعزو، إليه نجاح محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته إذ يقول:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} .
وبما أن هذا الخلق هو الصخرة التي ترتكز عليها عظمة محمد صلى الله عليه وسلم والينبوع الذي تتفرع عنه جداول أخلاقه الأخرى، فإننا نلحظ أن الله يحاسبه عليه كلما رآى منه أقل انحراف عنه، مثلما فعل في قصة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى
حين طلب إليه، وألح في الطلب، أن يعلمه مما علمه الله، في الوقت الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم متصديا لإقناع بعض سادات قريش، فكان منه صلى الله عليه وسلم ما عبرت عنه أوائل سورة (عبس) بهذا العتاب الإلاهي الزاجر، الذي بقي درسا خالدا خلود القرآن فيما يجب أن يكون عليه رجل الدعوة، من التواضع والرأفة والرفق والصبر وسعة الصدر:
ومما يدل على تأثير هذه الحادثة على وجدان النبي صلى الله عليه وسلم وقوة انطباعها في نفسه، وعلى مدى صدق عائشة رضي الله عنها في قولها عن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان خلقه القرآن) ودقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان كلما لقي ابن أم مكثوم بعد ذلك يقول:"مرحبا بمن عاتبني فيه ربي".
ومثلما فعل في غزوة أحد عندما استشهد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ومثل به الأعداء وقال عليه الصلاة والسلام: "أما والله لأمثلن بسبعين منهم" أنزل الله عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} ذلك لأن موجهه القرآن لا يريد أن يتخلى عن هذا الخلق الذي ترتكز عليه شخصية الداعية الناجحة وهو خلق الصبر والأناه، خلق الرحمة والشفقة، والمثلة ضد الرحمه على خط مستقيم، كيف وهو قد بعث رحمة للعالمين؟
غير أن من تمام التربية المثلى والتوجيه الرشيد أن تتخلف هذه الرحمة في بعض الأحيان وأن يأمر الله نبيه- نبي الرحمة- بغير الرحمة! بالغلظة! وذلك فيما إذا وصل الأمر إلى المبادئ: إلى صميم العقيدة، إلى كيان هذا الدين الذي أراد الله له الحياة، لتتجمل وتكمل به الحياة، ويستقيم سير الأحياء، فيقول له:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} .
وعندما أبقى النبي صلى الله عليه وسلم على حياة أسرى بدر، وقبل منهم الفداء بعد أن استشار أصحابه فأشار قسم منهم بقتل الأسرى، وفي طليعة هذا القسم عمر رضى الله عنه، وأشار قسم آخر بالعفو عنهم وقبول الفداء، وفي طليعة هذا القسم أبو بكر رضي الله عنه، ومال نبي الرحمة إلى الجانب الذي فطره الله عليه وهو الرحمة، كان العتاب من الله شديدا تعلنه هذه الآيات التي نزلت في هذه القضية الخطرة:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ذلك لأن هؤلاء الأسرى الذين أظفره الله بهم، تكرمة منه وقطعا لدابر الشر، هم الذين وقفوا في سبيل الدعوة قبل ذلك وهم الذين سيقفون في سبيلها بعد ذلك، فليس من صالح الدعوة أن يتركوا.